رواية طائر النمنمة الفصل الرابع 4 - بقلم ملك العارف
"طائر النمنمة"
"الفصل الرابع: إنما للصبر حدود"
في أحد أكبر القاعات النيلية اجتمعت عائلة العروسين و جمع كبير من الضباط و المناصب العُليا في حفل راقي من يراه يظنه خرج من أحد الأساطير القديمة
وعلي منصة الرقص وقف العروسين يرقصان بمفردهما بينما علي الجانب الأخر كان يبحث هو عن زوجته بقلق، اختفت من بين الجموع منذ نصف الساعة يبحث عنها ولا يجدها، تقدم نحو والدته يسألها فأجابته:
قالت مخنوقة ومصدعة، ممكن تكون خرجت بره بعيد عن الدوشة و جاية.
ما قالته والدته اشعل الفزع بقلبه، خشي أن يصيبها مكروه
دقيقتان وكان يقف في مدخل القاعة يتطلع يمينًا ويسارًا بقلق، حتي نظر أمامه، للجه الأخري من الطريق، كانت تقف بمفردها و توليه ظهرها، عبر مسرعًا نحوها ولا زال القلق ينهشه، ما أن وقف خلفها حتي جذبها من ذراعها يتفحصها، قائلًا:
أنتِ كويسة، إيه اللي خرجك من القاعة وحدك، وليه مقولتيش.
لاحظت يده التي يمررها فوق رقبتها بقلق، وكأنه لازال محجوزًا في تلك الليلة، ابتسمت بسخرية قائلة:
طه فوق، أنا آية، مش نانسى.
تصنع عدم الفهم بقوله:
نانسى مين؟
نفضت ذراعيه وهي تهم لعبور الطريق عقب قولها الغاضب:
نانسي اللي أنت قتلتها.
لم تنتبه لتلك السيارة القادمة بمحاذاتها صرخت بفزع وهي تري السيارة قادمة نحوها بأقصي سرعتها، لم تشعر بشيء بعدها، ولكنه رأها، رأها وهي تصدمها وتُطيح بها أرضًا غارقة بدمائها وفاقدة للوعي ولا يملأ الأجواء سوي صخب الحفل في الجهة المقابلة وفي هذه الجهة صوته وهو يصرخ بإسمها:
"آية"
أيعيش الكابوس مرتين؟ لكن هل سيتحمل هذا الكابوس كما تحمل السابق، لا يعلم، لكن ما يعلمه أن فؤاده هو الذي سقط أسفل إطارات هذه السيارة
هرول ناحيتها بقلبٍ صريع ارتعش كفاه وهو يرفع رأسها عن الرصيف يسندها لفخذه برقت عيناه وهو يري الد،ماء تنزف من عنقها بشكل غريب:
لا، لا، مش هتمشي دلوقتي لا، مينفعش بقولك مينفعش.
نظرت له وهي تهمس بإسمه، ومن ثم لفظت أنفاسها الأخيرة وسقطت رأسها للوراء، هز رأسه رافضًا بشدة ويكرر
لا يا آية لا...
رفع رأسه للسماء وقد إلتمعت بعيناه الدموع وصرخ
يا رب علشان خاطري هي لا، آية قومي يلا.
كان ينتفض في الفراش ويهزي بحديثٍ غير مفهوم، بينما هي كانت تقف بالقرب من الفراش تحاول أن تتبين ما أصابه مدت كفها توقظه من كابوسه الذي سقط به عنوة، ما لبث كفها يلامسه حتي انتفض صارخًا بإسمها وقبض فوق كفها بشدة، صرخت هي أيضّا من حركته المفاجئة، جلست فوق طرف الفراش واضعة كفها فوق قلبها قائلة:
بسم الله الرحمن الرحيم، وقفت قلبي، أنت كويس؟
لم يتفوه بكلمة بقي ينظر لها و هو يلهث وكأنه شرد في الصحراء ظهرًا، نهضت تجذب كوب الماء المجاور للفراش ولكن حال ذلك كفه القابض فوق معصمها عادت لوضعها السابق و وضعت يدها فوق قلبه بتردد وهي تهمس:
بسم الله على قلبك حتي يهدأ، بسم الله علي قلبك حتي يطمئن، في أي شوفت إيه؟
جذبها أكثر نحوه مرر كفه فوق رقبتها حتي وجهها ابتلع لعابه براحة وهو يهمس بسؤاله:
أنتِ كويسة؟
هزت رأسها مؤكدة:
أنا كويسة.
كررها خلفها ليتأكد داخله، اغمض عيناه وهو يعود للخلف مسندًا ظهره علي الوسادة خلفه وقد انتظمت أنفاسه
نهضت هي تجذب الكوب مدت له كفها وهي تمازحه:
طلعت خفيف أوي يا طه، كابوس يعمل فيك كل ده!
ابتسم بسخرية وهو يلتقط الكوب يرتشف منه بهدوء قائلًا:
اللي ميعرفش يقول عدس فعلا.
ضحكت وهي تنهض تكمل تمشيط شعرها الذي بقي في منتصفه، وسألته:
إيه اللي حصلي؟ كنت بتقول اسمي و صرخت بيه.
