رواية عيناك لي المرسى الفصل الخامس 5 - بقلم حنين أحمد
بعد شهرين
(زفاف شروق وشامل)
انتفضت من نومها على صوت دارين وهي تقتحم عليها
الغرفة شاهقة بقوة وهي تراها مازالت نائمة أو هكذا
خُيِّلَ لها:”يالهوي يا شروق انتي لسه نايمة! حد ينام
يوم فرحه للساعة 10؟! قومي يابت ورانا حاجات
كتير عايزين نخلصها”
تأففت وهي تجلس قائلة:”وايه الحاجات الكتير دي ان شاء
الله؟! مفضلش الا الزواق والبس فستان الفرح يعني قبل
المعاد بساعتين كده”
شهقت للمرة الثانية وهي تلاحظ عيني صديقتها
واللتين يبدو عليهما عدم النوم بل والبكاء أيضا.. همّت
بالحديث لتعاتبها ولكنها صمتت في اللحظة الأخيرة..
هي تعلم أن شروق ربما لم تنم لحظة واحدة ليلة أمس
ولولا وجود شقيقيها بالمنزل لكانت باتت ليلتها معها..
تعلم شعورها بالحزن لأن والدها لن يسلّمها لزوجها الليلة
كما كانت تخبرها دوما أنه سيفعل.. فمنذ أن عُقِدَ
قرانها على شامل قبل وفاة والدها بفترة قصيرة وهي كلما
ذكرت زفافها ذكرت معه والدها وكيف سيسلمها
لحبيبها وهو يوصيه بها خيرا فهي قرّة عينه.
دمعت عيناها رغما عنها وهي تتذكر الرجل الذي عرفته
طوال حياتها تقريبا فقد كان جارهم وصديق مقرّب
لوالدها ولم ترَ بحنانه وحبه لأولاده وخاصة شروق..
كان ينظر لها والفخر يلتمع بعينيه دوما وعندما كانت
والدتها تخبرها أنها كانت تتمنى لو أنجبت الذكور أولا
حتى يكونوا حماية لشقيقتهما من غدر الزمان كان
يجيبها أنها أفضل من مائة ذكر قد يأتي وأنها هي من
ستكون سندا ودعما لأخوتها وهو على يقين من ذلك.
تنهيدة فلتت منها لتضم صديقتها تمنحها دعمها بصمت
لتجهش الأخرى بالبكاء الذي كبحته طويلا وهي تقول:
“كان نفسي يبقى معايا اوي يا دارين, كان نفسي يشوفني
بفستان الفرح ويسلّمني ل شامل ويوصيه عليّا برغم انه
عارف انه المفروض يوصيني انا عليه.. كان نفسي
يحضني ويبوسني ويقولي اني جميلة وانه نفسه يشوف
ولادي بيلعبوا حواليه, كان نفسي ولادي يجوا يلاقوا
جدهم ويبقوا فخورين بيه, فخورين ان الراجل البسيط ده
اللي مكملش تعليمه قدر يخرّج ولاد زينا ويربيهم احسن
من ناس كتير معاها الفلوس والتعليم والسلطة كمان..
كان نفسي يلعب معاهم ويدلّعهم وانا اقوله انه هيبوّظهم
ويقولي كانت امهم باظت قبلهم.. وحشني اوي يا دارين
محتاجاله اوي.. اوي”
سالت دموع دارين تشاركها البكاء وهي تحاول أن تجد
صوتها لتواسيها ولكنها لم تجد حتى الكلمات التي
يمكن أن تخفف عنها.. فأي كلمات يمكنها أن تواسي
بوفاة الأب!! أي كلمات يمكنها تخفيف ألم الفراق!
كلها كلمات عقيمة, فارغة, لا تغني ولا تسمن من جوع.
ربتت على كتفها وهي تهمس:”ادعيله يا شروق, ولما
ولادك يجوا احكيلهم عن جدهم واد ايه انتي فخورة
بيه وباللي عمله عشانكم”
بعد فترة كانا قد هدآ فاصطنعت دارين المرح وهي تقول:
“يالهوي على منظرك! بقى ده منظر عروسة يا ولاد؟
ده الراجل هيهرب منك لآخر بلاد المسلمين لو شافك
كده, قومي ياللا ورانا شغل كتير, خلينا نبدأ بعنيكي
اللي عاملة زي الطماطم الحمرا دي”
ابتسمت شروق مستجيبة لمزاح صديقتها وهي تنهض معها
للبدء بتحضيرات الزفاف .
****
دلفا إلى الشقة بهدوء لا ينم عن حالهما وخاصة هو..
