Ads by Google X

رواية طائر النمنمة الفصل الخامس 5 - بقلم ملك العارف

الصفحة الرئيسية

 رواية طائر النمنمة الفصل الخامس 5 - بقلم ملك العارف 

"طائر النمنمة" 
الفصل الخامس "الجزء الأول" 

"إن غبت عنّي أَو حَضرت
فلست عن عيني تَغيبُ

لكن أَرى عيشي إِذا
ما غبت عنّي لا يَطيبُ

وعلى كِلا الحالين منكَ
فأَنتَ -واللّٰه- الحبيبُ".

_بهاء الدين زُهير 

مساءًا
طرقت باب الغرفة ودلفت، وجدته يخرج من المرحاض و تقدم نحو الفراش ينوي النوم، لكنها وقفت أمامه تفرك يديها بتوتر جلي فوق ملامحها
عقد حاجبيه بتعجب وسألها: 
في إيه؟ 

رفعت عيناها إليه وهمست: 
ممكن…ممكن يعني تقعد ٥ دقايق، عايزة اتكلم معاك في موضوع مهم. 

حول بصره لساعة الحائط وسأل مستنكرًا: 
موضوع مهم الساعة ١ ونص، ميستناش كام ساعة للصبح؟ 

هزت رأسها بنفي: 
لا، مش هاخد منك وقت كتير. 

هز رأسه موافقًا جلس علي طرف الفراش و أشار لها لتجلس، تنهدت وهي لا تدرِ ماذا تقول، هربت كل الكلمات التي جلست ترتبها لأيامٍ طويلة، نظرت له فوجدته يحدق بها منتظرًا 

تلعثمت كلماتها فنطقت: 
فاكر لما جيت تتقدملي قولتلي إيه؟ 

نفخ الهواء من فمه بملل قائلًا: 
آية، مش وقت مقدمات، أدخلي في الموضوع. 

تجاهلت جملته وهي تلقي علي مسامعه قوله السابق: 
قولتلي هندي لعلاقتنا فرصة لو ارتحنا نكمل، لو لاء هننفصل عادي…فاكر؟ 

ساد الضيق فوق ملامحه ونظراته، يشعر و كأن القادم لن يسُره، هز رأسه بموافقة، ينتظر و بشدة جملتها التالية
ابتلعت لعابها بمرارة، أكملت: 
أنا فكرت كتير قبل ما اقولك الكلام ده علشان مرجعش أندم وعلشان مبقاش حاسة إن حد مننا ظلم التاني معاه…

قاطعها بسؤاله: 
قولي اللي عايزة تقوليه يا آية. 

دمعت عيناها وهمست ولكنه سمعها
عايزة أقولك…يعني…أنا عايزة أتطلق يا طه. 

سمعها وكأن العالم بأكمله صمت لتصدح تلك الكلمة بفؤاده تصفعه، وقف ينظر لها وقد نكست رأسها بحزن و هي تبكي بصمت، فصاح مستنكرًا: 
إيه قولتي إيه، أنا أكيد سمعت غلط! 

هزت رأسها بنفي ولم تتحدث بل زاد بكائها و ارتفع صوته، جذبها من مرفقها يوقفها وسألها: 
يعني إيه، أكيد بتهرجي، مهو ده كلام ميتصدقش. 

خرجت عن صمتها و اجابته بقوة لا تعلم من أي جائتها: 
لا يا طه مش بهرج، أنا عايزة اتطلق، خلاص تعبت من العيشة دي.

ما لبث أن يجيبها فصدح صوت رنين هاتفها علي الكرسي بجانبها، حادت ببصرها نحوه لتجد أن المتصل ليس سوي والدتها، قفز قلبها فزعًا من أن يكون قد أصابها هي أو والدها مكروهًا، ترك مرفقها وهرعت هي نحو الهاتف، اجابت وقبل أن تتحدث سبقتها والدتها التي صاحت بإنهيار: 
إلحقيني يا آية أبوكي تعبان أوي. 

تجمدت الدماء بعروقها وهمهمت: 
بابا…بابا ماله…ردي عليا يا ماما حصله إيه. 

اقترب منها، سألها بقلق: 
في إيه؟ 

لكنها لم تنتبه له كان الأنتباه من نصيب والدتها وهي تبلغها: 
معرفش جراله ايه، كان واقف وبيتكلم في التليفون وفجأة وقع من طوله و مبيردش عليا…

لم تعد تتحمل سماع اكثر من هذا، كاد الهاتف أن يسقط من يدها لولا تلقفه هو منها وهو يحادث والدتها، هتف بعد أن فهم منها ما حدث: 
طيب اهدي متقلقيش أنا هجيب آية و نيجي علي المستشفي دلوقتي حالًا، إن شاء الله خير. 

بينما جلست هي أرضًا ولازالت تهمس
"بابا"

لا بكاء ولا صراخ ولا دموع فقط عدم التصديق، و الخوف من فقدانه، هل يرحل و يتركها؟ 
و تخشي أن تكون الإجابة نعم، تخشي أن يكون وداعه قد اقترب، من أين لها أن تستمد قوتها إن لم يكن والدها فمن من؟ 
من سوف يساندها في قرارها الذي أتخذته و اخبرتمبه زوحها منذ دقائق بسيطة،لا تعلم كل ما تريده هي رؤية والدها الأن.
★***★***★***★***★***★***★***★***★***★
في الطريق إلي المستشفي
أطبق الصمت عليهما في السيارة لم يقطعه سوي صوت بكائها الخافت بين الفنية و الأخري، بينما كان ينقل هو بصره بينها و بين الطريق، يرتسم الحزن علي وجهه لما أصاب والدها، و الضيق لتلك الدموع التي تذرفها يود لو احتضنها و بث لها الطمأنينة بتربيته فوق كتفيها أو ببعض الكلمات التي قد تهدأ من خوفها ولكن لازال طلبها يتردد في أذنه، تريد منه أن يُطلقها! 

غضب كبير ملاء قلبه من هذه الفكرة، يرفض بل و يرفض بشدة أن تفترق عنه، كيف له أن يتركها بعد أن أدرك بأنها ملاذه؟ 

تعلق السؤال بقلبه بخنجر الحيرة و نفض عن رأسه كل تلك الأفكار و أولي تركيزه لها، صف سيارته بجانب الرصيف الموازي للمشفي و هبط يتجه نحو بابها يفتحه وهمس: 
أنزلي يلا. 

أخرجت قدميها و أنزلتها فوق الرصيف و لم تقدر علي إتيان حركة أخري، نفذت كل طاقتها، ولكن نظراته لها كانت تبثها الأمل دون أن يتفوه بكلمة، ما جعلها تستجمع ذاتها و تستقيم خارج السيارة

احكم قبضته فوق يدها وسار للداخل يجذبها خلفه، حتي وقف أمام موظف الاستقبال يسأله عن والدها، أملاه الموظف رقم الغرفة و أسم الطبيب الذي استقبله، انفرج باب المصعد في الطابق المنشود كانت والدتها تقف بالممر تنظر له من خلال النافذة حيث يرقد فوق الفراش لا حول له ولا قوة، اقتربت منها آية و ما أن رأتها حتي أحتضنتها و أنهارت بالبكاء بينما تبدل حال آية من الضعف للقوة و هي تحتويها و تربت فوق ظهرها: 
هيبقي كويس يا ماما والله، خلي أملك كبير في ربنا. 

اقترب منهن و سأل: 
الدكتور قال إيه لحضرتك؟ 

عادت تنظر له من الزجاج وهتفت: 
أزمة قلبيّة، هما عملوا اللازم، بس قالي يستحسن يفضل أسبوع هنا علشان شاكين إن ممكن تحصل مضاعفات. 

هز رأسه بموافقة وقال: 
بإذن الله خير…

تردد قليلًا ولكنه قال: 
تحبي أروح حضرتك و الصبح بدري أجيبك؟

هزت رأسها بنفي وهي تنظر له: 
لا ياحبيبي أنا مش همشي من هنا غير معاه، مقدرش أدخل البيت منغيره. 

هز رأسه بتفهم، الإصرار بعينيها منعه من قول المزيد، تركتهم و تحركت تجلس فوق أحد المقاعد بالناحية الأخري

أقترب من آية ربت فوق كتفها دون التفوه بأي كلمة، و لكنه تفاجأ بها تحتضنه بخوفٍ و كأنها تخشي العالم خارج نطاقه، لم يبقي في صدمته طويلًا أحاطها بذراعيه الكبيرين و كان يهمس لها بين الثانية و الأخري بأن تطمئن، و سط بكائها الخافت

صباحًا

وقفت آية تجاور والدتها التي جلست فوق طرف الفراش تمسك كف والدها و تبكي بحرقة و هي تقبلها تخبره من بين دموعها: 
ألف حمد الله علي سلامتك يا حبيبي، كده تخضني عليك، عايز تسيبني لوحدي و تمشي يا فاروق، هونت عليك. 

ما لبث أن يجيبها فقطع حديثه دلوف طه الذي ذهب يجلب لهم طعامًا بعدمت رفضت كلتاهما النزول لتناوله بالمطعم المجاور للمشفي، وجده وقد استفاق فـ اقترب منه يقول: 
حمد الله علي سلامتك يا سيادة اللواء. 

قال بصوتٍ واهن بان فيه مرضه: 
الله يسلمك يا طه، تعبتكم معايا. 

ردت آية و التي عادت لها الحياة بعودة صوت أبيها يتردد علي أسماعها: 
تعبك راحة يا نور عيني، المهم تقوملنا بالسلامة و ترجع بيتك. 

ابتسم لها ابتسامته التي تشعرها بالدفء، مهما كبرت و مهما مر بها العمر، تبقي بحاجةٍ له، مهما اجتمع من حولها المحبين، كان لا جدوي منهم إن لم يكن هو من بينهم، إن لم يكن والدها و حبيبها الأول منهم. 