هرب بعيناه عنها وهو ينهض من الفراش دون إجابة
بينما بقيت هي تنظر لأثره بحزن، لازال الجفاء صديقًا له، وصمته هو رابط هذه الصداقة
كانت تتخبط بين جنبات عقلها بحيرة لا تدرِ للخلاص من حيرتها سبيل، لازال عقلها يدق أجراس الخطر يدفعها للفرار بعيدًا عنه، لكن تلك الغصة العالقة بقلبها تأبى تركه، نظرت للمرأة بشرود، همست:
يا ريتني سمعت كلام بابا لما قالي لو عايزة تنفصلي مش همنعك، ياريتني ما اتعلقت بيه و بوجوده، أنا مش عارفة ليه قلبي واجعني كده، ولا قادرة أكمل، و لا قادرة أبعد، يا رب دلني.
★***★***★***★***★***★***★***★***★***★
إنه الفطور الأخير لها هنا ببيت أبيها قبل زواجها، هذا ما حاورت به شهد نفسها سرًا بعد أن جلست بصحبة عائلتها يتشاركون طعام الفطور، كان الجميع يرتدي صمته و كأنه طقس متوارث لديهم، لكنها قطعته بقولها:
واخدين بالكم إن دي اخر مرة هفطر معاكم فيها هنا ولا مش فاكرين أصلًا.
ابتسمت آية بحزن، بينما صوت بكاء والدتها هو ما جذب الأنتباه، هتف طه بضيق:
و أنتِ رايحة النرويج يعني، لازم نبين قد إيه إحنا زعلانين لفراق الملكة.
عبست ملامحها بضيق هي الأخرى لما قاله، بينما نظرت له آية بعتاب لم يبالِ هو به:
أنا مش هرد عليك يا طه، أنت مش أخويا قولتلك قبل كده، الراجل الطيب و الست المحترمة دول لقيوك علي باب جامع أصلا مش كل شوية بقي هفكرك.
أشاح لها بيده بلا أهتمام، بينما نهضت هي تحتضن والدتها تمازحها بحديثها:
خلاص بقي يا ماما والله كنت بهزر، ده أنا و أمير هنبقي لاجئين عندكم هنا، أنتِ مفكرة هتخلصي مني بسهولة ولا إيه؟!
غمزت لـ آية التي تجلس بمحاذاتها تكمل لإثارة غيظ أخيها:
و هنعدى ناخد آية معانا ونسيب الواد ده لوحده.
نفخ الهواء من فمه بضيق، الجميع يظنه مغتاظًا من حديثها، لكنه وحده يعلم أن فكرة زواجها و رحيلها عن بيت أبيه و العيش مع شخص أخر يكون مسؤولًا عنها غيره هو و والدهما تثير في نفسه حزنًا حتى و إن كان زوجها هو رفيقه و بينهما قرابة، إلا أن غيرته على أخته الصغيرة لا يمكنه التغاضى عنها، نهض يجمع مفاتيحه و هاتفه بجيبه ويهم بالرحيل ولكن اوقفته أخته:
رايح فين مش قولـ...
قاطعها موضحًا ونبرة غاضبة بعض الشيء:
هخلص مشوار و رايح لـ أمير، ركزي في تجهيزاتك و ملكيش دعوة بيا بقي.
ورحل دون رد منها، يشعر بالضيق الشديد، القلق يعزف على أوتار عقله ألحانًا تدب الخوف بفؤاده، ذلك الكابوس الذى رأه في نومه لا يروح عن باله لحظة، يخشى أن يصيبها أي مكروه، لازال يتردد في أذنيه صوت صراخها و كأنه حقيقى
★***★***★***★***★***★***★***★***★***★
وصل إلي مكتبه بعد قيادة متهورة بالسيارة كادت أن تودي به دون أن يدرك، جلس فوق مكتبه بتثاقل لا يقوى على فعل أي شيء حتى أنه لا يذكر السبب الذى جاء به إلى هنا، أسند رأسه فوق مكتبه و ذهب عقله ليوم بعيد بعض الشيء
________
أولُ يومٍ خرجت فيه برفقته بعد أن تمت خطبتهما رسميًا، كان صامتًا جامدًا، عكسها هي، كانت تنبض بالحيوية، وصل إلي أحد المقاهى المُطلة علي النيل و الذي أختارته هى استقر كُل منهما بمكانه وبقيت هي تنظر له تنتظر مبادرته بالقول و تبادل أطراف الحديث، لكنه لم يفعل، حتى شعرت هي بالضيق و أخذت تتململ في جلستها بينما لم يُحد هو بصره عن منظر النيل أمامه، قطع هذا قدوم النادل، طلب كل منهما قهوة، وجدتها فرصة جيدة لفتح حديث فسألته:
أنت بتحب القهوة و لا طلبت زيي وخلاص؟
نظر لها و بقي صامتًا لدقيقتين، رفعت حاجبيها متعجبة و ما لبثت أن تكرر قولها فنطق هو:
أنا مش بشرب حاجة غير القهوة.
كان لديها الكثير من الردود على وقاحته هذه لكنها فضلت الصمت، غريب الأطوار، هذا ما تأكدت منه، لا يهم ستشرب قهوتها و تطلب العودة للبيت، لا يمكنها تحمل كل هذا البرود، كثيرٌ عليها هذا
بعد مرور ساعتين صف سيارته أمام منزلها و انتظر منها أن تنزل، و لكنها رسمت ابتسامة صفراء و تحدثت ساخرة:
ميرسي جدا على الخروجة التحفة دي، مش مصدقة إننا أتكلمنا الوقت ده كله، أنا أول مرة في حياتي أتكلم كتير أوي بالشكل ده، حقيقي خروجة أتمناها لـ ألد أعدائي.