من صُدِمَ بما سمعه منذ قليل!
وكما توقعت فقد انفجر بها ما إن دلفا إلى الداخل:
“انتي ازاي ماتقوليش على حاجة زي دي قبل كده؟!”
رمقته بهدوء أشعل غضبه أكثر وهو يهتف:”انتي ساكتة
ليه؟ انتي كنتي عارفة صح؟ كنتي واخداني معاكي
بس لأنك ماقدرتيش تقوليلي!”
تحدثت وهي تشعر بغصة من صدمته, تشعر بالحزن لأجله
ربما أكثر مما تشعر بسبب حالتها:
“اهدا يا نضال, صدقني انا اتصدمت زيك ويمكن اكتر
لأني متابعة من وقت ما ربنا شفاني قبل سنين وماتخيلتش
انه ممكن يرجع تاني والمرة دي…”
صمتت للحظات قبل أن تتابع:”والمرة دي شكلها الأخيرة
وهرتاح منه للأبد”
انقبض قلبه فاقترب منها وضمها لصدره وهو يشعر بالحزن
الشديد من أجلها:”ماتخافيش يا نوال, انا جنبك ومش
هسيبك أبدا..إن شاء الله ربنا هيشفيكي وهي…”
قاطعته وهي تضع أناملها على شفتيه:”لا يا نضال, مش
عايزاك تعيش على أمل مش حقيقي.. انت سمعت كلام
الدكتور.. الحالة متأخرة والمرض انتشر بسرعة..
المرة دي جاي عشان ياخد روحي وصدقني أنا مستعدة
أكتر من المرة ال فاتت”
ابتسمت له بحب وهي تقول:”كفاية اني اتجوزت واحد
زيك, انا لو كنت حطيت مواصفات لفارس أحلامي عمري
ماكنت هطلعه بالكمال بتاعك ده.. انت فيك كل
حاجة حلمت بيها, شهم وحنون.. عمرك مازعلتني
ولا اتضايقت مني ولا حتى كشّرت في وشي, أصحابي اللي
متجوزين عن حب دايما بيشتكوا من أزواجهم وأد ايه
بيعانوا معاهم وكل ما اسمع كلام حد فيهم أحمِد ربنا
انه رزقني بيك.. جواز صالونات زي ما بيقولوا لكن
أحسن من 100 جوازة عن حب.. كفاية رقتك معايا
رومانسيتك اللي حسستني اني بطلة من بطلات الروايات
اللي كنت بقراهم زمان.. عيّشتني أميرة من وقت ماتجوزنا
حقيقي انا مقدرش اعترض على قضاء ربنا واقول ليه
رجّعلي المرض تاني.. بالعكس ده انا كل يوم هصلي
ركعتين شكر لله انه رزقني بيك”
كان يستمع لكلماتها وهو متجمدا لا يعلم ماذا يقول!
لِمَ تودّعه؟! ربما حالتها متأخرة نوعا إلا أنهما سيحاربان
حتى ينتصرا على هذا المرض.. لن يتركها تستسلم له.
“ماتتكلميش بالطريقة دي تاني, انتي هتبقي كويسة
وتعيشي وهنقضّي سنين مع بعض كمان لحد ماتزهقي
مني.. انا اللي بحمد ربنا انه رزقني بيكي, انسانة
محترمة وهادية.. لا في يوم نكّدتي عليا ولا كشّرتي
في وشّي حتى لو ضايقتك.. عشان خاطري قاومي وحاربي
عشان نقدر نهزم المرض ده.. بلاش نبرة الاستسلام اللي
في صوتك دي”
ابتسمت له بحنو وهي تشعر أنه كالطفل الذي يتوسل
لأمه حتى لا تتركه فضمّت نفسها له وهي تشعر
بالراحة لأنها ستموت وبجانبها زوجها نضال.. وكل ما
تتمناه ألا يحزن عليها كثيرا ويعود لمواصلة حياته
بعد موتها وهذه المرة مع الفتاة التي تعشقه .
***
عادت مع أسرتها إلى المنزل وهي تشعر بالألم.. فهو لم يأتِ
حقا كما أخبرها وهي التي ظنّته سيأتي من أجلها حتى لا
تحزن.. ابتسمت بسخرية وهي تدلف لغرفتها تفكر ومتى
اهتم بحزنك أو سعادتك دارين؟! هو لا يفكر بكِ على
الإطلاق بل أحيانا تشعر أنه لا يحبها أبدا!
فتارة يعاملها جيدا ويتقرّب منها وتارة أخرى يعاملها بجفاء
وغلظة وكأنها عبء يثقل كاهله!
