رواية الغرفة المغلقة الفصل الرابع 4 - بقلم نور الشامي
كانت تقف في وسط تلك الغرفة المعتمة تصرخ بشدة وتطرق على الباب بعنف، وكأنها تتشبث بآخر أمل في النجاة تردد بصوت مختنق بالبكاء:
يارب. أنا مالي بكل ده؟ ساعدني يارب وخرجني من اهنيه … بالله عليكم حد يفتح الباب.. حرام عليكم انتوا بتعملوا فيا اكده ليه
كانت تصرخ افنان بشده ولكن صرخاتها تلاشت في الصمت المطبق، وكأن الجدران نفسها تتجاهل استغاثتها. فـ جلست على الأرض منهارة، ودموعها تنهمر بغزارة ولكن قبل أن يُقطع سكون الغرفة فجأة ظهر صوت مخيف اخترق أذنيها. كان صوت زئير قوي… زئير أسد جائع فـ انتفضت أفنان من مكانها، وقلبها يكاد يتوقف من الخوف و بدأت تلتفت حولها بارتباك بحثًا عن مصدر الصوت، حتى وقع بصرها على باب حديدي يظهر من بعيد، وكأن الغرفة تخبئ أسرارها المروعة و بدأ الباب يُفتح تدريجيًا، ببطء يوحي بأن ما وراءه هو الجحيم بعينه فـ رأت عيون الأسد… عيون جائعة تترصدها، تتوهج برغبة متوحشة، تنتظر اللحظة المناسبة للانقضاض عليها..فـ تراجعت للخلف بخطوات متعثرة… وصوت صرخاتها يمزق الأجواء مردده:
افتحولي الباب! بالله عليكم حد يخرجني من اهنيه ! سامعني؟! فيه حد سامعني.. خرجوني بالله عليكم
كانت تصرخ افنان بشده ولكن لا مجيب، لا شيء سوى صوت الحديد الثقيل الذي ينذر بقرب النهاية… فـ تسارعت أنفاسها، ودموعها تسابق الزمن، وهي تشعر أن حياتها كلها تنتهي هنا وكأنها في فيلم رعب مخيف. فـ تمتمت بصوت مرتجف، بالكاد يُسمع وسط شهقاتها:
خلاص… أنا هموت اهنيه … يارب، ساعدني… والله أنا عمري ما أذيت حد. ساعدني، يارب… بالله عليكم خرجوني ابوس يدكم.. حد يخرجني يا عالم
القت افنان كلماتها وكان الباب الحديدي يُفتح أكثر فأكثر، والأسد يزأر بصوت يصم الآذان، يتقدم ببطء لكنه مليء بالعزم، كأنه يستمتع ببث الرعب في قلبها. لم تجد أفنان ملاذًا سوى التراجع للخلف حتى التصقت بجدار الغرفة البارد، وكأنها تحاول الهروب إلى عالم آخر بعيدًا عن هذا الكابوس وبينما كانت تستعد للأسوأ، فجأة، ومن العدم، انفتح باب الغرفة بقوة، وامتدت يد قوية لتجذبها للخارج. كان إلياس.. يهرع لإنقاذها في اللحظة الأخيرة عندما أغلق الباب الحديدي بسرعة، حاجزًا الأسد خلفه، بينما كانت أفنان تنهار بين ذراعيه كانت ترتجف وهي تتشبث به وكأنه طوق النجاة الوحيد، و تبكي بلا توقف. فـ همس لها بصوت منخفض لكنه واثق:
هششش.. اهدي خلاص.. مفيش حاجه دلوجتي انتي في امان
لكن رغم كلماته المطمئنة، لم تستطع أفنان نسيان تلك العيون المتوحشة التي كادت تلتهمها. كانت الغرفة المغلقة قد تركت بصمتها عليها، وكأنها ستظل تطاردها في كل مرة تُغمض فيها عيناها وسرعان ما انتبهت أفنان إلى صوت إلياس، فابتعدت عنه بسرعة وهي تنظر إليه بعينين حمراوين من كثرة البكاء والخوف و تمتمت بصوت مرتجف، يكاد يعكس عجزها وغضبها:
ليه؟! انت بتعمل اكده ليه عاد ؟ ليه دايمًا بتحاول تأذي كل ال حواليك؟ حتى مش بتموتهم وترحمهم! أنت بتكون مبسوط وأنت بتشوفهم خايفين ومرعوبين اكده ؟ انا جسمي بيقشعر منك جسما بالله كل ما اشوفك … أنت مستحيل تكون إنسان، أكيد شيطان… أنا مش فاهمة ليه كل ال بتعمله ده! حرام عليك، ليه و
لكنها لم تُكمل كلماتها و في لحظة، سحبها إلياس إليه بقوة فارتطم رأسها بصدره، بينما رد بصوت بارد خالي من أي مشاعر:
يا بنتي، انتي كنتي هتموتي من شوية… لولا إني أنقذتك وخرجتك من الأوضة في الوجت المناسب. مفيش عندك حاجة اسمها ‘شكرًا ايدا