بقي ينظر لها دون أن ينبث ببنت شفه حتي سألها ببرود رافعًا حاجبيه:
و أنتِ عندك أعداء؟
زمت شفتيها بغيظ وهي تهز رأسها بالإيجاب مؤكدة:
أيوة طبعًا، و أنتَ أولهم.
ابتسم ببرود وهو يدير محرك السيارة، بينما هي خرجت من السيارة وقد اغلقت الباب خلفها بقوة تنم عن غضبها الشديد
______
فاق من شروده و لازال مبتسمًا، انتبه لرنين هاتفه الذي انقطع لتوه و من ثم عاد يضيء من جديد، إلتقطه مبتسمًا وقال مشاكسًا:
إيه ياعريس، نموسيتك كحلى ولا إيه؟!
قهقة أمير قائلًا:
عريس بقي و براحتى ياعم و أنت مالك، إيه فينك كده؟
حك عنقه بحرج، لا يعلم بماذا يجيبه ولكنه لم يجد سوى قول الحقيقة:
أنا في مكتبى.
توقع أن يتلقى منه توبيخًا او قول غاضب كـ أقوال أخته لكنه لم يسمع إلا قهقهاته عبر الهاتف قائلًا:
بصرة، أنا كمان في المكتب، في ورق قضية لازم أسلمه للمقدم مدحت قبل ما أسافر.
ما جعله يسأله بمكر:
و ياتري بقي شهد عارفة الكلام ده؟
اعتدل في جلسته مرتابًا وهو يحدثه بتحذير:
طه اوعي تقولها أنا مش حمل أختك و نكدها بالذات النهاردة!
رد عليه بتسلية:
و الله هفكر.
ألح عليه في قوله:
طه متهزرش، أنا نصاية كده و هتحرك، هبقي أكلمك علشان نتقابل و نروح علي الفندق مع بعض.
انتهي عمله الذي جاء لأجله و ها هو الأن يقف أمام المرأة يغلق أزرار قميصه بعدما تأكد بأن رفيقه تجهز تمامًا، كان ينظر لرابطة العنق أمامه علي الطاولة بضيق، من أين له أن يأتي بها الأن، اقترب منه أمير غامزًا وهو يضع يده فوق كتفه:
مش هتعرف تربطها ولا إيه؟
ازاح يده قائلًا ببرود:
ملكش دعوة.
ولكن الأخر اصر علي عرضه:
لعلمك أنا اسمي أمير و ساعات بيكون آية في أوقات الأزمات.
رفع حاجبه الأيمن و هتف محذرًا:
طب اهمد بقي شوية بدل ما أخليك سوسن في أهم ليلة في عمرك.
حمحم متراجعًا و اسند مرفقه فوق كتفه مرة أخري قائلًا:
طب بالمناسبة دي معندكش أي نصيحة تقدمها لأخوك؟
لم يجبه بقي صامتًا وهتف لنفسه بسخرية "كان القرد نفع نفسه"
تركه و هو يجذب هاتفه قائلًا:
هكلم آية اشوفهم خلصوا ولا لسه.
خرج من الغرفة و الأخر من خلفه يهتف منبهًا:
طب و الجرافته؟
لكنه اعطى جل تركيزه لتلك الرقيقة التى أجابت اتصاله في المرة الثانية:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
رد السلام و هتف بتلقائية:
وحشتينى.
الضوضاء هنا تكاد تصم أذنيها، نظرت حولها و استأذنت من الجميع للخروج حتى تتمكن من سماعه وقفت في الممر أمام الغرفة وعادت تتحدث:
قولت إيه يا طه علشان مكنتش سامعة؟
استفاق مما اصابه و سألها:
بقولك أخبارك إيه؟ خلصتوا ولا لسه؟
ابتسمت:
كويسة الحمد لله، أنا و طنط خلصنا بس طبعًا العروسة لسه.
تردد في الحديث و لكنها سألته كـ أم تطمئن على صغيرها الذي رفض البقاء معها لتتمكن من الاعتناء به:
أنت خلصت؟ عرفت تربط الجرافتة؟
هنا اختفى تردده و هو يتحرك بالممر مجيبًا:
بصراحة لا، معرفتش، و بما إنك خلصتي فمفيش مانع تعمليها ليا، أخرجي برة و أنا جايلك.
اجابته:
أنا بالفعل برة، تعالي.
أغلق المكالمة و أسرع هو بخطواته حتي و صل للممر الذي كانت تقف بمنتصفه، انخفضت سرعته و هو يراها في أبهي صورةٍ لها، لامعة دومًا و تحيطها هالةً من نور لا يعلم أ يراها الجميع أم هو فقط، فستانها الرقيق ذون اللون الفيروزي قدها المياس، و حجابها الذي ماثل الفستان في اللون ابتسامتها الرقيقة التى تنظر له بها الأن، هو هائمٌ بها ولكنه لا يشعر كل مؤشّرات الخطر التى أعتاد أن تدق؛ فيبتعد، هي الأن في أوج أحوالها، لكنه لا يبالِ يود أن يقترب و حسب، يود لو يضمها إليه إلي الأبد.