لم تعد تفهمه حقا.. بل هي لم تفعل منذ البداية.
زفرت بحنق وهي تستلقي على الفراش بعدما أبدلت
ملابسها ليصها صوت رسالة على تطبيق الواتس آب
فانفرجت أساريرها وهي تعتدل ملتقطة الهاتف بلهفة
تظنّه هو.. بالتأكيد سيعتذر عن عدم حضوره ويطلب
سماحها وهي بكل تأكيد ستسامحه.. أليس حبيبها
وخطيبها!
فتحت الهاتف لتجدها رسالة من رقم غريب لتتجمد حرفيا
بعدما فتحت الرسالة لترى المحتوى وليتها ما فتحتها
وليتها ما رأت!
عدة صور له بحفل مولد إحدى زميلاته بالعمل وبالطبع
علمت شخصية تلك الزميلة من الرسالة المكتوبة
المرفقة مع الصور..
(قولتلك قبل كده انه مايستاهلكيش لكن انتي
مصممة.. شوفيه بقى وهو في عيد ميلاد زميلته المقربة
وحطي تحت مقربة دي كام خط كده, ملازمها طول
الوقت وقاعد لحد ما الحفلة خلصت.. لا ومش كده
وبس ده جايبلها خاتم ذهب وكارت فيه كلام مايتقالش
إلا لحبيبة أو خطيبة.. مع انه مارضاش يروح معاكي فرح
صاحبتك وقالك انه تعبان ومالوش مزاج يروح في حتة
آه وعارفة الساعة الجديدة اللي قالّك عليها هدية من
واحد صاحبه.. هي اللي كانت جايبهاله في عيد ميلاده
اللي فات وعملتله حفلة كمان خاصة مافيهاش غيرهم
هم الاتنين.. ولو مش مصدقاني اسأليه أو أقولك روحيله
الشغل وشوفيهم وهم قاعدين مع بعض طول اليوم..
ياريت بقى تفوقي من الوهم اللي انتي عايشة فيه وتعرفي
انه لا بيحبك ولا يستاهلك)
كانت هذه هي الرسالة المُرفَقة للصور وجميع الصور
ملتقطة له مع فتاة ينظر لها نظرات لم ترها أبدا بعينيه
ويبدوان حقا مقربان كما ذُكِرَ بالرسالة ..
أغلقت الهاتف ووضعته مكانه وهي تشعر بالخواء يحيط
بقلبها الذي منحته له دون مقابل.. وماذا كانت النتيجة؟
هي ليست غاضبة بسبب الفتاة.. هي غاضبة لكذبه
عليها وخداعه لها, يتظاهر بالقيم والمبادئ وهو أبعد ما
يكون عنها.. تذكرت كيف جرحها عندما أحضرت له
هدية بيوم مولده وامتنعت عن الاحتفال فكما أخبرها
قبلا أنه لا يحب الاحتفالات..
“ايه ده؟!”
سألها فأجابت بدهشة:”هدية ليك”
“مانا فاهم انها هدية أقصد بمناسبة ايه؟!”
ابتسمت له قائلة:”عيد ميلادك بكرة انت ناسي!
كل سنة وانت معايا”
انمحت ابتسامتها على الفور وهو يهتف بها بغلظة:
“أنا مش قولتلك مابحبش الهبل ده؟ عيد ميلاد ايه
وكلام فارغ ايه؟ تجيبي هدية ماشي عادي.. لكن عيد
ميلاد وكلام فارغ من ده لا خالص مش هاخدها”
ارتعشت شفتاها وهي تحاول النطق دون جدوى.. مصدومة
من هجومه الغريب عليها دون وجه حق!
“انا جيبتلك هدية بس ماعملتش احتفال ولا حاجة من
اللي بتكرههم يا أسامة.. أنت ليه بتعاملني كده؟
يعني الحق عليا اني جيتلك مخصوص لحد مكان
شغلك وقعدت ألف على الهدية يجي أسبوع عشان ألاقي
حاجة تناسب ذوقك.. عموما أنا آسفة اني جيت او
جيبتلك حاجة وادي الهدية هاخدها معايا عشان
ماتضيقكش”
وقتها انصرفت غاضبة, حزينة, تشعر أنها قلّلت من نفسها
كثيرا خاصة أن والدتها أخبرتها أن تمنحه الهدية عندما
يزورهم ولكنها لم توافق بل أصرّت على الذهاب..
وما النتيجة؟!
جرح آخر لكرامتها منه!