★***★***★***★***★***★***★***★***★***★

من جديد تجلس بسيارته بعدما طلبت منها و الدتها أن تذهب للبيت و تحضر لها و لوالدها بعض الثياب و ما إلي ذلك من أشياءٍ قد يحتاجانها في فترة بقاء و الدها بالمشفى، انتظرت ركوبه جوارها لتقوب بجمود دون النظر له: 
أطلع علي شقتنا الأول علشان عايزة أجيب حاجات ليا منها. 

لم يجبها و لكنه لبي لها طلبها، حيث صفت سيارته أسفل البناية التي يسكنان بها، انفتح باب المصعد فسبقته للداخل، اتجهت نحو خزانتها و فتحتها، قاطع ما تقوم به قوله و هو يجذب ثيابًا أخري و يتجه للمرحاض: 
هاخد شاور تكوني خلصتي علشان ننزل. 

احتفظت بصمتها الذي جعله ينفخ الهواء من فمه كـ رد فعلٍ علي تصرّفها، انتظرت إغلاقه لباب المرحاض لتخرج حقيبتها الكبيرة من  أسفل ثيابها المعلقة، وضعتها فوق الفراش و بدأت في إلقاء الثياب داخلها بعنفوان واضح، قاومت ببسالة تلك الغصة العالقة بحلقها تأبي أن تنجرف ورائها، و زاد من ألمها تلك الدموع التي إلتمعت بمقلتيها تُنذر بإنهيار ذلك القناع و لكنها مسحتها بعنف حتي أخذت ما أرادت، أغلقت إحدي رفوف الدولاب فطالعها إنعكاس و جهها بالمرآة المثبتة بظهره، ملامح ذابلة، و عيون حمراء بها دموع محتبسة، و مشاعر مهدورة، و أحاديثٌ مبتوروة، و بقايا جثمان حُبها له. 

يقال أن ما يفضح مشاعر المرء عيناه، فيمكنه أن يزين قوله و يِجمّل فعله و أن يداري بُغضه ببسمته، و لكن إن نظرت بعيناه؛ ذهبت كل محاولاته سدي. 

أنهارت دمعاتها سخينة تنم عن حرارة فؤادها همست لنفسها: 
أنتِ ماشية من هنا يا آية علشان من الأول ده مش مكانك. 

ابدلت ثيابها، و أغلقت الحقيبة و جلست فوق طرف الفراش تنتظر خروجه و ردة فعله علي قرارها، بالتأكيد ستخوض معه نقاشًا حادًا، و بالفعل حينما خرج من المرحاض و هو يقوم بثني أكمام قميصه الرمادي رفع رأسه لها سائلًا: 
خلصتي…
و لكنه قطع جملته حينما، رأها تجلس جوار هذه الحقيبة فنظر لها بتعجب و لكنها لم تنطق بشيء، قال بغضب يحاول كبته داخله: 
إيه الشنطة دي كلها؟ ثم إن ممكن تيجي تغيري هنا مش محتاجة حاجة زي و الدتك. 

هزت رأسها بالإيجاب و قالت: 
الشنطة دي هسيبها في الفيلا عند بابا 

اتضح له ما يتجاهله فقال بضيق: 
افهم من كده إيه؟! 

نظرت بعيناه تخبره: 
تفهم من كده إن بابا هيخرج من المستشفي علي بيته و أنا معاه، و هستني منك و رقة طلاقي في أقرب وقت 

بان أنفعاله في جملته: 
بقولك إيه بلاش كلام فارغ، مفيش حاجة من اللي بتقوليه ده هتحصل، و يلا علشان منتأخرش عليهم. 

قالها و اتجه نحو الكرسي يلتقط سترته و لكنه توقف لقولها: 
مفيش حاجة هتحصل غير اللي بقوله ده يا طه، و بلاش تخليني أدخل بابا أو والدك في الموضوع و يخسروا بعض، خلينا نخلصهأ كـ اتنين كبار ناضجين. 

ضحك و هو يبتعد عنها، وقف أمام طاولة الزينة و جذب الفرشاة يمشط بها شعره و قد زادت ضحكته، عقدت حاجبيها بغضب وهي تقف خلفه تنظر لأنعكاسه بالمرأة تسأله: 
إيه اللي بقوله يضحك. 

غمغم بكلمات غير مفهومة و لازال مبتسمًا، إلتقط عطره ينثره فوق ثيابه و استدار لها يجيبها: 
أصلك طلعتي بتحبي تهربي فعلا زي ما قولت، مش مجرد نفسك قصير. 

بقيت تنظر له دون إتيان أي ردة فعل، ثم هزت رأسها بالموافقة، إزداد تعجبه و هو يستمع لها: 
تصدق عندك حق، أنتَ صح، أنا أصلًا جبانة. 

اقتربت منه و قد تقلصت المسافة بينهما تمامًا، نظرت بعيناه و هي ترفع رأسها له نظرًا لفارق الطول: 
و أنا مرضاش لحضرة الظابط المغوار إن مراته تكون بالمواصفات دي فـ أنا بعفيك من الحرج و بقولهالك صريحة أهي يا طه، طلقني. 

ابتسم و هو يربت فوق وجنتها برفق و أجابها: 
مفيش طلاق. 

لملم متعلقاته و خرج من الغرفة بعد قوله: 
هاتي شنطتك البينك دي و حصليني يلا. 

دبدبت الأرض بقدمها و هي تنظر للحقيبة: 
قليل الذوق، هشيلها إزاي دي و حدي؟! 

★***★***★***★***★***★***★***★***★***★

من جديد عاد كلاهما للمشفي وقد تلبسها الغضب الشديد منه بينما إرتدي هو ثوب اللامبالاة لكل ما تفعله، انفتح باب المصعد فدخلت و هي تتذكر كيف أغلق السيارة بعد هبوطها و حقيبتها بالداخل فلم تستطع إدخالها للبيت و رغم تذمرها الشديد إلا أنه أغلق النوافذ و أخذ يدندن مع الموسيقي التي خرجت من الراديوا دون أهتمام بها، حتي جلبت ما طلبته و الدتها من الداخل و عادت له، وصلا للغرفة و بعدما اطمأن لاستقرار الجميع قرر الذهاب لعمله. 

وهكذا سارت الأيام القليلة التالية يذهب لعمله و من ثم يعود لمنزل والديه لتبديل ثيابه، فكان يرفض عقله الذهاب لشقتهما  وهي ليست موجودة بها، و يعود للمشفي يبيت ليلته معهم وسط نظرات والدتها لهما و مراقبتها لجفاء ابنتها الملحوظ لزوجها، و في يوم خروج والدها من المشفي كان قد عاد من عمله مبكرًا حتي يصطحبهم للبيت

وقفت جواره و همست دون النظر له: 
شنطتي فين؟ 

وضع يديه بجيب بنطاله و أجاب ببرود: 
في بيتنا أكيد. 

عقدت حاجبيها مستنكرة: 
نا!…مفيش نا دي تاني، أنا ماليش بيت تاني غير بيت بابا.

نظر لها و قد ارتسم علي ملامحه شيء غير مفهوم: 
لا ليكِ شقتنا اللي كنتي بتقولي فيها شعر، و مش بترتاحي غير فيها، فمتحاوليش تقنعيني إنك مش مفتقداها و نفسك ترجعيها دلوقتي. 

هزت رأسها بنفي: 
مش صح، أنا مش عايزة أرجعها تاني، سيبتهالك مخضرة أنا و الرغي بتاعي و كلامي اللي مش بتديله أي اهتمام و…

قطع استرسالها نظرات والدتها المصوبة نحوهما، و لم تتمكن من منع نفسها من أن تسأل: 
أنتو مالكم في إيه، أنتو متخانقين صح؟ 

هز كلاهما رأسه بالنفي بسرعة دون التفوه بأي كلمة، فهزت رأسها تؤكد قولها: 
يبقي متخانقين، نرجع البيت و لينا كلام تاني بعيد عن فاروق علشان ميتعبش. 
★***★***★***★***★***★***★***★***★***★

أغلقت و الدة آية باب مكتب زوجها بعد أن أدخلت كليهما و استدارت تنظر لهما، كان كل منهما يجاور الأخر و قد صوبت نظراتهما للأرضية، كانا يشبهان زميلين بالمدرسة قاما بأفعالٍ مشاغبة وقبض عليهما أحد الأساتذة و جذبهما حتي مكتب الناظر، قررت أن تتعامل معهما علي هذا الأساس فتوجهت نحو كرسي زوجها جلست فوقه و عقدت كفيها ببعضهما وهي تسأل بهدوء: 
ها مين فيكم حابب يتكلم الأول؟ 

بقي كلاهما صامتًا لا رغبة لديهما لقول أي شيء، فعادت والدتها تسأل: 
زعلان من آية ليه يا طه؟ 

غمغم برده: 
أنا مش زعلان من حد. 

أعادت صياغة سؤالها: 
زعلانة من طه ليه يا آية؟ 

لا جدوي من الكذب وكثرة الحديث لذا قالت ما لديها: 
ولا زعلانة منه ولا حاجة أنا عايزة أتطلق. 

جملتها التي جعلته ينهض من جانبها متأفأفًا: 
يووه بقي. 

بينما تفاجأت و الدتها مما قالته: 
و بعدين معاكم، حد منكم يفهمني إيه اللي حصل لده كله. 

نهضت آية و جلست فوق الكرسي المقابل لوالدتها تقول: 
ماما أنا و طه مش مبسوطين سوا.... 

قاطعها هو بقوله الحاد: 
أتكلمي عن نفسك بس. 

نظرت لوالدتها بعيناها و كأنها تخبرها "شايفة بنفسك" 
عادت تكمل: 
و لا أنا فهماه و لا هو فاهمني، مفيش لغة حوار بينا، مفيش حاجة مشتركة بنعملها سوا، أنا مش حاسة إني متجوزة، ربنا قال جعلنا لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها و جعلنا بينكم مودةً و رحمة، بس أنا مش حاسة بـ ده، طه بعيد عني يا ماما، مش بيقرب و لو قرب بشوف في عنيه ندم، بحسه بيتعامل بحذر، خايف يقرب مني، و أنا مش فاهمة ليه كل ده! 
حاولت كذا مرة معاها، اديته أكتر من فرصة يتكلم، يقول ماله، يقول إيه اللي عايز يغيره أو إيه اللي مخليه كده، أي حاجة يا ماما مفيش، أنا لو بتكلم مع حيط كان هيعمل أي ردة فعل حتي لو هيقع فوق دماغي، لكن طه مفيش، مفيش أي حاجة. 

