رواية رحماء بينهم الفصل الرابع 4 - بقلم علياء شعبان
(رُحماءٌ بينهم)
"كمثلِ الأُترُجَّةِ"
الفصل الرابع
•••••••••••••••
"كمثلِ الأُترُجَّةِ؛ لا يتذوق طيب حلاوتها إلا العنيد الذي أصر على اكتشاف ما يضمر داخلها من منافع جَمَّة؛ فأذهلته بفيض زخيرٍ".
••••••••••••••••
تأججت النار واشتد لهيبها والتف هذا الجمع الطيب حولها راغبين في اقتباس بعض الدفء الذي تبعثه نارها رغم اوشكاك فصل الشتاء على لفظ أنفاسه الأخيرة، وضع الشيخ "سليمان" براد الشاي على موقد النار الذي بُني بالطوب الأحمر لاستخدامه في الدفء والتمتع بمذاق خاص ونكهة لا يمكنك مقاومتها في كوب الشاي المغلي من يد الشيخ "سليمان".
حك "نوح" يديه سوية مُستشعرًا بلحظة عظيمة من الراحة والدفء؛ فهو الذي توفى والديه إثر حادثة قطار مُروعة فقد خرج عن القضبان وانقلب أثناء سفرهم لزيارة عمه وكان وقتها بالسنة الأخيرة بالثانوية العامة والفاصلة نحو تحقيق مُستقبله، هرول "سليمان" وقتها للبحث عن جثمان والديه واستلامهما كي يدفنا براحة ويطمئن قلب الفتى قليلًا الذي لم يهدأ فائره إلا بعدما دفنهما مع الشيخ ومنذ ذلك اليوم وهو يعيش في بيت الشيخ ويتقاسم مع "تليد" كُل شيءٍ في هذه الحياة بدايةً من تقاسمهما المأكل والملابس حتى تقاسم الأحزان والأسرار سوية ونجح الشابان في الثانوية وحقق كُلًا منهما حلمه الذي سهرا طويلًا لأجل اقتناصه عنوة من الدنيا؛ فأصبح "تليد" طالبًا بكلية الإعلام جامعة الأزهر وتمكن بمساندة "سليمان" له أن يحفظ القرآن بالقراءات وكذلك كُتب الحديث؛ أما "نوح" حقق حلمه السامي بأن يُصبح طبييًا معروفًا وهو الآن يحتل مرتبة عُليا؛ فهو أستاذ دكتور نوح عبد الرحمن دكتور النساء والتوليد والعقم بسلسلة مُستشفيات النخيل الخاصة. تقاسما الصغيرة قبل الكبيرة إلا أن "تليد" لم يُخبره شيئًا من قبل عن هذه الفتاة؟؟؟
التفت "نوح" إلى صديقه فوجده يحك كفيه ببطء ورتابة كما أن عينيه تحدق في النار رغم أنها لا ترى اللهيب هي فقط تحدق في اتجاه بينما تسرح في اتجاه آخر!
تنهد "نوح" بضيق وهو لا يتخيل يومًا أن يحتفظ صديقه بسر وحيد عنه رغم أن "نوح" لا يسعل إلا وقال له بأنه سيفعل!، في تلك اللحظة قطع صمت الجميع صوت "رابعة" المتهدج من لسعة البرد مع دفء النار:
-يلا يا ولاد كُل واحد ياخد له سندويتش، بالهنا والشفا.
لمعت عينا "نوح" بسعادة غامرة لأنه سوف يتناول أجمل مذاق على الإطلاق بعد كوب الشاي الذي يصنعه الشيخ؛ فكل شيء في هذه المزرعة فريد من نوعه حيث يتفرد بالذكريات الجميلة والراحة النفسية الكبيرة والدفء العائلي الهادىء بين العاملين بها.
أسرع بمد كفه إلى الطبق ليجدها تفعل بشغف حتى لمس الاثنان نفس الشطيرة، حدقت فيه "مُهرة" بغيظ ثم قالت بتحدٍ:
-أنا اللي مسكتها الأول.
نوح بعناد صلب:
-عندنا في المزرعة دي، الستات مبتاكلش إلا لمَّا رجالتها تموت.
ارتفع جانب شفتها العُلية ثم أردفت باستنكار:
-غجالة مين؟؟؟
نوح بضحكة مكتومة يرد:
-غجالة المزرعة يا كبيرة، في حاجة؟؟
كان سليمان مُعيرًا انتباهه كُله نحو البراد الذي يغلي بروية على التار، توأد في سحبه مُنتظرًا أن تلتصق رائحة احتراق البراد من الخارج مع فوران الشاي خارج البراد واصطدامه بالنار ولكنه لم ينسى أن يهدد هؤلاء الأطفال بعقاب رادع إن لم يتمنعوا عن مشاكسة بعضهم والتظاهر بالعدوانية:
-الظاهر إنكم مش هتشربوا معانا شاي النهاردة؟؟؟
أسرعت "مُهرة" بوضع يدها على فمها قبل أن يتفوه بعقابه الذي ينص على حرمانها من تذوق شايه اللذيذ كما تنحنح "نوح" بهدوء ثم قال مُستسلمًا:
-لا وعلى أيه! صوت صرصار الحقل.