نظرت إليه أفنان بغضب مشتعل وجاءت لترد عليه، لكن فجأة، تجمدت مكانها و غرست رأسها بين أحضانه تلقائيًا عندما دوّى صوت زئير الأسد مجددًا… حاولت أن تحتمي به رغم كرهها له، لكنها لم تتحمل الضغط النفسي والخوف الشديد. وقبل أن ينطق إلياس بحرف، شعر بتراخي جسدها بين ذراعيه وفقدت وعيها تمامًا فتنهد بضيق، وحدّث نفسه بحدة:
اصل أنا ناجص وجع دماغ… بنت مدلعة، وفرفورة، خايفة من صوت أسد؟! يلا معلش، تستاهل. ولسه أصلًا مشافتش حاجة مني
أنهى الياس كلماته وحملها بين ذراعيه بخفة ثم توجه إلى غرفته، ووضعها على الفراش، ووقف ينظر إليها بضيق وكأن وجودها نفسه عبء عليه. لكن وسط أفكاره الغاضبة، قاطع شروده صوت الخادمة التي دخلت لتخبره مردده :
ألياس بيه… وليد بيه وصل تحت هو ومدام زينة
ارتسمت ابتسامة على شفتيه، وكأن ذكر الاسم أشعل داخله شيئًا مختلفًا و استدار سريعًا وخرج من الغرفة دون أن ينظر خلفه، تاركًا أفنان غارقة في غيابها وبعد فترة، وصل إلياس إلى أحد المنازل الكبيرة، ليكسر هدوء المكان صوت خطوات صغيرة تركض نحوه. ما إن فتح الباب حتى قفزت طفلة صغيرة بين ذراعيه، تعانقه بحب وتردد بسعادة:
ــ “بابا… واحشتني جوي!”
ابتسم إلياس، وربت على خصلات شعرها الناعمة قائلاً:
انتي كمان والله واحشتيني جوي.. اي الجمال دا و
وقبل أن يكمل الياس كلامه اقترب وليد مبتسماً من الخلف وعلق مازحاً:
لا أنا زعلان جوي… أكده تنسيني خالص وأنا ال جاي مخصوص علشانك. يلا هاتي، حضن كبير!”
ضحكت الصغيرة بخجل قبل أن تقفز في أحضان وليد الذي رفعها عالياً، يداعبها بابتسامة عريضة وبعد لحظات، كان إلياس يقف وحيداً في غرفة كبيرة داخل المنزل. الجدران بدت متشققة والأثاث متناثر ومكسور، بينما لفتت أنظاره آثار دماء باهتة على الأرض والجدران، وكأنها تروي قصة مأساوية مضت منذ زمن. عيناه توقفتا على صورة معلقة في منتصف الحائط. اقترب منها ببطء وحدق فيها مطولاً، قبل أن ترتسم على شفتيه ابتسامة حزينة كانت الصورة لفتاة ذات ملامح بريئة، تخطف القلوب بجمالها. تنهد إلياس بعمق، وبدت على وجهه آثار الذكريات الثقيلة، قبل أن يقطع شروده صوت وليد، الذي دخل الغرفة قائلاً بضيق:
ـها يا ابن عمتي… ناوي علي أي؟ لسه منسيتش طول الفتره دي؟ أنا جولتلك نجتلهم يا إلياس
استدار إلياس نحوه بعينين مشتعلتين، وصاح بحدة:
الجتل رحمه ليهم…و أنا مستحيل أرحمهم بالساهل اكده. وائل لسه عايش اصلا وأنا مش هريحه! لازم يتعذب… على كل حاجه عملها في حياته هو ورقيه.. الاتنين هوريهم العذاب الوان.. هخليهم يندموا انهم عرفوني من الاصل
تنهد وليد بحسرة، واقترب منه محاولاً التهدئة، لكنه لم يستطع كتم غضبه واردف بعصبية:
مينفعش تفضل اكده طول عمرك… تنتجم من كل حاجه. وأفنان ملهاش ذنب! هي حتى محاولتش تجتل شيرين الله يرحمها. سيبها تمشي أو سفرها من البلد. لكن وائل ورقية لازم يموتوا! أنت مستني إيه بعد كل ده؟ كفاية انتجام، يا إلياس
صرخ إلياس بغضب، وكأن الكلمات أشعلت جمرة الألم في داخله مرددا:
كفاية؟! هما مكنوش كفاية ال عملوه في نسمه! وائل الحيوان اعتدى عليها، وبعدين هو واخته الزبالة جتلوها! جتلوا مرتي بكل دم بارد يا وليد ، وبتجولي كفاية؟! أنا مستحيل أسيبهم، والله ما هسيبهم مهما حوصل! وأفنان الغبية ال فاكراني شيطان مش عارفه هما عملوا إي…اصلا رقيه نفسها كانت السبب في دخول ابوا افنان السجن لحد ما مات فيه….و أنا…انا مش جادر أنسى شكل نسمه وهي مجتولة قدامي … هدومها متقطعة، مرميه على الأرض. ورقية بعدها جاية تواسيني كأنها مش السبب، وأخوها الحقير خطب بنت عمي كمان… كأنوا عايشين حياة طبيعية بعد كل ده. مستحيل أرحمهم، مستحيل!”