نظرت له والدتها و أشارت: 
تعال يا طه أقعد علشان نتكلم. 

اقترب و جلس، فسألته: 
صحيح الكلام ده يابني؟ 

هز رأسه بالإيجاب: 
أيوة، بس مش كله، ده كله كان في بداية جوازنا، بس مع الوقت بقيت بتغير، المسافة اللي بينا بدأت تقل، بقيت بحاول اتغير، و قولتلها الكلام ده بس هي رمته في الزبــ،الة و طلبت الطلاق عادي جدًا، و كأن مفيش حاجة واحدة بس تغفرلي، مفيش فعل واحد بس يديها أمل و تصبر عليا شوية، عايزة كله جاهز، أنا لو في حاجة عايز أحكيها هتكلم أكيد و…

قاطعته بتحدٍ زهي تنظر له: 
لا يا طه مفيش لو، أنت عندك حاجة تتحكي و بتخبي و بتداريها و أنا صابرة. 

نظر لها وقد لعب الشك لعبته بعقله بان هذا في نظرته لها فهربت تنظر لوالدتها، بينما رد هو: 
حتي لو عندي، يمكن لسه مجاش الوقت إني أتكلم فيها. 

نظرت له تسأله: 
لسه مجاش؟! قربنا نكمل سنة جواز  ولسه مجاش الوقت اللي تشاركني فيه السبب اللي مخليك واخد جنب بعيد عني؟ 

نظرت حولها وهي تبتسم بسخرية 
أنا مش فاهمة، يعني مش بتثق فيا مثلًا أكيد لا، هل أنا مش شخص مؤهل إنه يتفهم اللي هتقوله ده أو ممكن يتخذ رد فعل غلط، برضو لا و أنت عارفني كويس أوي و عارف إني مش هعمل كده خالص، يبقي إيه أسبابك؟ 

صاح منفعلًا: 
ومش يمكن أنا اللي لسه مش مستعد احكي، لسه مش قادر أعمل ده ولا عارف إزاي أقوله؟! 

نهض بغضب يقف بمنتصف الغرفة و قال أخر كلماته قبل أن يرحل: 
و اسمعي بقي، طلاق أنا مش هطلق، فيستحسن تشيلي الموضوع ده خالص من دماغك، هسيبك اليومين دول مع والدك لحد ما صحته تبقي كويسة، و تكوني فكرتي في كلامك ده كويس علشان ترجعي بيتك، عن إذنكم. 
★***★***★***★***★***★***★***★***★***★

قضي الليل بأكمله في سيارته أسفل شقته لازال يخشي دخولها و هي غائبة عنها، ايقظه رنين هاتفه الذي أضاء بإسم شهد
اعتدل بجلسته و أجاب: 
ألو. 

جائه صوتها الحاني: 
إزيك يا حبيبي، عامل إيه؟ 

أجاب: 
كويس الحمد لله، أنتِ كويسة؟ 

ابتسمت: 
أه يا حبيبي، عمو فاروق خرج من المستشفي ولا لسه، أنا حاولت اتصل بآية كتير بس هي مش بترد؟ 

امتقع و جهه بضيق و بان في نبرته: 
خرج امبارح الحمد لله. 

قالت: 
طيب الحمد لله، مالك بقي صوتك بيقول إن في حاجة. 

تنهد و هو يعيد رأسه للخلف، اغمض عيناه و قال: 
آية طالبة الطلاق. 

شهقة اندلعت من جوفها ايقظت أمير النائم في فراشه بقلق: 
منك لله يا شهد حصل إيه! 

بينما هي همست: 
بقي هو ده اللي هتستني لما ارجع يا آية؟! 

استطاع تبين ما قالته ففهم الأمر كاملًا و استحال شكه ليقين بأنه هناك خطبٌ ما حدث، ضيق عينيه و قد سأل و داخله يتمني ألا يحصل علي جواب بالإيجاب: 
أنتِ اللي قولتي ليها صح يا شهد؟ 

اومأت بحزن و كأنه يراها، امتلئت عينيها بالدموع وقالت: 
و الله يا طه مكنتش اقصد هي اللي و قعتني بالكلام، وفهمتني إن أنت اللي قولتلها، و لما اكتشفت ده هي صممت احكيلها كل حاحة، حقك عليا يا طه. 

سأل بغضب: 
عن نانسي صح، كلامك ده معناه انها عرفت كل حاجة تخص حكاية نانسي مش كده. 

ضربت فوق رأسها بضيق، لقد وقعت بالفخ مرتين، مرةً آية و هذه المرة أخيها، كم تكره تسرعها بالحديث دون التأكد مما تسمعه، قالت بتوتر: 
مش أنت بتقول إنها واجهتك باللي تعرفه؟ 

تجاهل سؤالها بقوله الغاضب: 
اقفلي يا شهد بدل ما أقولك كلمة مش كويسة علشان أنا جبت أخري. 

أغلق الخط دون انتظار ردها، بينما زمت هي شفتيها بضيق وقد بان ضيقها و هي تلقي بالهاتف فوق الأريكة تلعن هذه الورطة التي سقطت بها، رفعت وجهها لأمير الذي لازال فوق الفراش ينظر لها، رفع يده مشيرًا لها بأن تقترب، قال بهدوء: 
تعالي يا شهد. 

نهضت بحزن و جلست فوق الفراش فجذبها نحوه يحتضنها، وقال: 
عملتي إيه خلي طه يقفل في وشك كده؟ 

أنتهت من سرد كل شيء، شهقت باكية و هي تقول: 
و الله يا أمير مكنش في نيتي أي حاجة وحشة أنا بحب آية فعلًا، و تخيلت إني لو قولتلها علاقتهم هتتحسن و هتتفهم تصرفات طه، مش إنها تطلب الطلاق! 

مسح دموعها و طبع قبلته فوق جبينها قائلًا: 
حبيبتي أنتِ غلطتي إنك مقولتيش لـ طه من الأول إن مراته عرفت علشان لو بيأجل إنه يقولها ميتفاجئش، بغض النظر عن نيتك لكن النتيجة إنها قررت تنفصل عنه…

قاطعته بقولها: 
يا أمير أنا عارفة آية كويس هي كانت هتطلب الطلاق سواء عرفت مني أو من طه، هي مش هتتقبل أبدًا فكرة إن طه همِّش فكرة انه يحكيلها حاجة زي دي. 

رفع حاجبيه بحيرة وقال: 
مش عارف اقولك إيه بس كان لازم أخوكي يعرف علشان علي الأقل ميزعلش منك. 

عادت لعينيها الدموع: 
قالي اقفلي بدل ما أقولك كلمة مش كويسة. 

ضحك بخفة واجاب: 
أقل حاجة عنده علي فكرة. 

ابتسمت بخفة، فقال محاولًا تخفيف حزنها: 
و بعدين أنا متخيلتش إنك ممكن تعترفي علي نفسك من أول قلم كده، و مش بس من طه علشان ظابط لا من آية كمان. 

قلبت عيناها و ضحكت بضيق: 
بس متفكرنيش، أنا ملحقتش أخد أول قلم و قولتله كل حاجة. 

قهقه و شاركته هي قهقهاته حتي صمت فنظرت له بتردد: 
أمير ممكن اطلب منك طلب؟ 

طبع قبلة فوق وجنتها و أجاب: 
طلباتك أوامر يا عيون أمير. 

ابتسمت بسعادة و هي تداعب ياقة قميصه قائلة: 
ممكن يعني نرجع نرجع القاهرة، أنت شايف الأجواء هناك عاملة إزاي، مينفش منبقاش جنبهم في وقت زي ده. 

بان الرفض في عيناه، فأسرعت تحيط عنقه بدلال: 
علشان خاطري يا ميرو، و اوعدك هعوضك عن الباقي من شهر العسل في اقرب وقت بعد ما مشكلة آية و طه ما تخلص. 

تذمر و هو يطالعها بنظرات خائبة: 
هكون وقتها رجعت لشغلي و هشوفك بالصدفة بعد كده. 

قالت بدون تصديق: 
أنت بتتكلم جد؟ 

هز رأسه بموافقة دون قول أي شيء، فتذمرت هي الأخري: 
يعني مش هتعرف تاخد اجازة يومين بس حتي، أو تزوغ من الشغل ٣ أيام مثلا نسافر فيهم؟ 

قالتها و رفعت أصابعها مشيرة للعدد الذي قالته فضحك قائلًا: 
هو صعب في شغلي بس لأجل الورد ينسقي العُليق، و علشان عيونك ممكن ازوغ ٣ سنين مش ٣ أيام. 

قبلته في وجنته بسعادة و نهضت من الفراش تقفز بالغرفة، و تقول: 
يلا بسرعة قوم شوفلنا اقرب حجز طيارة و أنا هلم كل حاجتنا. 

قلب عينيه و قال: 
طيب خلينا نقضي اليوم هنا و نمشي بالليل. 

وقفت بمنتصف الغرفة تنظر له و بيدها بعض الثياب، رفعت يدها تحك شعرها بتفكير و من ثم ابتسمت و ألقت بهم أرضًا و هي تعود له، قالت بضحك: 
عندك حق الدنيا مش هتطير، قوم ننزل نفطر يلا. 

★***★***★***★***★***★***★***★***★***★

مرت ثلاثة أيام لا جديد فيهم يُذكر سوي عودة شهد و زوجها و ذهابها للقاء آية و الأطمئنان علي صحة والدها، حين جلوسها معها تعمدت أن تحادثها في كل شيء حدث معها خلال سفرها و ألا تذكر شيئًا يخص مسألة طلب الطلاق كما أمرها طه، و نفذت هي أمره دون جدال حتي لا يغضب منها، حتي ظنت آية أنها ليس لديها علم بالأمر

في عصر اليوم الثالث كانت تجلس بغرفتها و قد عكفت فوق أحد دفاتر الرسم الخاصة بها حاولت رسم شيء يدخل لها بعض التفاؤل و لكنها بالنهاية نظرت للورقة لم تجد سوي دوائر سوداء متصلة ببعضها البعض، قطع تأملها طرقات الخادمة علي باب غرفتها فصاحت تأذن لها: 
أدخل. 