احتدت عيناها وهي تتذكر أنه هاتفها يومها يطلب منها
مسامحته فقد كان غاضبا من شيء بالعمل فاحتد عليها
وظلّ يمزح معها إلى أن أخبرته بمسامحته فأخبرها أنه
سيحضر باليوم التالي حتى يأخذ هديته وهي كالعادة
سامحته ما إن اعتذر .
والآن وهي مستلقية على الفراش تفكر كم كان
اعتذاره واهيا وكم كانت مخدوعة به!
يفرض عليها أشياءا ويفعلها هو.. يرفض اختلاطها بزملائها
حتى لو في حدود الدراسة ويذهب هو لحفل زميلته!
يرفض حضور حفل مولدها ويرفض هديتها ويتلقى الهدايا
والاحتفالات من زميلته.. سخرت بقوة وهي تنهر نفسها على
الدموع التي تسللت لوجنتها مغافلة إياها:
“وياترى هي زميلتك بس وال حاجة تانية؟! وانا اكون
ايه في حياتك يا أسامة؟!” .
****
هذه القطة الشرسة أتعبت قلبه العاشق!
فتارة تلاوعه.. وتارة تخضع له!
تارة تقترب حد الالتحام.. وتارة أخرى تبتعد هاربة
منه وكأن شياطين الجحيم تطاردها!
دلفت إلى الشقة وهي تشعر بقلبها سيقفز من مكانه
من التوتر.. حاولت الظهور بمظهر هادئ وهي تتجول
بعينيها بأرجاء الشقة وارتسمت ابتسامة سعيدة على
شفتيها دون إرادة منها.. الشقة التي أمضت أيامها السابقة
بها مع دارين حتى تجهزها لاستقبالها.
ربما لم تكن شقة فاخرة أو فخمة فقد تم تجهيزها
حسب إمكانياتهما ولكنها تمتعت بكل لحظة جهّزتها
فيها وهي تشعر أنها تجهّز مملكتها.. منزلها مع حبيبها
الذي احتملها وصانها طوال حياتهما.. فشامل بالنسبة لها
لم يكن محض عريس مناسب أو حتى حبيب, هو صديق
طفولتها ورفيقها.. يفهمها ربما أكثر مما تفهم نفسها,
يحبها ويصونها ويقوّمها ولكن بحنو ورفق جعلها تغرق
بحبه دون أي إرادة منها وهي التي ظنّت يوما أنه تستطيع
الابتعاد عنه ومعاملته كصديق فقط ولكن الأيام أثبتت
لها أنها تعشقه ولا تتمنى.. بل لا ترى زوجا سواه .
أجفلت على همسة بجانب أذنها:”نورتي شقتك ياحبيبتي”
عضّت شفتيها بخجل لتسمع ضحكته الخافتة ثم
نبرته العابثة وهي تقول:”مابلاش الحركة دي احسن
العواقب مش هتبقى كويسة أبدا ولسه فيه حاجات
هنعملها الأول”
رمقته غاضبة وهي تقول:”ماتحترم نفسك يا شامل!”
رمقها بصدمة مفتعلة وهو يقول:”انتي بتقولي ايه؟
ينفع تقولي كده لجوزك يا شروق؟ وفي ليلة فرحنا؟”
ظهر على وجهها الندم وهي تقول:”أنا أسفة يا شامل مش
قصدي أنا بس…”
قاطعها ضاحكا:”طبعا مش قصدك.. قال احترم نفسي
قال.. لو احترمت نفسي النهاردة امّال هقل أدبي امتى؟!
ده النهاردة يوم قلة الأدب العالمي”
نهرته وهي تكاد تختفي من الإحراج:”شامل!”
“عيون شامل اللي طلّعتيها, قلب شامل اللي بيموت فيكي
روح شامل اللي تروح فداكي”
ابتسمت بخجل وهي تقول:”ربنا يخليك ليا يا شامل
ومايحرمنيش منك أبدا”
اتسعت ابتسامته وهو يهتف:”يابركة دعاكي يا أمي,
طب مش يالّا بقى”
تبعها بغمزة ذات مغزى لترمقه بصدمة وهي تقول:
“يالّا ايه؟”
تابع بنفس النبرة العابثة المصحوبة بالغمزة:
“يالّا ندخل جوه هنفضل واقفين في الصالة كده؟”
ارتبكت وتلعثمت بالحديث:”ايه؟ ندخل جوه ليه؟!
لا.. لا هنا حلو خلينا هنا”
رفع ذراعيه وكأنه يهم بحملها قائلا:”معنديش أي
مشكلة, أنا الحمد لله عامل حسابي وجايب كنبة
مريحة وزي الفل هتحبيها اوي” .
- يتبع الفصل التالي اضغط على (عيناك لي المرسى) اسم الرواية