ابتسم "تليد" في نفسه قبل أن يتناول شطيرته الأقرب إلى قلبه من الصحن ثم يلتهمها بحنين جارفٍ لطفولته، يتذكر عندما كان يتناول الشطيرة من "رابعة" ثم يكشف عن قلب الشطيرة ويبدأ باصطياد الزبد والعسل بأصبعه ويتجه به إلى فم الصغيرة التي تمتعض في بداية الأمر حينما تتحسس المذاق بطرف لسانها وما يلبث أن يتحول شعورها المصدوم إلى آخر سعيد تستمتع بابتلاع هذه النكهة إلى جوفها، نظر إلى الشطيرة لوقت طويلٍ حتى جذب الأعين إليه فتساءلت "رابعة" بصوت هاديء مُهتم:
-إنتَ كويس يا أستاذ تليد؟؟؟
لم يسمعها وبات كالصنم الذي لا يسمع أو يعقل حتى لكزه "نوح" بكوعه الأمر الذي جعل الأخير يلتفت إليه من بعد غياب دام لدقائق كُثر، رفع "نوح" أحد حاجبيه ثم قال متسائلًا وهو ينزل بعينيه إلى الشطيرة:
-إنتَ هتصور السندويتش!!
انتبه "تليد" بأنه التهم شطيرة والتقط أخرى ولكنه سرح فيها فلفت الإنتباه نحوه، تنحنح بخشونة ثم ابتسم يقول بهدوء:
-افتكرت زمان لمَّا كُنت بنجح في الشغل وخالة رابعة كانت تكافئني بالسندويتشات دي.
اشتاقت "رابعة" لهذه الأيام التي كثُر فيها الخير عن الآن فقالت بسجية طيبة يحيطها التلقائية:
-فاكر لمَّا كنت بتاخد الزبدة والعسل وتأكلهم لأُترچ وتاكل إنتَ الرغيف خاف!!!.
نحى الشيخ "سليمان" ببصره إلى ابنه يسترق الملاحظة حول أثر كلماتها على ملامحه المرتبكة عند ذكرها في الحال، ابتسم الشيخ برصانة وداخله مُتأكدًا من أن ابنه لم ينس الصغيرة مُطلقًا والأقرب لليقين أنه يراقبها حتى هذه اللحظة التي يجلس فيها أمامه والأقرب للصدق؛ أن صغيره الولهان وَلِع بها واتقدت نيران عشقه وهو يراقب فاتنته تكبر أمام عينيه؛ فهو (تليد بن سليمان) الذي يُصدق بالموطن الأول والشعور الأول وموطنه يستقر بين أربطة شعرها المُسترسل الذي أحبه وكان طويلًا رغم صغر سنها وقد منحه فيض من الاحتواء وكان يرى سعادته في الاهتمام بموطنه الأُترُجي!
فار الشاي على أطراف البراد فرفعه الشيخ وراح يسكبه في الأكواب الزجاجية القابعة على صينية عتيقة من النحاس يحتفظ بها الشيخ من سنوات كثيرة، تنهد بهدوء قبل أن يلتقط كوبًا من بينهم ثم يرفعه نحو ابنه وهو يقول بصوت دافئ:
-معلقة واحدة سكر يا شيخ تليد.
حرك "تليد" أهدابه بشُكر دون أن يتكلم ولكنه صُدم حينما تعمق الشيخ في النظر داخل عينيه ثم سأله بترقب للإجابة التي لا يحتاج إلى معرفتها ولكنه يود العبث قليلًا مع ابنه الذي سيبقى صغيرًا مهما خشن صوته واشتد عوده وفُتلت عضلاته وصار رجلًا وسيمًا:
-إلا بالحق يا بني، أُترُج أخبارها أيه؟!.
كان يرتشف القليل من الكوب وما أن وُجه هذا السؤال الغير متوقع له حتى ابتلع الشاي المحبوس في فمه بالكاد ثم سعل من اقترابه على الوصول إلى لسان مزماره القابع في حلقومه، قطب "نوح" ما بين عينيه ثم قرَّب قبضته من ظهر صديقه وراح يضرب عليها ضربات مُتتالية تشتد قوتها مع كُل مرةٍ حتى تابع "تليد" من بين سعاله:
-دا إنت تسيبني أموت أحسن.
غمز "نوح" له بصورة متوارية لم تخفى عن أعين الشيخ الذي ابتسم بخفوت حتى أن ابتسامته لم تصل إلى عينيه حتى، أردف نوح بصوت حانق رغم ما يُغلفه من صمت:
-بعد الشر عنك يا صديق الكفاح.
كانت "رابعة" تنظر إلى ابنتها نظرات تساؤلية يحفها التوجس والترقب من توتر "تليد" وغيظ "نوح".. سكت "تليد" هنيهة قبل أن يرد مُستسلمًا للأمر الواقع:
-بخير.
أومأ الشيخ بابتسامة خفيفة فيما تابع "تليد" وهو ينهض في مكانه قائلًا بحسم:
-هروح أكمل شغل شوية في الأوضة بتاعتي.