انفتح الباب و طلت الخادمة قائلة: 
طه بيه تحت و طالب يشوف حضرتك. 

سألتها: 
ماما أو بابا فين؟ خليهم يقابلوه. 

و لكن خابت مساعيها بقول الخادمة: 
البيه الكبير نايم و والست هانم راحت تزور واحدة صاحبتها تعبانة. 

تأفافت بضجر و هي تنهض من فوق الكرسي: 
خلاص روحي شوفيه هيشرب إيه و أنا نازلة. 

تظهر كل الأفعال التي تدل علي نفورها من لقائه، بينما قلبها يرقص طربًا منذ قول الخادمة بأنه هنا
"تشتاقين إليه و تريدين الأنفصال عنه" جملة صاح بها عقلها المغتاظ منها و من فؤادها الذي يفضل المعاناة بجوار هذا الأشعث، كانت قد انتهت من تبديل ثيابها لـقميص أبيض و بنطال باللون الأزرق القاتم و تركت شعرها معكوصًا للخلف دون تغطيتها،بالنهاية هو لايزال زوجها
خرجت من غرفتها و اقتربت من السور المُطل علي ساحة المنزل رأته يجلس بهيبته التي اعتادت أن تراه بها يرتشف من قهوته، فهتفت متغزلة هي وقلبهًا ردًا علي سؤال عقلها الأخير: 
أشعث بس قمر. 

وأدت ابتسامتها البلهاء و رسمت الجدية و هي تهبط درجات السلم بهدوء نهض يستقبلها حتي جلست دون قول أي شيء، بينما إلتقط فنجان قهوته يرتشف منه و لم يتحدث، و كأن كبريائه يمنعه من المبادرة بالحديث، وحينما طال صمته قالت ساخرة: 
خير يا طه، مهو أكيد مش جاي علشان تشرب قهوة عندنا، إيه العساكر في القسم مش بيعرفوا يعملوها حلو؟ 

تركه و ابتسامة مستفزة ارتسمت علي وجهه: 
البُن عندكم أحلي من اللي في القسم. 

ردت متعجبة: 
بجد والله؟! 

حمحم هو وقد استعاد جديته فسألها: 
فكرتي؟ 

قالت متصنعه الجهل: 
هفكر في إيه؟ 

تحامل علي نفسه وقال: 
في طلبك الطلاق. 

وضعت ساق فوق الأخري و ترفعت بقولها: 
مش محتاجة افكر تاني، أنا خدت قراري و مش هرجع فيه. 

رفع حاجبه و قال بنبرة أخافتها: 
نزلي رجلك. 

تلجلجت و اعتدلت، ولكن استعادت زمام امرها وقالت: 
أنا انزل رجلي بمزاجي ملكش فيه، و دلوقتي قول عايز إيه؟ 

نهض متأفأفًا منها: 
مش عايز منك حاجة. 

قرر الرحيل قبل أن يفقد أعصابه ولكن توقف إثر همسها المسموع: 
و يقولي أنا اللي نفسي قصير، و البيه معندوش نفس اصلا. 

استدار لها بغضب: 
أومال عايزاني اعملك إيه يعني، هبوس علي رجلك؟ 

نهضت بغضب مماثل تسأل: 
و هو أنت عملت إيه من أصله يا طه ها؟ …و لا حاجة، أنت جاي النهاردة تسأل فكرتي و لا لسه و كأن الموضوع شوية هرمونات مثلا و لما افكر هرجع في قراري، مفكرتش أنت تشوف إيه السبب أو إيه اللي مضايقني و نحله سوا، لكن إزاي غرورك يخليك تتنازل و توافق علي حاجة زي دي و تقولي مالك يا آية إيه اللي مزعلك يا آية، أنت كل تصرفاتك بتقولي أتفلقي يا آية. 

سأل بنبرة ثلجية: 
مالك يا آية؟ إيه اللي مزعلك يا آية؟ 

رفعت حاجبيها بغيظ و صاحت: 
بطل استفزاز بقي. 

رد بنفاذ صبر
هو أنا مش سألت أهو ما تجاوبي، قوليلي إيه المشكلة علشان نتفاوض. 

قالت منهية الحديث: 
المشكلة فيك أنت، أنت و طريقتك و تصرفاتك، بعد إذنك. 

قالتها و أسرعت تغادر من أمامه، ولكنه قبض فوق معصمها وقد لانت نبرته: 
أنا مسافر اخر الأسبوع البحر الأحمر، عندي مأمورية هناك و مش عارف ممكن أرجع أمتي، أو إذا كنت راجع أصلًا. 

برقت عيناها بذعر و اهتزت نبرتها وهي تسأل: 
تقصد إيه بإذا كنت راجع دي يعني إيه. 

هرب بعيناه و لم يجب علي سؤالها و لكنه طلب برجاء: 
آية خلينا ناخد فرصة أخيرة، إرجعي معايا دلوقتي، و لما أرجع هصلح كل حاجة. 

برز ضوء مصباح الشك بعقلها فقالت بأمل كاذب: 
دي لعبة جديدة صح؟ تقولي ارجع و بعدها ترجع حليمة لعادتها القديمة مش كده يا طه. 

ترك ذراعها وقال بضيق: 
و أنا إيه اللي هيخليني أكذب عليكي في حاجة زي دي، أنا أمتي قولت حاجة و معملتهاش؟ 

بان تشتتها وهي تبتعد عنه: 
معرفش معرفش، أنا مبقتش عارفة حاجة. 

اجهشت ببكاء و هي تجلس فوق الكرسي خلفها بضعف، وضعت كفيها فوق وجهها تداريه عنه، بينما بقي هو ينظر لها، لا يعلم لما الحديث صعب هكذا، و لماذا هي تصعب الأمور أكثر فـ أكثر، أقترب منها جلس فوق ركبتيه أمامها و جذب كفيها بعيدًا عن وجهها الذي رفعته تنظر له، ازاح خصلات شعرها للخلف و مرر إبهامه فوق وجنتها يمسح دمعتها نظر بعمق عيناها و همس: 
متعيطيش طيب، عايزة إيه و هعمله ليكِ. 

زاد بكائها وقالت بِتيه: 
مش عارفة ياطه، أنا عايزاك و مش عايزاك مش بحبك بس مش متخيله إني ممكن أعيش حياة أنت مش موجود فيها معايا، عايزة اديلك فرصة تانية و في نفس الوقت تعبت و مش قادرة، خايفة أظلمني و اظلمك ببُعدنا، و خايفة تخذلني و أرجع مهزومة من تاني، قولي أنت أنا أعمل إيه. 

كفكف دموعها من جديد و ما كاد أن يجيبها إلا وقاطعه رنين هاتفه، لعن المتصل سرًا، أخرج الهاتف من جيبه فقطب جبينه لرؤيته أسم أحد رفاقه بالعمل، أجاب بقلق: 
ألو
عاجله صوت المتصل: 
طه أنت فين، جد في الأمور جديد هقولهولك لما تيجي، المهم، اللواء عبد القوي كلمني لازم نسافر البحر الأحمر النهاردة بالليل، جهز نفسك. 

نهض واقفًا، سأل بضيق: 
إزاي يعني النهاردة، إيه اللي حصل فهمني؟ 

انهي الأخر المكالمة عقب قوله: 
مش هينفع الكلام في التليفون لما تيجي احكيلك، سلام دلوقتي. 

نفخ الهواء من فمه بضيق و هو يوليها ظهره، يقف حائرًا بين تلبية نداء الواجب، و تلبية نداء قلبه، نهضت تقف خلفه وسألت بنبرة بان فيها قلقها: 
في حاجة حصلت؟ 

استدار لها بأسف: 
معاد السفر اتقدم، بقي النهاردة بالليل. 

لا تعلم سر أنقباض قلبها من هذا الأمر و لكنها لا تشعر بأن القادم فيه خير، سألت بنبرة لازال بها أثر البكاء: 
هتقعد كتير؟ 

مسد بيده فوق رأسها و أجاب: 
قولتلك دي حاجة في علم الغيب، حسب ما القضية تنتهي. 

ابتلعت لعابها بتوتر، دارت عيناها بكل أنحاء المكان و رست فوق شاطيء وجهه، سألت: 
هما المجرمين دول عملوا إيه، يعني دي قضية إيه؟ 

عقد ما بين حاجبيه بتعجب، فسألها: 
أنتِ مش عارفة أنا شغلي تبع إيه أصلًا؟! 

هزت كتفيها بجهل: 
بصراحة لا.   

ابتسم علي حركتها العفوية و اخبرها: 
مكافحة مخدرات، و بدون تفاصيل، في تهريب هيحصل هناك لشحنة متتخيليش هي قد إيه، لو قسمناها علي الشعب ممكن كل واحد يبقي معاه اللي يكفيه ٤ أو ٥ سنين قدام. 

وضعت يدها فوق فمها بصدمة، إزدردت ريقها و هي تنظر له بخوف: 
شكلها ناس مبتهزرش يا طه، طيب مش…مش لازم تطلع معاهم، كفاية زمايلك اللي رايحين

ابتسم و سأل بنبرة رخيمة و هو يقترب الخطوة الفاصلة بينهما وقد تدلت يده لوجنتها: 
خايفة عليا؟ 

هزت رأسها بالإيجاب دون تردد، تنهد و قال: 
هي مش رحلة هقولهم مش هطلع المرة دي، و بعدين متقلقيش لو هما مبيهزروش فـ إحنا منعرفش يعني إيه هزار، و ربك هينصر الحق بإذن الله. 

هزت رأسها بالموافقة: 
إن شاء الله ربنا هينصركم، و ترجعوا كلكم بالسلامة. 