بينما توترت وهي تراه يتقدم نحوها ولا يحيد ببصره عنها حتي استقر أمامها لا يفصلهم سوي خطوتين، امسك بكفها يضع به رابطة العنق، لم تنبث ببنت شفة و هو كذلك، مجرد نظرات توضح إعجابًا صامتًا و حسب، أمال برأسه ناحيتها لتضعها حول عنقه، ولازالت صامتة، منذ ما حدث صباحًا وهو يشعر بها تتهرب منه، عيناها تدور في كل مكان و لا تلتقى بخاصته، تجافيه؟ و لكن ماذا فعل، حمحم يحاول فتح أي حديث، و يبتسم ساخرًا بداخله على حالهما، كانت هي من ترجو منه الحديث و الأن انقلبت الآية و أصبح هو في موضعها، نظرت له تنتظر قوله:
هو في بنات معاكم جوا؟
هزت رأسها بموافقة وهي تعقد الرابطة، و لكن سؤاله
حلوين و لا أي كلام؟
جعلها تضيق عليه الخناق حتي سعل و هو يمسك كفيها ينزلهما قائلًا:
إيه هتموتيني
رفعت سبابته في وجهه محذرة:
أسمع بقي أنا على أخرى منك أصلًا، مش عايزة قلة أدب و عينك لو شوفتها راحت على واحدة يمين ولا شمال و الله يا طه ما هسكتلك، أنا مش كيس جوافة قدامك.
ضحك و هو يمرر أصابعه بين خصلات شعره، هادئة فى غالب الوقت، لكنها تملك روحًا شرسة تخرج إن لزم الأمر، قطع كلتا الخطوتين الفاصلتين بينهما و دفعها للحائط ممررًا يده فوق وجنتها قائلًا:
أنا نقطة ضعفي الجوافة.
نفضت يده عنها بتذمر:
أنت مزاجك رايق فـ جاي تفوق عليا صح؟...مش عملتلك البتاعة يلا شوف رايح فين.
رفع حاجبيه وعلى وجهة ابتسامة متعجبة من طريقتها:
أنا فاهم إني جوزك وكده، بس أنتِ عارفة فرق السن بيني و بينك يا كتكوتة علشان تكلمينى كده؟
ابتسمت مستهزئة:
مين دي اللي كتكوتة أهو أنت اللي ستين كتكوت،ولعلمك الست علميًا عقلها أكبر من الراجل بـ ٥ سنين يعني كل اللي بيني وبينك سنتين يا كتكوت.
زاد من اقترابه أكثر و هتف متغزلًا بها و مغيرًا للحوار بقوله:
بس إيه الحلاوة دي يا يويو!
كادت أن تبتسم بخجل و لكنها وأدتها وهي تشيح بوجهها عنه، عادت تنظر له، عيناه تنتظر منها رد تغزله و لكنها أبت أن تفعل:
إيه عايز إيه يلا عايزة أرجع للناس جوا.
رفع حاجبه مستنكرًا:
و الله، يعني مش هتقولي رأيك في البدلة؟ و لا علشان مفيهاش لون من فستانك؟!
مطت شفتيها بملل:
عادي يعنى بدلة زي أي بدلة، هقولك إيه!
تحاول بكل الطرق إفقاده ثباته و هدوءه لكنه يتمسك به حتى الرمق الأخير:
غريبة مع إن عينك دققت في كل تفصيلة فيا من ساعة ما وقفت قدامك.
و قبل أن تتحدث قاطعها و قد تبدلت نبرته للجدية:
أنا مش فاهم مالك النهاردة، أنتِ متغيرة، دي مش طريقتك ولا ده العادى بتاعك، لو في حاجة مضايقاكِ قوليها، ممكن أكون عملت حاجة زعلتك و أنا مش واخد بالى فـ قوليلي علشان أوضح موقفى على الأقل، لكن ده مش أسلوب!
نظرت بعيدًا و هى تخبره:
لو مش واخد بالك ده نفس أسلوبك، ما أنا كنت بتكلم وأهزرو أتشقلب و أنت كنت بترد ده بإيه؟ ولا حاجة، مجرد إنك مبتعملش أى حاجة، جاي مستغرب ليه دلوقتي معترض إنى بعاملك بنفس طريقتك، مش ده اللى كنت عايزه، إنى اسكت، أنا سكت أهو، مالك بقى معترض على إيه؟
سألها بغضب:
أنا أمتى قولتلك أسكتى، هو أى تُهم وخلاص، كفاية بقي النغمة دي كل شوية، أنا بحاول أقرب بحاول أشيل الحاجز اللى قولتي إنى بنيته بيننا، مفيش عندى زرار هدوس علىه هتحول لشخص تانى مطابق لمواصفاتك، أنتِ علطول مستعجلة، معندكيش صبر، بتحبى تهربى، أو بلاش تهربى، لكن نفسك قصير، أنتِ متخيلة إننا في يوم و ليلة هنحب بعض و نبقى أسعد زوجين فى الحياة، الدنيا مش وردية للدرجة دى يا آية؟
هزت رأسها بنفى:
أنا مش عايزة منك حاجة يا طه، متقربش و متحبنيش، مش عايزة حاجة ولا طلبت حاجة، خليك زي ما أنت، و سيبني في حالى، ما شهد و...
رفع إصبع في وجهها مقاطعًا:
متقارنيش علاقتنا بحد، شهد و أمير دول مع بعض من وهما لسه عيال كل واحد حافظ نظرة عين التانى معناها إيه منغير ولا حرف، فبلاش تحطى دي قصاد دي علشان ده أكبر غلط.
كانت تضم شفتيها بقوة تحاول كبت دموعها التى خذلتها و أنزلقت فوق وجنتها وهي تسأله بصوت متحشرج:
أنت عايز منى إيه دلوقتى يا طه، أنا مبقتش فهماك، عايز إيه؟
مرر إبهامه فوق و جنتها يزيل دموعها و اخفض رأسه يقبل هامتها ونظر بعينيها قائلًا بتروى:
عايزك كويسة، و عايزك تدينى وقت، أدينى فرصة أحاول أصلح، عايزك معايا.