لم ينتظر ردًا بل كان صوت قلبه الخافق بمثابة الرد الوحيد على رغبته في البقاء وحده وإلا فُضح من ارتفاع خفقات قلبه الهائجة عند ذكرها، ذهب إلى غرفة الاستراحة الخاصة به في المزرعة والتي ينام بها حينما لا يرغب في الذهاب إلى البيت القريب من مقر عمله أو الذهاب إلى بيتهم القديم الذي يُشعل نيران ذكرياته معها؛ فكُل ركن به بمثابة موقف وتجتمع هذه المواقف كُل آخر ليل وتحوم حوله مُرهقةً عقله الذي يختل عند التفكير بها لفترة طويلة حتى أن شيطانه يزرع في عقله أفكارًا مجنونةً فيبدو كقطٍ بري جريحٍ أُخذت صغيرته منه فتراوده فكرة أن يذهب إلى بيتها ويأخذها قسرًا أو بوضع اليد لعل نيران قلبه الملتهبة تنطفئ!
استأذن "نوح" أيضًا كي يلحق بصديقه مُقررًا معرفة خبايا وأسرار هذا الاسم الذي تكرر على مسامعه في الآونة الأخيرة، فتح "تليد" باب الغرفة بتروٍ يرمق كُل جزءٍ بها باشتياق حقيقي فلم يجلس أو ينم بها مُنذ شهرٍ تقريبًا بسبب وقوعه في هوة سحيقة من الأعمال المتكومة على رأسه والتي ما كان ينقصها سوى العمل داخل شركة أخرى!
دخل الغرفة بانهاك ولكن قلبه انشرح حينما وجدها نظيفة مُجهزة للنوم فيها؛ فلم تُقصر "رابعة" في أي شيء يخصه وبالمقابل لم ينسَ "تليد" الكثير من أفضالها عليه كتدفق حنانها الأمومي الكبير عليه منذ صغره، نظر على يمينه فوجد الفراش مُرتبًا وكتبه الخاصة موضوعة على الطاولة المجاورة للفراش بشكل منظم فالتفت يساره ليجد الطاولة الكبيرة التي تقبع معداته عليها وبعض الأشكال التي انتهى منها آخر مرة!
-إنتَ ناوي تفضل واقف على الباب كتير!!
جذبه "نوح" من بئر أفكاره العميق، تنهد "تليد" بهدوء ثم توجه إلى الطاولة الكبيرة وراح يجلس إليها عبر الكرسي الطويل أمامها، سار "نوح" إليه ثم التقط ثمرة بلاستيكية على شكلٍ موزة ينبعث النور من جوفها؛ فتليد ماهر في صناعة الزينة البلاستيكية على شكل فواكه رائعة حتى أنه صنع في شرفة بيته أسلاك من الضوء على شكل شرائح من الأُترُج ينبعث ضوء خافت منها فتُعطي منظرًا رومانسيًا مُبهرًا كما أنه يصنع الحُلي الذي يظهر على شكل فواكه أيضًا حتى أنه يُخبىء في جيب بنطال بذلته الكُحلية قرطًا رقيقًا على شكل شرائح أُترُج!!!! وفي غرفة عمله بالمنزل هناك تقبع شجرة بلاستيكية قد صنعها بدقة ومهارة يتدلى منها اثنان وعشرون حبة من ثمرة الأُترُج!!!!
أُترُج! أُترُج! أُترُج!
في كُل مكان يوجد فاكهة الأُترُج، يخشى أن يموت صديقه مخنوقًا من تناول جُرعة زائدة من حبات هذه الثمرة البغيضة حتى أن شايه المفضل لا يخلو من شرائح الأُترُج التي تطوف على سطحه!!!!
-مين أُترُج دي لأني بدأت أنهاغ!!
تنحنح بإحراج ثم عدل كلمته بأخرى في سرعة رهيبة:
-قصدي أنهار يعني.
أغمض "تليد" عينيه باتخاذ جرعة زائدة من الضيق هذه الليلة، أبعد الكرسي قليلًا بحركة ثائرة ثم استدار نحو صديقه قائلًا بصوت أجش حاد:
-البنت الوحيدة اللي عقلي مش قابل يفكر في وجود واحدة تاني غيرها، البنت اللي ذكرياتي معاها ما تتعداش الكام يوم وباقي الذكريات أنا بس اللي براقب وأنا بس اللي بتوجع، معرفتش مشاعر الانتماء والاحتواء غير وأنا بلمس شعرها ولسه حاسس بملمسه!.
جحظت أعين "نوح" وارتخت شفته السُفلى وهو يصيح مصدومًا:
-لمست شعرها؟؟؟ إنتَ؟؟
تنهد "تليد" من أعماقه كمن يدفع جمرة تغلى داخل قلبه.. يدفعها بعيدًا جدًا وهو يفضفض باسترسال، ابتسم لحظة أن رأى تعبير وجه صديقه فقال بصوت هاديء يوضح حديثه الذي بدا شيئًا من الانحلال الأخلاقي وكان يجب عليه أن يُعدل من وضع الصورة في عين الأخير:
-أه لمست شعرها، كانت أول مرة ألمس شعر بنت، كان عندها سنتين وشعرها كان طـ….