هز رأسها بالإيجاب و من ثم: 
أنا لازم أمشي دلوقتي، لما أرجع لينا قعدة طويلة مع بعض، هحكيلك فيها كل اللي أنتِ عايزة تسمعيه. 

قبضت فوق كفه تضغط عليه بقوة وبنبرة أوشكت علي البكاء مجددًا: 
إرجعلي بالسلامة، دي أهم حاجة دلوقتي. 

حاول كثيرًا منع نفسه، و لكنه لا يستطيع، شوقه يجره نحوها جرًا، و ما كان لعقله سلطان علي فؤاده في هذه اللحظة فجذبها نحوه يحتضنها مخبئًا إياها بين يديه، بينما أحاطت هي كتفيه العريضين بذراعيها الصغيران تود لو بقيت هكذا حتي يرمم عناقه تجاويف ليالٍ طويلة قضتها دونه، قضتها بإنتظاره، و من ثم تعانقه مجددًا في عناق أكبر، كـ ضريبة مدفوعة مقدمًا عن الليالي القادمة التي سيأكلها فيها الانتظار و ينهشها القلق عليه نهشًا، عند هذه النقطة اجهشت بالبكاء وهي تشدد عناقها له، تخبره دون حديث بـ ألا يرحل، همست من بين دموعها: 
طه أنا خايفة، علشان خاطري متروحش، أنا قلبي مش متطمئن. 

طبع قبلة فوق رأسها و قال مطمئنًا: 
دي مش أول مرة يا آية، هتعدي زي ما اللي قبلها كان بيعدي. 

هزت رأسها بموافقة و كررت خلفه: 
هتعدي بإذن الله هتعدي. 

خرجت من بين ذراعيه و مررت بصرها فوق ملامحه تُعيد حفظها و ترتوي منها ما يعينها علي غيابه وقالت: 
خلي بالك من نفسك، علشان والدك و والدتك و شهد، و علشاني. 

سألها: 
هتستنيني؟ 

هزت رأسها بالإيجاب: 
هستناك يا طه…
كاد يقاطعها بسؤاله، و لكنها ادركته فأكملت جملتها: 
مهما تتأخر، هستناك يا طه مهما تتأخر، بس متتأخرش.

قبل رأسها و رحل دون قول أي شيء أخر، لا يريد أن يصعب الأمر عليها أكثر من هذا، قاد سيارته و علي وجهه بسمة لا يقدر علي محوها يتكرر علي مسامعه قولها الأخير فيضيء له بارقة أمل تدخل لروحه السكينة، سكينة يفتقدها كثيرًا، شعور هجره منذ سنوات و الأن عاد يحتضن فؤاده. 
★***★***★***★***★***★***★***★***★***★
مرت قرابة الشهرين و لا جديد يُذكر، لم تحادث سوي مرة واحدة لبضع ثواني لم تكفِ لا شوقه و لا اشتياقها، تنهدت بكلل وهي تدلف شرفتها و قد أوشكت الشمس علي المغيب، نظرت لأسفل شرفتها إلي بقعةٍ محددة، أخر رقعة جمعتها به قبل رحيله تذكرت لقائهما الأخير للمرة التي لا تعرف عددها 

بعد حديثهما عاد هو لمقر عمله لإنهاء بعض الأمور و من ثم توجه للمنزل كي يبدل ثيابه و يأخذ ما قد يحتاجه، أدرك لحظة دلوفه للشقة بأن كل ما يفر منه المرء يلاحقه حتي يعانقه بقوة أغلق الباب خلفه و أشعل الضوء، سار للداخل برتابة، لأول مرة منذ ما يقرب العام لا يدخل فيعاجله صوت النقشبندي مبتهلًا بالصلاة علي الحبيب، أو ربما صوت الشيخ محمود علي البنا يُرتل أيات القرأن بصوتٍ يدخل الطمأنينة للقلب

ألقي نظرة في أنحاء المنزل لعله يجدها هنا أو هناك لكن لا أحد، تنهد و لسان حاله يقول: 
و‌‎جئِتُ إلى الديَارِ أنَدُبها وأبُكيِها 
أين الحبيبُ الذي قَد كان ليِ فيِها

مرت ساعة كان قد اعد فيها حقيبته و اخذ حمامًا باردًا لعله يخفف عنه قليلًا، ارتدي زيه الميري، و ما أن انتهي من غلق حزامه حتي علا رنين هاتفه، اجاب بتملل: 
خلاص يا عبد الغني ساعة بالكتير و هكون عندكم، أنت خنقتني يا راجل. 
صمت يستمع رده و من ثم أغلق و وضع الهاتف بجيب الحقيبة، مرت ١٠ دقائق كان قد وصل إلي سيارته و ضع الحقيبة بالكرسي المجاور له و ما أن هم بتشغيل السيارة إلا و عاجله رنين هاتفه مجددًا، جذبه بضيق دون النظر في هوية المتصل الذي ظنه رفيقه، أجاب بنفاذ صبر: 
يا عبد الغني أنت لو مراتي مش هتتصل بيا كل ده. 

ولكنه لم يجد ضحكات عبد الغني الخشنة والساخرة، كانت ضحكات و لكن من الأخري التي تسلب لُبه و ترسم فوق ملامحه ابتسامة بلهاء، كانت آية و التي توقفت عن الضحك و أجابت: 
بس المرة دي مراتك، مش عبد الغني 

اتسعت ابتسامته و قال: 
ده من حظ عبد الغني، علشان لو هو كنت هرميه من فوق جبال البحر الأحمر لما نوصل. 

ضحكت مجددًا و سألته بإهتمام: 
خلصت ولا لسه؟ 
أجاب بهدوء و هو ينظر من النافذة: 
خلصت و هتحرك علي المقر علشان نتحرك. 

أجابت: 
توصلوا بالسلامة إن شاء الله …طه ممكن أطلب منك طلب؟ 

اعتدل بجلسته و قال: 
طلب و احد بس، اطلبي تلاتة، اربعة، عشرة. 

ابتسمت و قالت: 
لا هو واحد بس. 

شغل محرك السيارة و اصدر إيماءة خافتة: 
ماشي ياست القنوعة، قولي. 

ترددت و لكنها قالت:
ممكن أشوفك قبل ما تمشي؟ 

فاجأه طلبها كثيرًا، فسأل: 
في حاجة حصلت و لا إيه؟ 

نفت مسرعة: 
لا، محصلش، بس عايزة أشوفك، ممكن؟ 

أدار مقود سيارته و هو ينظر خلفه للخروج من موضوع سكون السيارة، حسم أمره و قال: 
ممكن، ربع ساعة و هبقي عندك. 

و لم يكذب خبرًا بالفعل كانت سيارته تدلف من بوابة المنزل، هبط منها بزيه العسكري و الذي تكاد تجزم بأنه لا يليق بسواه
ابتسمت له بسعادة وهي تنهض عن كرسيها الذي يتوسط الحديقة و اتجهت نحوه، قالت ببراءة: 
إن شاء الله مكونش بعطلك. 

رفع حاجبيه وقال مقلدًا نبرتها وهي تحادثه صباحًا: 
بجد والله؟! 

ضحكت بخفة و جذبت يده حتي وصلت لركنها المفضل بالحديقة وجلست فوق العشب، أشارت له بأن يجلس، جلس مرغمًا: 
يعني قاعدة وحدك تقعدي علي الكرسي، و أنا تقعديني علي الأرض و هدومي تتوسخ، و أنا اصلا مبعرفش أشغل الغسالة اللي في البيت دي. 

ضحكت مجددًا: 
أنت خايف مامي تضربك يا شطور،  أنت بجد مش بتعرف تشغل الغسالة؟ 

هز كتفيه بتأييد: 
هعرف منين مش تخصصي الغسيل، المهم عايزة تقولي إيه علشان لازم اتحرك بعد ١٠ دقايق بالكتير. 

بان العبوس علي وجهها ما أن تذكرت ما تود قوله، اعتدلت بجلستها فصارت بمقابله و نظرت بعمق عيناه، قالت بهدوء: 
هسألك سؤال يا طه، هتجاوبني عليه بدون ما تسأل إزاي، و أمتي، و فين و ليه، أو أي تفاصيل، ماشي؟ 

تعجب كثيرًا و بان تعجبه فوق ملامحه فأكدت وهي تشير بسبابتها: 
مش هتسأل و لا سؤال يا طه؟ 

هز رأسه موافقًا علي شرطها فسألته بنبرة بان فيها حزن دفين: 
لما جيت اتقدمتلي، و اتخطبنا و فترة جوازنا دي كلها، كنت بتفكر فيها؟ قلبك كان لسه بيدق ليها؟ كنت بتحاول تنسي حبها بيَّا؟ 

إلتمعت دمعاتها و لكنها أوقفتها بمحجرها حتي تسمع جوابه، 
لم يكن متفاجئًا من حديثها، تفاجأ من السؤال و من توقيته، و من كونها كشفت أمر معرفتها
تردد صدي أسئلتها بعقله فتعجب فؤاده منها، أي حبٍ، و أي نبضات، و أي تفكير كان بغيرها؟ 
رد قلبه السؤال بأسئلة، و هل كان يشغل البال و الخاطر سواكِ؟ و هل كان هناك حب لينساه من الأساس؟ 

همست بعدما فرت منها دمعة: 
السؤال صعب أوي كده؟ 

قبض فوق كفيها المرتعشان بحجرها فغاصا داخل كفيه الكبيران، استجمع. كلماته فقال: 
مش صعب، بس أستغربته مش اكتر، و لقيت أسئلة بتتسئل جوايا رد علي سؤالك. 