أنهى جملته ورحل، رحل وتركها مشتتة و تائهة أكثر من أى وقتٍ مضى، هزت رأسها بيأس تتحدث و كأنه أمامها:
أتأخرت، أتأخرت أوى يا طه، خلاص مبقاش ينفع، مبقاش عندى طاقة.
★***★***★***★***★***★***★***★***★***★
مرت ساعات أوصلتها إلى هنا تقف جوار والدة زوجها
تصافح إحدى النساء اللاتى جئن للتهنئة بهذه المناسبة السعيدة، حتى ظهر أمامهن شابٌ خمنت كونه في نهاية عقده الثالث، و قد تزين بحلية زرقاء لامعة تناسبت مع لون عيناه و بشرته البيضاء، كان وسيمًا بحق، تعجبت من ابتسامته الواسعة التي يناظرها بها وحدها، رحبت به والدة زوجها:
أهلًا يا شريف يا حبيبى، عقبالك.
استفاق من تحديقه بها وهو يمُد يده يصافح محدثته:
أهلا بحضرتك يا طنط، ألف مبروك لشهد...
نظر لمن تجاورها و عادت له بسمته الواسعة وهو يعرض مصافحته :
ألف مبروك يا أنسة، عقبالك.
ولكن بدلًا من أن يلامس كفه يدها الرقيقة سقط له كف خشن قوى يقبض كفه بقوة:
أهلا يا شريف، عقبالك أنت بس...
أحاط خصر الواقف جواره يلصقها به قائلًا بفظاظة:
آية تبقى مراتى، شكل القعدة برة شغلاك عن أخبار العيلة.
تراجع بإحراج متمتمًا:
حقيقي أنا أسف مكنتش أعرف، عقبال ما نشوف ولادكم.
رحل بعيدًا و تركهم خلفه، نظر لها طه بغيرة واضحة وهتف بغضب:
أنتِ إزاى واقفة تضحكى و تسلمى على كل من هب ودب كده مش فاهم، أنا مش قولت تقعدى و متقوميش من مكانك.
لم تجبه نقلت نظرها بينه و بين والدته التي كانت تنظر له بغير رضا علي ما تفوه به، ورحلت مهرولة كانت في طريقها لـمنصة العروس لتشتت عقلها عن التفكير بأى شيءٍ يخصه، ولكنها تفاجئت بإطفاء جميع الأضواء عدا ساحة الرقص التى أضائت بنورٍ خفيف و توسطها الحبيبان للرقص سويًا على الموسيقى الهادئة، تراجعت فى جانب بعيد بعض الشيء حتى شعرت به يقف جواراها، تشعر بحضوره دون أن تنظر، يشعر به قلبها...ماذا قلبها؟ كيف؟
اقترب منها وهمس جوار أذنها:
أنا أسف، متزعليش.
تنهدت بقوة، هل قال أنه يتغير و يحاول لأجلها، يكفيها أن تشعر بهذا منه ولو لبعض الوقت، لا يمكنها أن تقسو عليه أكثر من ذلك، تعلم جيدًا كم يكلفه هذا الحديث، و كم يغالب عقله
ليتحدث بهذا الشكل، أبتسمت و نظرت له بطرف عيناها:
أسفك مقبول يا طه، أنا كمان أسفة على طريقتى اللي أتكلمت بيها فوق، بس مش أسفة على الكلام اللى قولته
هز رأسه موافقًا و ابتسم و هو يتحرك للوقوف خلفها، أحاطها بذراعيه بغتة وجذبها نحوه حتى صافح ظهرها صدره العريض فغابت بين ضلوعه، أسند ذقنه فوق كتفها مشاكسًا:
أي حاجة منك مقبولة يا آية
غلبتها عاطفتها وهى تريح رأسها فوق صدره، و تحاوط ذراعيه بيديها الرقيقتين، تمايلت بهدوء مع نغمات الموسيقى بين يده، أغمضت عيناها مبتسمة و كأنها تحلق بين الغيوم، طالعها بإعجاب، لم يكذب حينما قال أنها رائعة بكل
تفاصيلها، جاء لعقله فكرة فهمس يعرض عليها:
تحبي نرقص زيهم؟
رفعت حاحبها تذكره بقوله منذ قليل:
عايزنا نرقص عادى كده قدام كل من هب و دب؟
هز رأسه نافيًا بتريث:
تؤ، مين قال كده؟
جذبها من يدها و سار بها حتى وصل إلى مكانٍ بعيد عن صخب الحفل، و خاصةً عن عيون الجميع، النيل يرسل نسماته الباردة تحيطهما و السماء تلمع نجومها فوقهما ترسل ضوئها ليتغلغل بين ثنايا قلوبهم
عند هذه النقطة أدرك كل منهما أنها الرقصة الأولى لهما، تعالت أنفاسها بتوتر بينما تولى هو زمام الأمر كاملًا، جذب ذراعها الأيمن يضعه فوق كتفه، أحاط خصرها بذراعه الأيسر و قربها إليه، و قبض كفها الأخر ومال برأسه يقبله، و بدأت رقصتهمًا، يتنقل فوق ملامحها بكل حرية و كأنها يرسمها بعيناه، بينما وضعت هي عنادها جوارًا، تركت قرارها بالهجر وقلبها يهمس:
"لا مانع من بعض الذكريات اللطيفة، تواسيني في ليالي سهادى بعد فراقه."