سكت فورًا مُتذكرًا أنه يصف حبيبته الغالية لرجلٍ آخر!!، تنحنح بخشونة وهو يلوم نفسه التي تنهار دون أدنى تفكير وقت التحدث عن سيرتها، جاشت مراجله وهو يندم أن رجل غريب وإن كان صديقه قد علم بمعلومة مستترة عنها رغم أنه لم يُصرح بها بشكل كاملٍ إلا أنه تذكر مراقبته لها عن بُعد ورؤية بعض خصلات شعرها التي تطل من أسفل حجابها عن عمد منها وفي كُل مرةٍ يراها فيها يقسم بأنه لو كان يعلم أنها ستُطلق جُزءًا من خصلات شعرها للعامة في يوم من الأيام لقصهُ لها في صغرها حتى صارت قرعاء!
تنهد "تليد" بثبات وقال:
-لمست شعرها فعلًا بس كان عندها سنتين، كُنا أطفال يعني.
ضم "نوح" شفتيه ثم أطلق زفيرًا مرتاحًا وهو يهز رأسه مُتفهمًا ثم يقول بابتسامة مُنبسطة:
-آه، مش تقول كدا يا أخي!.
تليد بضحكة نكراء:
-دا على أساس إني شيخ لحد ما يلاقوا شيخ تاني!!!
رفع "نوح" أحد حاجبيه ثم سأله بمرح:
-المهم كان شعرها ماله بقى!!.
ابتسم "نوح" خلسة قبل أن يلتفت الأخير إليه ثم يرمقهُ بنظرات حادة قائلًا بلهجة حانقة:
-نووووووح!
نوح وهو يردد جملته الشهيرة في مثل هذه اللحظات:
-والكاظمين الغيظ!.. يا سيدي خلاص بلاش شعرها مقولتليش أيه حوار وَميض دا؟؟
تليد يرد بسلاسة:
-الست اللي اتبنيتها غيرت اسمها وهي كمان ساهمت بشكل كبير في دا.
قطب "نوح" ما بين عينيه ثم قال مستنكرًا:
-طفلة صغيرة أيه اللي عملته علشان تساهم في تغيير الاسم زيّ ما بتقول!!!.
ابتسم "تليد" ابتسامة باهتة تحمل بين طياتها أوجاع متفاقمة ثم باح بحزن عميق:
-الطفلة الكبيرة كبرت والاسم مكنش عاجبها فقررت تروح تغيره رسمي للاسم اللي بتناديها بيه والدتها.
ضرب "نوح" كفًا بالآخر ثم قال في شيء من الذهول:
-أنا خلاص اتجننت من القصة دي، يعني إنتَ اللي سميتها أُترُج!! طيب وإنتَ تعرفها منين؟ وفين أهلها الحقيقيين!!
تنهد "تليد" بإرهاق ثم قال وهو ينتقل إلى الفراش:
-موضوع يطول شرحه بس هحكي لك كُل حاجة قـريب!
حك "نوح" جبينه حيرةً ثم نطق سؤالًا علق في حنجرته وكان لابد من خروجه:
-طيب هي تعرفك!!!
مدد "تليد" جسده على الفراش ثم شد الغطاء على جسده وراح يقول بنفاد صبر:
-لأ ولا يمكن حتى تفتكرني وأقصى معلوماتها عني إني الشيخ تليد الداعية وبس.
هز "نوح" رأسه بعدم إشباع لهذه المعلومات الوجيزة ولكنه فضل أن يحظى بالقليل بدل أن يُجن، توجه إلى الفراش ثم ألقى بنفسه بجوار صديقه قائلًا بحسم:
-إنتَ ناوي تنيمني على الأرض ولا أيه؟ اتزحزح شوية يا عم الشيخ!.
ساد الصمتُ بينهما للحظات وقد واجه "نوح" عناءً في النوم بعقل شاغر من أية أفكار، فتأفف بانعدام راحة ثم قال بنبرة هادئة:
-تليد! إنتَ نمت؟
تليد بإيجاز ونبرة يُغلفها الارتخاء:
-بحاول.
نوح وهو يهب في نومته جالسًا ثم يقول بنبرة حانقة:
-طب جاوب على السؤال الأخير دا علشان أعرف أنام على الأقل!، أيه حوار الشجرة اللي عندك في المكتب؟؟؟.
تليد وهو يتنشق الهواء داخله ثم يقول بلهجة حازمة:
-بكرا بالليل هتعرف.
عض "نوح" على شفته بغيظ وراح يعصر قبضته قبل أن يبسط جسده مرة أخرى ويستسلم للأمر الواقع نحو غياب رغبة صديقه على قَص المزيد من قصته المُحيّرة!!!!