مالت برأسها قليلًا و سألت: 
و جاوبت عليهم؟ 

هز رأسه و حدق بها: 
آية أنتِ أغلي من إني أنسي مشاعري تجاه أي حد بيكِ، أنتِ أغلي من كده بكتيى في نظري…

ابتلع لعابه و مرر لسانه فوق شفتيه و أكمل: 
يوم ما جيت أتقدملك كان برغبتي و كان جوايا رضا تام علي الخطوة دي حتي لو أنا كنت بتظاهر بعكسه، لما دخلت بيتكم ده كنت متأكد مليون في المية إن اللي جوايا مش مشاعر حب أو حنين ليها، قد ما كان حزن علي مصيرها و اللي حصل لها، مكنتش لسه تخطيت الأمر، كان تجربة صعبة عيشتها و كان مطلوب مني أفوق منها بأسرع و قت علشان اجيب حقها، ركنت كل مشاعري علي جنب و قومت مقعدتش غير لما خلصت علي اللي عمل فيها كده، و رجعت لقيت صدمتي و مشاعري مركونين لسه جوايا، كان فات وقت كتير، مكنش في حد هيتفهم إني لسه مفوقتش، و معرفتش أقول لحد، ففضلت عايش بالمشاعر دي، لحد ما قررت إني خلاص لازم أفوق علشان بقي مربوط بحياتي حياة تاني، حياة حد مهم عندي مقدرش أسحبه معايا في الدوامة الظلمة دي و أطفيه…

صمت يأخذ نفسًا عميقًا، فشعرت بثقل الحديث عليه، ضغطت فوق كتفه تدعمه و همست: 
كمل. 

هز رأسه بنفي و نظر لساعته: 
مش دلوقتي، لازم أتحرك علشان الوقت، بس عايزك تتأكدي من حاجة مهمة أوي. 

سألت بلهفة: 
إيه!

رفع كفها اليُمنى مقبلًا إياه وقال: 
إني محبتش في الدنيا دي حد قبلك، و إن قلبي يوم ما قال عايز أحب مكنش في غيرك جاي علي مقاسه من بين كل الستات. 

قبَّلَ خاتم زواجهما بيدها اليُسرى و ختم قوله: 
و إني أكتر راجل محظوظ في الدنيا دي إن أنتِ اللي شايلة أسمي و إني أتجوزتك. 

ابتسمت بل ضحكت بسعادة من بين دموعها، رفعت كفوفها تجفف دموعها بعدما روي تشققات روحها بكلماته العذبة، نهض و اقفًا و جذبها معها، وضع كفيه فوق كتفيها و طبع قبلة أخيرة فوق رأسها: 
كلامنا لسه ليه باقي لما أرجع هنقوله، أشوف و شك بخير، و خلي بالك من نفسك. 

هزت رأسها بالإيجاب و ابسمت: 
ربنا معاك، خلي بالك من نفسك. 

هز رأسه و توجه نحو سيارته بخطوات بطيئة حتي

مالبث أن يفتح بابها فسمعها تناديه استدار لها، تركت موضعها و هرولت إليه، فتح ذراعيه يستقبلها، أطبق عليها بكل قوته و مال نحوها يدفن رأسه بين خصلات شعرها التي جلبته مجرورًا علي عاقبيه إليها، لفحت أنفاسه الحارة جدار عنقها فـ انتفضت عروقها خجلًا، ابتسم و طبع قبلة فوق جيدها الذي تزين بقلادتها التي أهداها لها، أخرجها من بين ذراعيه و ودعها بقوله: 
أشوف وشك بخير يا نمنمة. 

عادت من شرودها مبتسمة، سمعت كرق علي الباب الغرفة دلفت من بعده والدتها للغرفة فـ استدارت لها و لازالت مبتسمة مما أثار تعجب الأخري: 
غريبة، أول مرة أدخل من وقت ما سافر طه و ألاقيكي مش
بتعيطي، لا و مبتسمة كمان، طه كلمك؟ 

هزت رأسها بالنفي:
لا، بس كنت بفكر في حاجة و سرحت شوية، حضرتك عايزة حاجة؟ 

جلست و الدتها علي الفراش وسألتها: 
عايزة أعرف ناوية علي إيه مع طه لما يرجع، هترجعيله؟ 

جاورتها و قالت: 
أيوة، ماما طه بيحبني، أنا حاسة بكده من فترة، و هو قبل ما يمشي قالها، ايوة مش مباشرة بس اعترف إنه بيحبني. 

رفعت والدتها حاجبها بمكر: 
و أنتِ؟ مش بتحبيه؟ 

ابتسمت قائلة: 
و أنا إيه اللي هيخليني أصبر عليه كل ده و استحمل كل ده غير إني بحبه! 

تعجبت والدتها: 
طيب و كان ليه ده كله من الأول؟ 

هزت كتفيها بهدوء: 
علشان كان لازم وقفة نحط فيها النقط علي الحروف. 

قاطع رد و الدتها طرق علي الباب و من ثم أنفتح الباب و دخلت منه شهد بجلبتها المعتادة تلقي التحية: 
يا مساء الخيرات. 

نهضت آية تحتضنه ضاحكة: 
وحشاني يا مجنونة هانم. 

ضحكت الأخيرة و اقتربت تصافح والدتها: 
و حشاني يا لولو يا قمر. 

قفزت فوق الفراش تجاورهم و قالت مُضيقة عينيها: 
شكلكم كده جايبين في سيرة أحدهم…
غمزت لآية مشاكسة: 
أقول مين هو؟ 

نهضت والدة آية تاركة لهن مجال الحديث و قالت: 
هقوم اجيب لكم حاجة تشربوها، و كملوا بقي كلام علي أحدهم. 

ضحكت شهد و أرسلت لها قبلة بالهواء و أردفت: 
إن كان كده بقي يبقي موز باللبن يطري علي قلبنا من نسمات الصيف اللي بدأت تهل علينا دي. 

ضحكت الأخري و رحلت فـ استدارت للجالسة جوارها وقالت: 
قبل ما أنسي و الكلام ياخدنا، عيد ميلادي يوم الخميس و لازم تيجي، هنعمله في الڤيلا عند بابا علشان ماما صممت، اشطا؟ 

هزت رأسها بحيرة: 
مش عارفة يا شهد مش حاسة إن عندي طاقة أخرج من باب الأوضة. 

تمددت فوق الفراش و قالت: 
أنا مش باخد رأيك يا عيوني، أنتِ يوم الخميس من النجمة تبقي عندنا، هبعتلك السواق بتاع بابا ياخدك. 

قالت تحاول إثنائها: 
يا بنتي…

و لكنها قاطعتها: 
ششش، اسكتي أما أنا عملت في الواد أمير ده حتة مقلب هحكيلك…

انقضت الساعات التالية في ثرثرات شهد التي لا تنتهي حتي حضر أمير لأخذها و العودة للمنزل مع تأكيدها ألا تتخلف عن موعد حفلة ميلادها. 
★***★***★***★***★***★***★***★***★***★
في مساء الخميس 

كانت تقف أمام المرأة الطولية بغرفته تتأكد من تثبيت حجابها ذو اللون الأسود المزركش بالزهور التي اضفت له لمسة رقيقة، ألقت نظرة أخيرة علي فستانها و الذي ماثل لون الحجاب، ابتسمت و استدارت تنظر للباب بأمل أن يدخل عليها الغرفة الأن، لن تطلب منه الحديث يكفي أن يأتي و يظل صامتًا يحوم حولها هنا و هناك. 

ابتسمت بفرح وهي تري الباب يفتح و كأن الأمنيات تتحقق، ولكن تحولت لبسمة ساخرة وهي تري أنها شهد التي تقدمت قائلة: 
أي يا ست سندريلا الحفلة هتخلص و أنتِ لسه هنا؟! 

امسكت يدها و سارت معها للخارج: 
أنا خلاص خلصت، يلا. 

قضت الحفل كاملًا وهي شاردة تشارك فقط حينما تجذبها شهد عنوة للوقوف معها هي ورفيقاتها و لكنها كانت تنسلخ عنهم متخذة جانبًا بعيدًا حتي يتسني لها الأختلاء بنفسها، فيكفيها هذا الصخب برأسها، بعد قليل هربت للخارج لحظة دلوف شهد لأحد الغرف مع رفيقتها، وقفت تلتقط بعض الأنفاس و لا إراديًا عصفت بعيناها غيمة من الدموع شوشت رؤيتها، جلست فوق إحدي درجات للسلم و أخذت دموعها تنهمر وهي تبكي بهدوء، حتي شعرت بأحدهم يجلس جوارها، مد يده لها بمنديل و قال بصوت هادئ يتخلله بعض المزاح: 
القمر قاعد وحده بيعيط ليه؟ 

حاولت تكذيب أذنيها و أنها لا تتوهم بوجوده، رفعت رأسها و نظرت نحو مصدر الصوت لتتسع عينيها بسعادة وهي تراه أمامها، صاحت: 
أنا أكيد مش بحلم صح؟ أنت رجعت أمتي، أنت…أنت…

قاطعها بضحك: 
الشريط سف و لا إيه،أنطقي أنا إيه؟ 

أحتضنته بقوة قائلة: 
أنت رجعت. 

عادت تبكي من جديد فربت هو فوق ظهرها و شدد من عناقه لها، ابتعدت و أخذت تتفحصه وهي تكرر: 
أنت كويس، أتعورت، حصلت لك حاجة؟ 

حتي رأت جرحًا طوليًا في يسار جبينه و وضعت يدها فوقه بحنان و نظرت له: 
دي من إيه؟ 

أمسك يدها و طمأنها بقوله: 
أنا كويس يا آية. 

ابتسمت له: 
وحشني أسمع اسمي منك أوي. 

مرر يده فوق ملامحها قائلًا: 
و أنتِ و حشتيني أوي. 

بان خجلها في نظرات عينيها التي زاغت بعيدًا عنه و ابتسامتها التي حاولت إخفائها عنه، فقال رافعهًا عنها الحرج: 
بس إيه الفستان الحلو ده، أنتو عاملين حفلة جوا و لا إيه؟ 

ضحكت قائلة: 
شهد لو سمعتك بتقول كده هتعلقك علي الباب ده، النهاردة عيد ميلادها. 

ضرب فوق رأسه بتذكر: 
ايوة صح، النهاردة ٢٥…

قاطع إكماله صياح أخته التي خرجت للبحث عن آية فوجدته يجلس جوارها فوق السلم: 
يلهوي طه، أنت رجعت أمتي؟ 

هرولت إليه تحتضنه فنهض إليها يجذبها بحب وقال: 
كل سنة و أنتِ طيبة يا شهد هانم. 