أسند كفها فوق كتفه و أقترب ممررًا يده فوق وجنتها مرورًا بشفتيها، رفعت عيناها إليه بخجل، سمعته يهمس:
فاكرة لما سألتيني إذا كان وجودك مرغوب فيه و لا لاء؟
رمقته بإهتمام و هى تهز رأسها بالإيجاب و أرضي هو فضولها أخيرًا:
أنتِ الإنسانة الوحيدة اللي لو رغبتى في وجود كل الناس أنعدمت، هبقى عايزك أنتِ بس جنبي.
و كعادتها تحدق فيها تستشف الصدق من عيناه و كعادته يؤكد لها بنظراته أنه ليس سوي صادق، برقت عيناها وهي تراه يميل بوجهه ناحيتها أنفاسه تلفح وجهها تدفئه من برودة الجو، لحظات مرت كادت أن تترك لنفسها العنان وتحنو عليه بأن تتركه يقترب ولكن زال سحر اللحظة دفعته من كتفه وهي تبتعد خطوة للخلفة، جعلته يفتح عيناه هربت بنظراتها و هتفت بتوتر:
شهد أكيد بتدور عليا جوا لازم أدخلها.
تركته وعادت للداخل بخطواتٍ متعثرة، وقلبٌ يخفق بشدة، بقيت بعيدة عنه بقية الحفل تشارك رفيقتها تلك الليلة التى لا تتكرر مرتين بالعمر حتى أنقضت الليلة وذهبت العروس لبيتها الجديد لبداية فصل جديد من حياتها.
★***★***★***★***★***★***★***★***★***★
ساعات أخري مرت و أنتهت بهم حيث وقف طه جوار آية أسفل البناية التي تقطن بها شهد بإنتظار والدته التي أصرت أن تصعد مع ابنتها حتى شقتها و رافقها والده حتى يهدئ من بكائها الذي لم ينقطع منذ خروجهم من قاعة الزفاف، كان قد اسند ظهره للسيارة وفعلت هي المثل بجانبه، مال برأسه ينظر لها يسأل:
المفروض نروح معاهم و لا نرجع شقتنا؟
هزت كتفيها دلالة على عدم معرفتها ما الذي يجب عليهما فعله و أقترحت:
ممكن نستني نشوف والدك هيقول إيه، لو معرضش نروح معاهم يبقي نرجع بيتنا، يا رب يقولنا روحوا علي شقتكم علشان البيت وحشني أوي، ده غير إني مش عايزة أروح و شهد مش هناك، حاسة مش هقدر أقعد وهي مش موجودة
هم بالرد ولكن قاطعه نزول والده الذي كان يحادث زوجته مواسيًا:
خلاص بقي يا رجاء البنت مش مهاجرة لكل ده، دي سنة الحياة، خلاص علشان متتعبيش طيب.
أقتربت منها آية تحتضنها وحاولت تخفيف حزنها قائلة:
إن ما شوفتك بتعيطي كده يا طنط يوم فرحي أنا وطه، حضرتك مبطلتيش ضحك و زغاريط طول اليوم، شكلك ما صدقتي خلصتي منه.
واصل والد زوجها مشاكسًا و هو يغمز لها:
أصلها كانت فاكرة إن معموله عمل على رجل معزة، و ماصدقت أتفك.
ضربته زوجته فى كتفه بينما قهقه ضاكحًا و شاركته آية بينما وقف هو يطالعهم وقد شبك يديه في بعضهما البعض رافعًا حاجبه بغيظٍ مصطنع قائلًا
طيب مش هنروح ولا أطلع اجيب أمير أضربه؟
وكزته في كتف:
أنت فارد عضلاتك عليه علشان هو طيب و بيحترمك يعني.
هتف والده:
يلا كفاية وقفة في الشارع، خلي عربيتي هنا و نروح بعربية طه كلنا.
نظر كل منهما للأخر فلاحظ والده هذا:
أنتو مش عايزين تروحوا معانا ولا إيه؟
بررت آية:
أصل يا عمو قولنا كفاية كده و...
قاطعتها والدة زوجها:
كفاية إيه يا حبيبتي، مش كفاية شهد كمان هتمشوا أنتو كمان في نفس اليوم، تعالو معانا و بكرة أرجعوا بيتكم.
وافق كلاهما حتي لا يحزن والديه، جلست بجواره في المقدمة و شردت في لحظة بعينها، تذكرت قوله
"أنتِ الإنسانة الوحيدة اللي لو رغبتى في وجود كل الناس أنعدمت، هبقى عايزك أنتِ بس جنبي."
ابتسمت وهى تنظر له و كأنه بقوله هذا أثلج نيرانًا مشتعلة بعقلها، حمدت ربها بأنهم لن يذهبوا لمنزلهم الليلة وتبقي بمفردها معه، بالتأكيد. كان سيحاول التقرب منها، وهي ليست مستعدة لهذا، و تخشي أن تضعف أمام تودده هذا كله، لازالت تفكر بالأنفصال عنه، حتى و إن كان يضمر داخله مشاعرًا لها فهى لا تكفي؛ فالبيوت وعلاقات الزواج لا تقوم على الحب فقط مهما بلغت قوته.