••••••••••••••••
جلست على الكرسي القابع أمام مكتب الطبيب داخل غرفة الكشف بإحدى العيادات الخاصة، ظلت مُتشبثة بمكانها لم تتزحزح عنه حتى عندما طلب الطبيب من "راوية" أن تتجه خلف الستار حيث يوجد ورائه ذلك السرير الذي تنام عليه الحالة وبجواره جهاز الكمبيوتر الذي يختص بوظيفة واحدة فقط؛ ألا وهي الكشف بصفة واضحة عن صورة الجنين وحالته داخل رحم أمه، اتجه الطبيب إلى "راوية" بعد أن جهزتها مساعدته وبدأ يفحص حركة الجنين ونبضه الذي ظهر هذه المرة، ابتسم الطبيب بسعادة ثم نادى عليها قائلًا بصوت سعيد:
-مرافقة مدام راوية، تعالي شوفي حالة الجنين!!
كانت "راوية" تنام على السرير ولا تستطيع اختلاس النظر إلى الشاشة فكان لابد من إشراك المرافقة معها حول حالة الجنين وأيهم عضو قد اكتمل فيه ومواصفات شهره الذي يعاصره.
خفق قلبها خفقات متتالية عنيفة، ابتلعت ريقها على مهل وهي تجد الممرضة تبتسم بهدوء ثم تحثها على الاستجابة لنداء الطبيب، أومأت "شروق" بهدوء ثم خطت خطوات مترددة نحو الستار حتى أزاحته بتوأد ليظهر أمامها صورة مشوشة تكاد ترى بعض التفاصيل من خلالها ولكن وجود شيءٍ في رحمها حتى لو كان غير واضحٍ في البداية فكرة مُثيرة ومُرضية لغريزة أية أم تهفو نفسها إلى الشعور بقطعة منها داخلها.
ابتسمت "شروق" بصدق وقد غاب عن عقلها فكرة إحضار تماضر لها إلى العيادة عنوة من أجل تكدير صفو حياتها البسيطة مع زوجها وتذكيرها بأنها لم تُحقق ما وصلت إليه الأخيرة!!
في غضون ذلك، قام الطبيب أثناء فحصه لصورة الجنين بتفعيل مكبر الصوت للاستماع إلى نبض الجنين والاطمئنان عليه، كان ينبض بقوة وانتظام فتهللت أسارير وجه "شروق" وهي تنظر للأخيرة التي ارتعش قلبها اشتياقًا للقائه وهنا قال الطبيب بصوت هاديء:
-ما شاء الله، نبضه مُنتظم وفي أحسن حال.
شروق تتمتم بنبرة شاكرة:
-الحمد لله، شكرًا يا دكتور.
الطبيب وهو يُفاجأها برده:
-عقبالك يا مدام شروق.
زوت "شروق" ما بين عينيها دهشةً تستغرب معرفته بها وهي التي تأتي إليه للمرة الأولى متناسيةً أنها بلدة قروية بمثابة غرفة وصالة وكُل المداخل تؤدي إلى بعضها في النهاية والأخبار تنتشر بين قاطني هذا المكان بسرعة البرق الخاطف فلا يوجد ما يُعرف بخصوصية داخل حدودها ولكنها خمنت سببًا جديدًا حول معرفته بها ليُباغتها الطبيب بتأكيد ظنونها الخفية، فيقول بثبات وهو يعود إلى مكتبه فيجلس إليه:
-الحاجة تماضر بتكلمني عنك دايمًا، فأنا مش عايزك تقلقي، ودايمًا بقول لها سيبيها تستمتع بحياتها لسه بدري بس عادات أهل البلد هنا لا تُطاق.
تنحنحت "شروق" بإحراج ثم سألته متوجسةً:
-هو حضرتك مش من هنا؟
أومأ الطبيب سلبًا ثم قال:
-لأ، للأسف ظروف شغلي هي اللي جابتني هنا وبصراحة بشوف العجب.
حكت "شروق" جبينها بتردد واضحٍ لمرأى عينيه وهذا ما جعله يبتسم ثم يقول بلهجة مريحة:
-اسألي اللي إنتَ عايزاه!!
رُسمت ابتسامة فاترة على مُحياها ولكنها أردفت بصوت خافت:
-يعني التأخير دا طبيعي!!!
الطبيب وهو يقول بثبات:
-طبعًا، أصلًا في حالتك إنتِ مش اسمه تأخير خالص لأنك مكملتيش سنة، أعتقد إنهم شهور قليلة!!!
شروق بهدوء:
-أه
•••••••••••••••
استيقظ "نوح" على رنين هاتفه الذي لا يهدأ وجميعها اتصالات من داخل المستشفى، نهض وتجهز ثم قرر الذهاب إلى عمله قبل أن يحولوا المزرعة إلى مستشفى إن لم يأتِ، تنهد وهو يُغلق آخر زرار في سترته ثم نظر إلى صديقه النائم نظرة سريعة مُتمنيًا له بعض من السلام والطمأنينة كي يخمد حريق قلبه الوله قليلًا!
فتح باب الغرفة برفق وكان أول شيء وقعت عيناه عليه؛ هو ذلك المشهد اللطيف، رآها تهرول برشاقة طفلة صغيرة بين الماعز بينما يتتبعونها بلطافة مُسلية فتهرول ويهرولون خلفها بمرحٍ إلى أن حملت إحداهن على ذراعها تلمس فرائها برفق وحنان يغلب على طبعها الطيب وسجيتها النقية كلونٍ الحليب.