ردت الأخيرة: 
و أنت طيب يا حبيب قلب شهد من جوا، دي أحلي هدية عيد ميلاد جاتلي في حياتي بجد. 

جذبته معها للداخل وهي تنادي بصوت مرتفع: 
ماما، بابا طه رجع تعالو بسرعة. 

كانت والدتها الأسرع بعناقه وهي تبثه شوقها بقبلاتها الحارة و الكثير من "حمد الله علي السلامة يا حبيبي" 

احتضنه والده قائلًا: 
حمد الله علي السلامة يا بطل، الاخبار لسه واصلة ليا من اللواء عبد القوي، رفعت رأسنا. 

بينما صافحه أمير قائلًا: 
نورت بيتك يا باشا. 

نظرت لهما شهد بنظراتها المتفحة كـ عسكري المرور و أردفت بشك: 
أمير، أنت كنت عارف إن طه راجع النهاردة و مقولتليش مش كده؟ 

أسرع أمير متذمرًا: 
لاء وحياة أهلك مش طالبة جنان النهاردة، مش أبقي عامل عيد ميلاد و صارف و مكلف علي فستان الأميرات ده، و هتنكدي عليا في الأخر. 

هزت رأسها بيقين و توعدته: 
يبقي كنت عارف، ماشي يا أمير. 

أشاح بيده و ذهب يجذب طبق الكعك خاصته يتناول منه دون إكتراث فتركت أخيها و ذهبت خلفه متذمرة،وسط ضحك البقية علي تصرفها، بينما بحث هو عنها بعيناه حوله حتي سمع صوتها من خلفه: 
بتدور عليا. 

ابتسم و أمسك يدها متوجهًا لأحد الجوانب: 
بقولك إيه أنا مبحبش جو الحفلات ده ومكنتش بحضر عيد ميلاد شهد من أصله، يلا نمشي؟ 

كانت تتمني هذا منذ بداية الحفل و لكن تلك الأمنية كانت بسبب عدم و جوده، و لكن الأن عاد هو وعادت لها الرغبة يالاحتفال فرفضت وهي تبتسم له: 
لاء أنا مش عايزة أمشي خلينا شوية.

صمتت قليلًا وسألته بإهتمام: 
جعان أجيبلك حاجة تاكلها؟ 

ابتسم بسعادة عليها وعلى تصرفاتها، تحب الأطمئنان عليه في كل دقيقة أسئلتها عن حاله في كل دقيقة تأسره حقًا "أنت كويس" "جعان، اعملك أكل"  "متتأخرش وخلي بالك من نفسك" "خلصت لبسك"  تعامله و كأنه طفلها الكبير و تهتم بتفاصيله كثيرًا، سأل ممازحًا: 
هتعملي أكل بفستان باربي ده؟ 

ضحكت برقة: 
هي باربي بتلبس فساتين سودا؟ 

أجاب: 
مش عارف، بس لو مش بتلبس أسود يبقي معندهاش زوق. 

مر ما يقارب الساعتين انصرف فيهما أغلب الحضور و لم يتبقي سوي عائلته الذين اجتمعوا سويًا يتجاذبون أطراف الحديث حتي نهض هو منهيًا هذه الجلسة متعللًا بحاجته للنوم و الراحة بعد هذه المهمة الشاقة، نظر لزوجته قائلًا: 
يلا علشان نروح؟ 

نقل أمير و شهد بصريهما عليه وعليها يتشوقون لإجابتها، فلا أحد يعرف ما يدور بينهما سوي هما، ولا علم لوالديه بالأمر، نهضت الأخري تجذب حقيبتها و ألقت السلام علي الجميع و نظرت له: 
تصبحوا علي خير يا جماعة، يلا يا طه علشان تروحني. 

لم تنتظر إجابته بل فرت من أمامه للخارج بينما وقف هو بمكانه يكرر جملتها: 
أروحها، أروحها إزاي يعني؟ 

قطع تفكيره ضحكات أمير الجالس خلفه و الذي نهض مربتًا فوق كتفه: 
إلحقها لحسن تروح و حدها، ده أنت شكلك هتشوف أيام عنب يا صاحبي. 

نظر له بغيظ و رحل خلف تلك التي لا تكف عن استفزازه، 
كانت تقف جوار سيارته بإنتظاره، وقف أمامها سائلًا: 
يعني إيه أروحك دي؟ أنتِ مش هترجعي معايا شقتنا؟ 

افتعلت وضع الغباء: 
أروح معاك إزاي يا طه؟ 

قال مغتاظًا: 
هو إيه اللي إزاي، أنتِ ناسية إننا متجوزين و لا إيه؟ 

قالت مهادنة: 
ماشي، بس أنت كمان شكلك نسيت إننا مختلفين و كنا واقفين علي أنفصال؟ 

ضرب فوق السيارة بضجر: 
آية، أتظبطي أحسنلك. 

أهتزت قليلًا و لكنها دبت الأرض بقدمها و ردت: 
متزعقليش كده! 

مسح فوق وجهه يحاول أن يستعيد هدوءه الهارب وقال بتريث: 
إحنا مش أتكلمنا قبل ما أسافر؟ 

هزت رأسها بموافقة وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها: 
صح أتكلمنا بس مقولناش كل حاجة، لسه في حاجات كتير عايزين نتكلم فيها قبل ما أرجع، و لسه في شروط كمان  ليا و لازم توافق عليها و تنفذها. 

ركل إطار السيارة بقدمه و صاح: 
آية. 

حاولت إخفاؤ ذعرها و قالت بثبات وهي تصيح مثله: 
طه. 

فتح باب السيارة لها بعنف و قال: 
إركبي علشان أروحك. 

صعدت دون التفوه بأي كلمة بينما دار هو ليركب جوارها، لاح فوق وجهها ابتسامه حاربت لإخفائها وهي تنظر للناحية الأخري، شرع في قيادة السيارة و قد بان غضبه في عنفه وهو يتعامل مع السيارة وفي حركاته الغاضبة، حاولت امتصاص غضبه بقولها: 
أنت متعصب لي…

ولكنه قاطعها بغضب: 
ولا كلمة لحد ما نوصل، مفهوم؟ 

بان غضبها في عينيها و استدارت للجهة الأخري تراقب الطريق دون رد حتي صف سيارته أمام المنزل فنظرت له تقول بهدوء: 
حمد الله علي سلامتك مرة تانية يا طه

هز رأسه متقبلًا دون رد، ولازال مخافظًا علي عبوس وجهه فقالت تجذب أنتباهه: 
علي فكرة أنت كمان وحشتني أوي، لدرجة إني مكنتش بفكر غير فيك طول الفترة اللي فاتت دي. 

لانت ملامحه قليلًا، ابتسم و نظر نحوها و لكنها كانت الأسرع حيث هبطت من السيارة و أغلقت الباب خلفها و نظرت له من الخارج بضحكة: 
يلا بقي روح، تصبح علي خير. 

لوحت له و هرولت للداخل بسعادة، ابتسم و هز رأسه بأنه لا فائدة، حرك مقود السيارة وغادر لا يعلم إلي أين، أنقذه اتصال أمير الذي أخبره: 
بقولك إيه يا طه بما إنك يا حبيبي متشرد اليومين دول تعال أقعد معانا ده بيت أخوك برضو. 

رغم معرفته بأنه لن يسلم من مزحات أمير السخيفة من وجهة نظره إلا أنه ذهب بالفعل، وها هو الأن يستلقي فوق فراشه بأحد غرف منزله يشغل عقله ما تنوي فعله تلك التي لا يشغله سواها حتي غلبه النعاس و الإرهاق فترك نفسه لسلطان النوم، بينما كانت هي تجلس بشرفتها وعلا وجهها ابتسامة لا يمكنها إزالتها و قد صدح بالأجواء صوت أحدهم بقصيدة عربية قديمة لأحد الشعراء الكِبار، أخذتها من جديد لتلك اللحظة التي رفعت فيها و جهها لتجده أمامها، همساته و ابتساماته، نظراته لها بين اللحظة و الأخري في الحفل، نقطة جديدة تحسب لهذا الأشعث الذي سرق قلبها، ضحكت من قلبها علي هذا اللقب الذي تلقبه به سرًا بعدما فكرت في ردة فعله لو علم به. 

★***★***★***★***★***★***★***★***★***★

أسبوعٌ كامل لم تلمحه فيه، حتي المرة التي جاء فيها لزيارة و الدها كانت نائمة ولم ترَه، عللت لوالدها بقائها معهم بكونها  لا تريد تركه حتي تتمكن من سلامته، ورغم عدم اقتناعه إلا أنه لم يضغط عليها. 

كانت تغلي غضبًا منه ومن طريقته في عقابها علي رفضها العودة معه حتي قررت الأتصال به و توبيخه، وضعت الهاتف فوق أذنها وهي تجلس بغرفتها وقدمها تدك الأرض دكًا حتي أجاب في نهاية رنين هاتفها: 
ألو، إزيك يا آية. 

رفعت حاجبها بغيظ: 
والله، إزيك يا آية، بس كده، تصدق إنك إنسان…

قاطعها محذرًا:
بلاش طولة لسان أحسنلك!

صاحت بغيظ:
تصدق بالله أنا لساني مبقاش يقع بكلمة مش كويسة غير من وقت ما اتجوزتك  علشان محدش بيخرجني عن شعوري غيرك يا طه. 

قال ببرود: 
يعني عايزة إيه دلوقتي؟ 

قررت إلقاء قنبلتها حتي تثير غضبه كما يفعل معها، قالت ببرود: 
ورقة طلاقي هتوصلني أمتي؟ 

ضرب القهوة التي وضعها العامل فوق مكتبه فسقطت أرضًا وقال وسط نظرات العامل الحزينة: 
أنتِ شكل دماغك ساحت في يومين الحر دول، آية أنا مش فايق لك. 