صفت السيارة أمام المنزل ودلف الجميع للمنزل و أسرع والده يجذب والدته لأعلي قبل أن تفكر في أي شيء يخص ابنتها وتعود للبكاء من جديد
بينما نظرت هي لطه الذي كان يقف خلفها ينظر لها وقد. كسي عيناه وميضًا دب القلق بفؤادها همست لنفسها
"لا مش كده، مش كده يا طه أوكي قولت نفسي يكون مدلوق لكن مش حمدي الوزير مفيش عندك أي وسطية"
نظرت أمامها وعادت تنظر له و هو يقترب منها عادت تقول:
"خير وسيلة للدفاع الهجوم، لازم نتخانق علشان الليلة تعدي بدون أي خساير و ميأثرش على قراري"
استدرات له بكُليتها وقد نزعت القلق عنها و هاجمته بقولها:
مين البت أم أصفر اللي كانت واقفة بتضحك معاك في الفرح النهاردة؟
عبس وجهه و أنعدم ذاك الوميض العابث بمقلتيه ما جعلها تضحك داخلها، تنهد بضيق:
ما إحنا كنا كويسين و ليلتنا فيروزي، لزومه إيه الصفار ده؟!
رفعت رأسها بكبرياء:
أنا مبهزرش، روح يا حبيبي للسحلية اللي كنت بتضحك معاها تفرفشك.
انهت جملتها وفرت لأعلي وتركته يقف متعجبًا من فعلتها هذه وهمس:
يخربيت نكد الستات الغير مبرر ده.
صعد خلفها، دلف متأفأفًا بينما حاولت هي إخفاء ابتسامتها حتى لا يغضب أكثر، أنهت تبديل ثيابها و تدثرت بـ الفراش بعد قولها:
تصبح على خير.
كان يقف بمنتصف الغرفة متعجبًا يطالعها بضيق نفخ الهواء من فمه بصوتٍ مرتفع، مرت عشر دقايق. كان قد أبدل ثيابه و تدثر جواراها في الفراش، أستلقى فوق ظهره بينما بقيت هي تتقلب جواره حتى استقرت وهي توليه وجهها، نزل بجسده حتي صار وجهه امام وجهها لاحظ ارتعاش جفنيها وتظاهرها بالنوم فـابتسم ساخرًا:
لو هربتي النهاردة مش هتعرفي تهربي بكرة أكيد!
تلجلجت داخلها، ومن ثم قالت وهي تعطيه ظهرها:
نام يا بتاع البت الصفرا.
★***★***★***★***★***★***★***★***★***★
مر أسبوعًا كاملًا منذ أخر لقاء لها مع شهد حينما وقفت تعانقها بالمطار قبل رحيلها لقضاء شهر عسلها بالخارج لازالت تذكر همسها لها:
ممكن متاخديش أي قرار بخصوصك أنتِ وطه لحد ما أرجع ونفكر سوا، على الأقل ابقي جنبك، ممكن؟
لم ترغب بذلك كانت تود أن تنهي الأمر قبل أن يصبح الرحيل أصعب ولكنها لم تستطع الرفض أمام الرجاء بعينيها؛ لذا هزت رأسها موافقة و وقفت بجواره حتي غاب كلاهما عن مرمي البصر
تنهدت وهي تجلس بشرفة المنزل تحدق بالسماء المظلمة، منذ عادا للمنزل وقد عادت لروتينها للقديم يتناولان الفطور سويًا ويغادر لعمله الذي يقصي فيه النهار كاملًا ويعود بعد منتصف الليل يشاركها طعام العشاء ومن ثم يتوجه للنوم
لا يمكنها أن تنكر كونه تخلي عن صمته بشكلٍ ملحوظ حتي أنه يستجيب لحديثها و يحاورها و أحيانًا يبادر هو بالاتصال للإطمئنان عليها وهو في عمله حتي أنه عاد ذات مساءٍ باكرًا و جلس معها لبعض الوقت
تذكرت حينما سرد لها قصته مع الحصان الذي سقط من فوقه في صغره و نتج عن ذلك تورم رأسه إثر سقوطه عليها، ابتسمت حينما تذكرت كيف كانت تضحك عليه وهي تتخيل ما حدث، تلك كانت المرة الأولي التي تسمعه يشاركها شيئًا كهذا، أول مرة تضحك بقربه من قلبها، ولكن زالت تلك الابتسامة عندما تذكرت ما اخبرتها به شهد عن حادثة خطيبته الراحلة، هذا هو ما يؤرقها، يؤلمها أنه حتى الأن لم يخبرها
تسأل نفسها كل ليلة متي؟ متي ستأتي و تستند فوق كتفى وتسرد لي ما سبق و طبع بقلبك حزنًا لازلت تتألم منه، تريدني بقربك، و لا تريد أن تفتح لي قلبك؟ أوشك صبرها أن ينفذ.
تنهيدة أخري صدرت منها وهي تستمع لصوتٍ يأتي من بعيد تحديدًا من راديوا إحدي الجيران
صبرني الحب كثير
وداريت في القلب كثير
ورضيت عن ظلمك لكن
كل ده كان له تأثير
والقرب قساه وراني
البعد أرحم بكثير
ولقيتني وأنا بهواك
خلصت الصبر معاك
لم تفشل تلك الكلمات في جذب انتباهها، تصفها بل وتصفعها، ولا تعلم بالأساس من أين جائها كل هذا الصبر عليه قطع حديثها مع نفسها مواصلة الغناء:
وبأملي بعيش ولو إنه
ضيع لي سنين
ضيع لي سنين في هواك
حسنًا هذا يكفي، قالت هذا وهي تنهض للداخل مكتفية بهذا القدر، ولكن أبت أم كلثوم تركها فعلا صوتها اكثر وهي تهتف
و أهي غلطة ومش حتعود
ولو إن الشوق موجود
وحنيني إليك موجود
إنما للصبر حدود
للصبر حدود، للصبر حدود يا حبيبي
أغلقت التافذة بكل قوتها و أستندت بظهرها عليها وهي تحدث نفسها بشرود:
كان عندي حق لما اعتزلت الست، مفيش حد بيحط ملح علي الجرح غيرها.