شرد في تفاصيلها الدقيقة والرقيقة في آن واحد؛ لا يعرف ما الذي يكنه لها من مشاعر واضحة وصريحة!! هل هو يُعاملها على أنها تلك الفتاة الصغيرة التي رآها لأول مرة مع والدتها تتشبث في تلابيبها مُمسكةً بين ذراعيها دُمية جميلة مصنوعة من القطن لقد كانت طفلة مرحة ومحبوبة وأكثر التسريحات التي كانت تُحبها هي الضفائر على الجنبين.
هل يُحب نوح هذه الطفلة التي كبرت وترعرعت وسط شابين يعاملانها بامتيازات خاصة لأنها ابنة أكثر امرأة انتماءً لهذا المكان أم يُحب قطعة الجبن ناصعة البياض التي تستقر أعلى يسار صدرها؟؟؟ أو تلك الجذابة التي كبرت فجأة بغطاء رأسها الذي خطف عقله الضعيف!!!
لاحظت "مُهرة" وجوده في المكان وتحديقه بها، زمت شفتيها باستغراب ثم انحنت قليلًا حتى تحررت المِعزى من بين ذراعيها إلى الأرض، أشاحت بوجهها للجهة الأخرى تتفادى نظراته المرتكزة عليها إلا أنها انتفضت فجأة وهي تستمع إلى صوته الخشن يقول بالقرب منها:
-صباح الخير يا ست مُهغة!!
رفعت كتفها بخصام طفولي فابتسم بهدوء ليجدها تقول بصوت ثابت:
-مبسوطة يا نوح إن اسمك مفيهوش حغف الغه وإلا مكنتش هسلم من شغَك.
وضع "نوح" يده على فمه يكتم ضحكة محققة إن لم يتحكم بها في اللحظة الأخيرة فقد أراد أن يعبث معها ويصبغ معالم وجهه بلون الجدية لثوانٍ قليلة فقال بصوت جاهد أن يبدو مُتحشرجًا:
-أنا صاحي مخنوق جدًا النهاردة.
انبسطت عقدة جبينها وهي تستدير برأسها له في اهتمام ثم تسأل بقلق:
-حد زعلك؟؟؟
أومأ "نوح" في حزن وديع ثم قال:
-كُل اللي حوليا مزعليني يا مُهغة، حاسس إن نهايتي قربت من كُتر ما بنام كُل يوم زعلان.. قلبي بيوجعني.
انفرج فمها دهشةً ثم صاحت بصوت متأثر حزين:
-بعد الشغ عنك، متقولش كدا.
أطرق "نوح" برأسه يحبُك خطته جيدًا ثم قال بصوت خافت:
-ممكن طلب انساني يتوقف عليه موت أو حياة انسان؟؟؟
أومأت بسرعة ثم مطت شفتيها بحزن طفولي وقالت:
-أكيد، بس متقولش كدا علشان خاطغي!!.
نوح وهو يتنهد بصعوبة ثم يضع كفه على قلبه:
-قولي لي "مصاحبش الفغافيغ حتى لو غاكبين فغاغي"، قوليها مرة واحدة بس قبل ما أموت لأني حاسس بوجع لا يتحمله بشر في المزغعة دي كلها!.
تحولت صفحة وجهها من صفحة وديعة إلى أخرى مُتشنجة ثم دبدبت بقدميها على الأرض ساخطة على لعبه بمشاعرها وراحت تصيح به في حدة:
-بكـ كـ كـ….
ضغطت على أسنانها بانفعال وغيظ شديدين ليومئ برأسه ثم يضحك بقوة وهو يتناول طرف الحديث عنها:
-بكرهك، خايفة تقوليها لأتنمغ عليكِ، صح!
مُهرة وهي تصيح بصوت مُزمجر كغضب الأطفال:
-حسبي الله، بس كدا.
••••••••••••••••
دفعت الباب بقوة ثم دخلت إلى غرفة مكتبها داخل شركة (السروجي) عازمة النية على جمع أشيائها الخاصة والذهاب من هذا المكان على الفور؛ فهو بمثابة سجن فُرض عليها من قِبل والدها الذي يظن في هؤلاء الأشرار خيرًا؛ مشكلتها دائمًا معه أنه يرى الناس بعين طبعه الطيب ولو كانوا أشرارًا.
توجهت إلى مكتبها الذي يشاركها فيه اثنان غيرها، بدأت في لم أشيائها الخاصة بغضب دفين، تفتح أدراجها بثورة ثم تجمع ما بهم وتضعهم في صندوق كرتوني، في تلك اللحظة سمعت صوت وقع خطوات ذلك الكعب العالي الذي يطقطق بالأرض كلما مرَّت من مكان ما، تنهدت "وَميض" تنهيدة طويلة تستعد فيها لهجومٍ آت ومُتربص بها بعد أن تأكدت من وجود "سكون" داخل غرفة المكتب، فقالت "وَميض" بلهجة حادة دون أن تستدير لها:
-مش هتبطلي شغل الحرامية دا، هنا وفي البيت؟.