اقترب وليد منه بخطوات مترددة، قبل أن يمد ذراعيه ويحتضنه، قائلاً بهدوء يشوبه الحزن:
ـطيب… استهدي بالله، ومتعصبش نفسك. أهدي، يا إلياس
القي وليد كلماته بحزن لكن ملامح إلياس ظلت متجمدة، وعيناه معلقتان بالصورة، وكأنهما تعيدان له شريطاً من الوجع الذي لا ينتهي..وفي صباح يوم جديد، كانت أفنان تقف أمام القصر، تنظر إليه بدهشة، بينما يعم المكان حركة نشطة للخدم الذين كانوا ينتقلون من مكان لآخر. اقتربت من إحدى الخادمات، وهي تتمتم:
“هو في إي؟ انتوا سايبني أمشي اكده عادي؟ محدش حابسني ليه؟
ابتسمت الخادمة بحذر واردفت:
“إلياس بيه جال اننا لازم ننفذ أي أوامر تطلبيها يا هانم و
وقبل أن تكمل كلامها، صمتت فجأة وهي تحدق خلف أفنان. فـ التفتت أفنان لترى إلياس يقف أمامهما، نظراته ثابتة وملامحه غامضة. فشعرت بالارتباك لكنها رفعت رأسها متحدية:
إنت عايز إي بالضبط؟ بتخطط لإي؟ أكيد هتجتلني… وفين رقية؟ حرام عليك، إنت وديتها فين؟ ده بيت مرتك صوح؟ مرتك التانية ال عندك منها بنت.. انا عارفه كل حاجه علي فكره
بدت كلماتها كالسهم الذي أصاب إلياس، إذ ظهر الغضب في عينيه. واقترب منها بخطوات سريعة، وصوته مليء بالحدة مرددا:
“مين جالك إن بنتي من مرتي دي ال بتتكلمي عنها ؟ بنتي من رقية… هي أم البنت ال بتتكلمي عليها دي
تراجعت أفنان بصدمة، عيناها تبحثان عن تفسير في ملامحه. لكن صوت باب القصر المفتوح شتت انتباهها و فجأة، دفعت إلياس بعيدًا عنها وركضت نحو الخارج بأقصى سرعتها، غير مكترثة بنداءاته المتكررة وما إن وصلت إلى البوابة حتى وقفت في وسط الطريق دون أن تنتبه إلى السيارة المسرعة القادمة نحوها. خرجت صرخة مدوية من إلياس عندما اصطدمت السيارة بها وألقتها أرضًا فـ هرع نحوها بوجه مليء بالذعر، لكنها كانت فاقدة الوعي وفي وقت لاحق، وقف إلياس في المستشفى، ينظر إلى الطبيب الذي أنهى فحصه قائلاً:
“الحالة مستقرة. عندها خدوش وكسر بسيط في القدم، لكن… فقدت الذاكرة. الإصابة أثرت على الرأس، ومش معروف إذا كانت الذاكرة هترجع إمتى.”
القي الطبيب كلماته وترك المكان، فدخل إلياس الغرفة بخطوات مثقلة. وجلس بجوارها، ينظر إليها بتعب مرددا:
حمد لله على سلامتك… حاسة بأي دلوجتي؟”
فتحت أفنان عينيها ببطء، نظرت إليه بارتباك وسألت بصوت ضعيف:
إنت مين؟”
لم يستطع إلياس الرد فورًا، لكنه لم يملك سوى التنهد بإحباط. فجأة، قاطعه صوت أنثوي حاد قادم من خلفه:
“جوزك… دا إلياس جوزك!”
التفت إلياس بسرعة وانفزع من مكانه عندما وجدها تنظر امامه وفجأه و
يتبع….
- يتبع الفصل التالي اضغط على (الغرفة المغلقة) اسم الرواية