★***★***★***★***★***★***★***★***★***★
طرقت باب الغرفة ودلفت، وجدته يخرج من المرحاض و تقدم نحو الفراش ينوي النوم، لكنها وقفت أمامه تفرك يديها بتوتر جلي فوق ملامحها، عقد حاجبيه بتعجب وسألها:
في إيه؟
رفعت عيناها إليه وهمست:
ممكن...ممكن يعني تقعد ٥ دقايق، عايزة اتكلم معاك في موضوع مهم.
حول بصره لساعة الحائط وسأل مستنكرًا:
موضوع مهم الساعة ١ ونص، ميستناش كام ساعة للصبح؟
هزت رأسها بنفي:
لا، مش هاخد منك وقت كتير.
هز رأسه موافقًا جلس علي طرف الفراش و أشار لها لتجلس، تنهدت وهي لا تدرِ ماذا تقول، هربت كل الكلمات التي جلست ترتبها لأيامٍ طويلة، نظرت له فوجدته يحدق بها منتظرًا، تلعثمت كلماتها فنطقت:
فاكر لما جيت تتقدملي قولتلي إيه؟
نفخ الهواء من فمه بملل قائلًا:
آية، مش وقت مقدمات، أدخلي في الموضوع.
تجاهلت جملته وهي تلقي علي مسامعه قوله السابق:
قولتلي هندي لعلاقتنا فرصة لو ارتحنا نكمل، لو لاء هننفصل عادي...فاكر؟
ساد الضيق فوق ملامحه ونظراته، يشعر و كأن القادم لن يسُره، هز رأسه بموافقة، ينتظر و بشدة جملتها التالية
ابتلعت لعابها بمرارة، أكملت:
أنا فكرت كتير قبل ما اقولك الكلام ده علشان مرجعش أندم وعلشان مبقاش حاسة إن حد مننا ظلم التاني معاه...
قاطعها بسؤاله:
قولي اللي عايزة تقوليه يا آية.
دمعت عيناها وهمست ولكنه سمعها
عايزة أقولك...يعني...أنا عايزة أتطلق يا طه.
سمعها وكأن العالم بأكمله صمت لتصدح تلك الكلمة بفؤاده تصفعه، وقف ينظر لها وقت نكست رأسها بحزن و هي تبكي بصمت، فصاح مستنكرًا:
إيه قولتي إيه، أنا أكيد سمعت غلط!
هزت رأسها بنفي ولم تتحدث بل زاد بكائها و ارتفع صوته، جذبها من مرفقها يوقفها وسألها:
يعني إيه، أكيد بتهرجي، مهو ده كلام ميتصدقش.
خرجت عن صمتها و اجابته بقوة لا تعلم من أي جائتها:
لا يا طه مش بهرج، أنا عايزة اتطلق، خلاص تعبت من العيشة دي.
ما لبث أن يجيبها فصدح صوت رنين هاتفها علي الكرسي بجانبها، حادت ببصرها نحوه لتجد أن المتصل ليس سوي والدتها، قفز قلبها فزعًا من أن يكون قد أصابها هي أو والدها مكروهًا، ترك مرفقها وهرعت هي نحو الهاتف، اجابت وقبل أن تتحدث سبقتها والدتها التي صاحت بإنهيار:
إلحقيني يا آية أبوكي تعبان أوي.
تجمدت الدماء بعروقها وهمهمت:
بابا...بابا ماله...ردي عليا يا ماما حصله إيه.
اقترب منها، سألها بقلق:
في إيه؟
لكنها لم تنتبه له كان الأنتباه من نصيب والدتها وهي تبلغها:
معرفش جراله ايه، كان واقف وبيتكلم في التليفون وفجأة وقع من طوله و مبيردش عليا...
لم تعد تتحمل سماع اكثر من هذا، كاد الهاتف أن يسقط من يدها لولا تلقفه هو منها وهو يحادث والدتها، هتف بعد أن فهم منها ما حدث:
طيب اهدي متقلقيش أنا هجيب آية و نيجي علي المستشفي دلوقتي حالًا، إن شاء الله خير.
بينما جلست هي أرضًا ولازالت تهمس
"بابا"
لا بكاء ولا صراخ ولا دموع فقط عدم التصديق، و الخوف من فقدانه، هل يرحل و يتركها؟
و تخشي أن تكون الإجابة نعم، تخشي أن يكون وداعه قد اقترب، من أين لها أن تستمد قوتها إن لم يكن والدها فمن من؟
من سوف يساندها في قرارها الذي أتخذته و اخبرتمبه زوحها منذ دقائق بسيطة،لا تعلم كل ما تريده هي رؤية والدها الأن.
ملحوظة: سماع الأغاني حرام، فمحدش يعمل زي جيران آية و يروح يشغل أم كلثوم او غيرها
علشان زي ما آية قالت "بتحط الملح علي الجرح" 😔
★***★***★***★***★***★***★***★***★***★
•تابع الفصل التالي "رواية طائر النمنمة" اضغط على اسم الرواية