عقدت "سكون" ذراعيها أمام صدرها ثم أردفت بلهجة حانقة:
-وإنتِ مش هتبطلي طولة لسانك اللي عايز قطعه دا؟؟.
استدارت "وَميض" صوبها ثم وقفت أمامها بنفس عنجهيتها فقد كانت بارعة في تقليد الآخرين حيث رفعت أكتافها وعُنقها بشكلٍ مُستقيمٍ وعقدت ذراعيها وراحت تهز أحد ساقيها كأنما تحفظها عن ظهر قلب ثم تابعت "وَميض" ببرود جليدي:
-لأ مش ناوية أبطل، عايزة أيه يا كحيانة هنام؟؟؟.
سكون وهي تضغط أسنانها ثم تقول بحنق:
-مليون مرة أقول لك بطلي تقولي لي الكلمة دي!!!
وَميض بعناد صلب:
-لمَّا تبطلي إنتِ تتعاملي معايا على إنك هانم وولية نعمتي وتشوفي نفسك عليا، وقتها هفكر يا حكيانة هانم.
ابتسمت "وَميض" بمكر وهي تردد نفس الجملة دون وجلٍ من غضبها الذي لا يحرك لها جفنًا أو يُخيفها، في تلك اللحظة صاحت "سكون" بصوت غاضب حاد:
-أنا لحد دلوقتي لسه مقولتش لبابي إنك ضربتي مرات حمدي بيه زهران يا بني آدمة متوحشة إنتِ.
وَميض وهي تبتسم بمكر ثم تتابع:
-وهتضربي إنتِ كمان لو ما غورتيش من وشي يا سكون، اخفي يلا!.
سكون وهي تصيح بسخط:
-سكون هانم يا حيوانة يا مرفودة وأنا لحد دلوقتي عاملة حساب العشرة وعمو علام.
وَميض وهي ترد بصوت جافٍ:
-وأنا كمان، عاملة حساب اليوم اللي أكلنا فيه وشربنا مع بعض يا سكون مش علشان عثمان بيه خالص، علشان خاطر صاحبة عمري بس، شروق بس هي اللي منعاني عنك.
تأففت "سكون" بامتعاض في حين تابعت "وَميض" بصوت حزين وهي تعطيها ظهرها وتُكمل ما شرعت به:
-على العموم افرحي، أنا مش راجعة الشركة دي تاني وقريب هاخد أمي وأبويا وهنسيب لكم الشقة اللي بتجبوا علينا بيها.
•••••••••••••••
جلس إلى مكتبه بعد أن تأكد من تفرُغ جدول أعماله اليوم، قرر أن ينتظر ساعة ثم يذهب إلى صديقه ويخرجان سوية لتناول الغداء ويحكي له تلك القصة الغامضة والتي لم تكتمل داخل ذهنه بعد.. كانت الأجواء داخل غرفته ساكنة ولكن هيهات أن يحظى ببعض الهدوء الذي لا يتوافر كثيرًا داخل هذه المُستشفى.
طُرق باب غرفته عدة مرات متتالية في عجلة، قطب ما بين حاجبيها ثم أردف متوجسًا:
-ادخل؟؟
أطلت عليه إحدى الممرضات بقسم التوليد ثم أردفت بصوت لاهث مفزوع:
-الحق يا دكتور نوح، في حالتين ولادة مستعجلة دخلناهم لأوضة العمليات!!.
زوى "نوح" حاجبيه إلى بعضهما حتى كادا أن يلتقيان ثم رد باقتضاب:
-تمام، فين الدكتور اللي متابع حالتهم، كلميه فورًا.
الممرضة وهي تُضيف بأسف:
-دكتور محمد مسافر من أسبوع.
تنهد "نوح" باستسلام، أومأ مُتفهمًا ثم حدق فيها وهو يقول بغيظ متواري:
-وطبعًا المهمة وقعت على العبد لله!!!
نهض من مكانه على الفور ثم سار معها إلى غرفة العمليات ليجد سيدتين تجلس كُلًا منهما على فراش منفرد، نظر للاثنين بحيرة، من أين يبدأ؟ فلم يسبق له أن يتعرض لمثل هذا الموقف من قفل؟ ولادتان في وقت واحد!!!.
اتجه إلى أكثرهما صريخًا ثم أمر إحدى الممرضات بالغرفة أن تعتني بالأخرى بينما بدأ هو يعتني بالأولى التي وصل صراخها الهادر ربما إلى خارج المستشفى ليتحدث إليها بهدوء:
-استغفري.. استغفري علشان ربنا يسهلها لك.
بدأت الأم تستجيب لطلبه وراحت تستغفر بصوت عالٍ بينما تابع هو عمله باستخراج رأس الجنين ليجد الأخيرة تصرخ بأقصى صوت لها والممرضة تهرول إليه ثم تقول بوجل:
-الحق يا دكتور نوح، راس العيل اتزحلقت.
نوح بصوت فزع:
-اتزحلقت!!، يادي النيلة، طيب خليكِ مع دي لمَّا أشوف التانية.
في تلك اللحظة سمع صوتها تصرخ فيه بغضب باكٍ:
-رايح فين، تعالى هنا!!!!!!
كانت لحظات عصيبة عليه أن يُنجز عمليتين في آن واحدٍ ويحمل طفلين بين ذراعيه، انتهت المُهمة على خير وراح يحمل الصغيرين بسعادة غامرة ليجد إحدى السيدتين تقول بنبرة خافتة سعيدة:
-هات لي ابني يا دكتور عايزة أشيله!.
ابتسم "نوح" بهدوء ثم تمشى إليها وراح يضع الطفلة بجوارها قائلًا بابتسامة ودودة:
-مش ولد، دي بنوتة زيّ القمر.
السيدة بصراخ يصم له الآذان:
-نعم؟؟؟؟ بنت أيه؟؟ الدكتور قايل لي إني هجيب ولد!!
نوح وهو ينفي حديثها بتصرف قاطعٍ:
-يافندم، حضرتك جبتي بنوتة!!!
هي بنبرة عنيدة تصيح:
-لأ، أنا شايفة معاك ولد هناك أهو، هاتهولي!!
ابتعد "نوح" عنها على الفور ثم أضاف باستنكار:
-هتهولي أيه؟ هي زيطة؟؟
اتجه نحو السيدة الأخرى التي لا تزال تتألم من الوجع وتجلس الممرضة معها لتخييط الجرح لها، وضع الصغير بجوارها ثم تابع بصوت هاديء:
-مبروك، ولد زيّ القمر.
السيدة الأخرى بصوت هائج:
-لأ، دا مش ابنها، دا ابني أنا يا خطاف العيال.
نوح وهو يتجه نحوها مرة أخرى ثم يندب بصوت منفعل:
-يالهوي ياني ياما، يا ماما أقسم بالله إنتِ جبتي بنوتة مش ولد مش ذنبي إن الدكتور حدد نوعه من الأول غلط.
تشنجت ملامحها ثم أضافت بصوت عالٍ ثائر:
-لأ بردو، رجع لي ابني يا خطاف العيال، أنا اشتريت لبس ولاد خلاص.
قام "نوح" بوضع كلا ذراعيه على رأسه ثم أردف بنبرة مستسلمة والدوار يصيب رأسه:
-حسبي الله ونعم الوكيل، فين أهل الست المتوحشة دي!!!!
الممرضة وهي ترد بضحكة مكتومة:
-حاضر حاضر.
••••••••••••••••••
دخل إلى شقته للتو، توجه إلى غرفة مكتبه وهو يتحسس وجود شيء ما في جيب سترته، دخل المكتب ثم أغلق الباب خلفه وراح يسير نحو هذه الشجرة التي صنعها منذ أن وعى على وجود موهبة مميزة به وقتها كان عمره ثمانية عشر عامًا.
نظر إلى الشجرة بحُب وراح يعد الحبات بها بأصبعه السبابة إلى أن قال بصوت مشتاق:
-22
ابتسم بأسى وحنين يطغى على نبرة صوته الخشنة فجعلها لينة هادئة، في تلك اللحظة، أخرج حبة جديدة قد صنعها هذا الصباح من البلاستيك، حبة أُترُج بلاستيكية تشبه الثمرة الحقيقية تمامًا وقد كُتب عليها رقم جديد يوضح ترتيبها الثالث والعشرين في الشجرة، في الواقع لم يكتب على كُلًا منهم رقمًا لمجرد ترقيمهم بل لأن صغيرته قد كبرت عامًا آخر وفي هذا اليوم تتم الثالث والعشرين ربيعًا!!!
-يا ترى غيروا يوم ميلادك زيّ ما غيروا اسمك؟؟؟؟
أردف يتساءل بفضول كبيرٍ مُعترفًا برغبته الجارفة في الالتقاء بها وربما يكون لقاء دون فراق جديد!!!
أكمل بشجنٍ بلغ مبلغه منه يتخيلها وهي صغيرة تضحك بصخبٍ لم يزعج نومه يومًا، تذكر تلك الغمزة القابعة أسفل عينها اليُسرى:
-أتمنى لك العُمر المديد وأيامك الجاية كُلها تكون ملكي أنا.
•••••••••••••
صعدت الدرج بخطوات متعثرة بسبب ما تحمله بين ذراعيها والذي يحجب عنها رؤية الدرجات، أبعدت الصندوق عن مرأى عينيها قليلًا ثم نظرت بحذر إلى خطواتها نحو الصعود وهي تتنفس الصعداء بالكاد وجبينها يتندى من الجهد المبذول في حمل هذا الصندوق الداهية، تنهدت بشكر أنها قد وصلت إلى باب الشقة دون حوادث، وضعت الصندوق بالأرض ثم التقطت مفتاحها الخاص وراحت تضعه في قفله وما أن فتحت الباب حتى جحظت عيناها وهي تجدهم يقفون أمامها مُباشرة ثم يباغتونها بصوت عالٍ حماسي:
-Happy birthday to you, Happy Birthday wameed.
يتبع
•تابع الفصل التالي "رواية رحماء بينهم" اضغط على اسم الرواية