قالت بغضب: 
و هتفوق ليا أمتي، هتديني أمتي شوية من وقت حضرتك الثمين ده، بلاش تعتبرني مراتك يا سيدي، أعتبرني قضية ماسكها و اهتم بيا شوية، أنا خلاص مبقتش فهماك. 

أشار للعامل بالأنصراف و قال: 
أنتِ مش قولتِ عندك شروط و معاهدات و اتفاقات؟ 

هزت رأسها بضجر: 
أيوة الشروط دي مين هينفذه أمي و لا مين بالظبط؟ أنت مش بتسيب فرصة تبين فيها إني مش مهمة عندك! 

صاح بضيق: 
مابلاش كلام فارغ بقي. 

ضحكت بسخرية: 
آه مهي الحقيقة دلوقتي بقت كلام فارغ، أنا كنت غلطانة لما قولت إنك ممكن تتغير. 

هدأ قليلًا رغم غضبه: 
غلطانة إيه و زفت إيه دلوقتي، والله عندي شغل، أنا مش بروح البيت حتي بنام في المكتب. 

هزت رأسها بإصرار: 
مش مبرر برضو، يعني أنا أهم ولا الشغل في حياتك يا طه قولي؟ 

صمت قليلًا يترجم عقله سؤالها، هل تقارن بينها وبين عمله حقًا؟ 
صاحت فيه بغضب: 
ماترد عليا أنا مش بكلمك؟ 

قرر مهاودتها حتي تمر عواصف غضبها فقال: 
أكيد أنتِ طبعًا. 

هدأت داخليًا قليلًا ولكن نبرتها لم تهدأ فسألته: 
هتيجي أمتي علشان نتكلم؟ 

فكر قليلًا و أجاب: 
هحاول أجيلك بكرة أخر اليوم إن شاء الله. 

ردت بحزم: 
مفيش هحاول اسمها هاجي بكرة أخر اليوم

قال بنزق وقد فاض كيله! 
قولنا إن شاء الله، خلاص بقي. 

لانت نبرتها و كأنها تحولت لأخري وسألت: 
ماشي خلاص، أنت عامل إيه، بتاكل كويس؟ 

نظر لكوب الماء الذي أمامه فجذبه و رفعه لفمه حتي شرِبه كاملًا، ألقي به فوق المكتب بغضب، ستصيبه بجلطة ذات مرة، فتح مكبر الصوت و وضع الهاتف فوق المكتب أمامه دون رد فعادت من جديد تسأل: 
طه، أنت سامعني، بقولك اخبارك إيه، و ليه مش بتروح البيت علي الأقل تنام كام ساعة؟ 

اسند رأسه فوق يديه و نظر للهاتف وقال بهدوء: 
مبحبش أروح البيت و أنا عارف إنك مش موجودة. 

ابتسمت و استحالت عواصفها لبستان ورود مزهر وصمتت، فأكمل هو بهدوء: 
تعرفي، أكلك كمان وحشني أوي، كلامك، طريقتك و أنتِ بتحاولي تعصبيني علشان أتكلم، شوية الوقت اللي كنت بخطفهم معاكِ كل كام يوم في بلكونة البيت بالليل كانو بيدوني طاقة إني أكمل، اكتشفت إن ابسط الحاجات اللي أنتِ كنتي بتعمليها هي جزء مهم يومي مش بيكمل غير بيه.

صمت قليلًا ثم تنهد وقال: 
أو بمعني أصح، أنتِ الفري ثيرابي بتاعي ، بكل تفاصيلك. 

سمع تنهيدتها التي خرجت قبل قولها الأخير: 
هستناك بكرة يا طه. 
★***★***★***★***★***★***★***★***★***★

يُقال أن الغيرة هي جمرة الحُب وقعها علي القلب أشبه بـ وقع جمرة داخل مكعب ثلج، و كان هذا هو حاله بالفعل حينما هاتفته و الدة زوجته بعد مغرب اليوم التالي و أخبرته بوفاة أحد اقربائهم في إحدي المحافظات المجاورة و أضطرت هي و زوجها السفر لهناك، اخبرته أن يبيت اليوم مع آية بالڤيلا أو يأخذها لبيتهم، و لكن ما جعله مغتاظًا قولها الأخير: 
"علي العموم هي حظها حلو، محمود ابن خالها جه الصبح بالصدفة زيارة وقال هيقعد معاها علي الأقل لحد أنت ما تيجي" 
بعد سماع هذا الحديث ألقي الهاتف أمامه بغضب أعمي، زوجته بالمنزل مع رجل غريب بمفردهما، وحماته تطلب منه أن يطمئن عليها، و ماذا عن شعور الغيرة التي ستأكله في التو و اللحظة لتقضي عليه، نهض غاضبًا و قد جذب سلاحه من الدرج يضعه خلف ظهره، ارتدي سترته التي بدون أكمام و خرج مسرعًا نحو وجهة معينة، جذب الهاتف يتصل بـ آية أجابت في المرة الثالثة مما أثار غضبه أكثر فأكثر، و لكن قبل أن يتفوه بأي شيء عاجله صوتها الباكي: 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 
تنازل عن ربع غضبه و رد السلام ومن ثم: 
البقاء لله يا آية. 

هزت رأسها بهدوء: 
و نعم بالله، أنت سايق و لا إيه؟ 

هز رأسه بالإيجاب فقال وقد لمعت بذهنه فكرة: 
آه كنت جايلك، قولت بدل ما نأجل معادنا لأخر اليوم نتكلم دلوقتي. 

هزت رأسها بموافقة: 
طيب كويس و بالمرة هعرفك علي محمود، أنا متأكدة هتبقوا أصحاب…

قاطعها بضيق: 
و محمود ده قاعد معاكي إزاي يعني؟ 

هزت كتفيها بهدوء وهي تخرج من غرفتها: 
عادي يعني يا طه البيت كبير، و مش إحنا بس اللي موجودين في البيت، أنا حتي مش قاعدة معاه. 

قال بضيق يأمرها: 
و متقعديش معاه من أصله، و متطلعيش من أوضتك لحد ما أجيلك. 

قالت بضيق مماثل: 
هو إيه ده أنا مش فاهمة، أنا عارفة حدودي كويس أوي يا طه، ومسمحلكش ابدًا بأي تلميح، وبعدين محمود…

انقطعت المكالمة، نفذت بطارية هاتفها، نظرت له بضيق و دلفت لغرفتها من جديد، أوصلته بالشاحن و أستلقت فوق فراشها بإرهاق، اصبحت جدالاتهما كثيرة و مرهقة لها كثيرًا، لا تعلم إن كانا سيصلان لنقطة تفاهم تعفيهم من كل هذه التفاهات في يومٍ ما. 

مرت نصف ساعة حتي سمعت صوت سيارته تتوقف بمدخل المنزل ارتدت حجابها و نزلت تستقبله، و لكن سبقها محمود الذي و قف بالمدخل و مد يده مرحبًا، ما جعله مضطرًا لمبادلته الترحيب دلف للداخل فـ أقتربت منه آية و معها شوقها و الذي لم تتمكن من كتمانه فـ احتضنته باكية، علي غيابه المقصود، وعلي هذا المفقود من عائلتها، ربت فوق كتفها برفق حتي صمتت و قال مشاكسًا: 
فنجانين قهوة من البِن الحلو بتاعكم، علشان نعرف نتكلم. 

ابتسمت وقالت وهي تجذبه: 
تعال طيب أعرفك علي محمود، محمود ده طه جوزي، طه ده محمود ابن خالو حسن، متربيين سوا من و إحنا عيال. 

جلس الجميع في الصالون الصغير حيث هي إلي جواره و محمود يقابلهما فقال طه دون مراعاة للجالس: 
هو مش المفروض إني جاي علشان أتكلم أنا و أنتِ و حدنا. 

فقال محمود يثير استفزازه بعدما لاحظ غيرته: 
لا مهو آية كانت بتحكي ليا اللي حصل، وقالتلي شروطها، وطلبت أحضر القعدة دي بدل عمي فاروق. 

نظر لها مغتاظًا و هو يعض علي شفته السفلى، فنهضت هاربة:
أنا هقوم اعملنا القهوة قبل أي كلام. 

رحلت و تركت حرب النظرات بينهما مشتعلة، حتي عادت
فقال محمود: 
تعالي يا آية قولي شروطك للباشا علشان نشوف هينفذها إزاي علشان لو رفض شرط واحد بس يعتبر كل شيء منتهي.

علمت هي بأن ما تفوه به هذا الذي لا يعِ ما يقول، سيتوجب عليه ثورة زوجها و لكن فاجأها طه بقوله المستهزء و هو يشير له باستهزاء: 
قولتيلي مين البتاع ده؟ 

نهض محمود بغضب قائلًا: 
ما تتكلم عدل يلا إيه اللي بتقوله ده. 

شهقت آية بقلق، بينما نهض له طه وقد ألقي قهوته فوق الطاولة و داخله سعيد لكونه هو من بدأ بوادر الجدال بينهمة، فصاح وهو يتجه إليه: 
أنت بتقولي أنا يلا، ده أنت نهار أبوك أسود. 

في لمح البصر كان قد أنقض عليه يلكمه في وجهه، حتي أنه لم يمهله الفرصة للدفاع حيث أسقطه فوق الأريكة خلفه وسط صراخ آية المذعور، مال عليه ليكمل ضــ،ربه و لكنها حالت دون ذلك وهي تقف أمامه و ترجته بعيناها قبل لسانها: 
طه خلاص، خلاص علشان خاطري، أنت بتعمل ليه كده، أنا أول مرة أشوفك في الحالة دي. 

جذبها لتقف خلفه ونظر له قائلًا بعنفوان و أنفاس متسارعة: 
علشان تفكر تتدخل بيني و بين مراتي تاني. 

كان قد نوي الخروج من المنزل و أخذها برفقته فنظر لها بأمر: 
روحي هاتي شنطتك علشان هنخرج. 

جذبته معها خارج الغرفة رغم تعنته و رغبته الواضحة في العودة له و تكرار ما فعله، وقف بساحة المنزل و رفض التحرك خطوة أخري، ماجعلها تنظر له: 
طه خلاص بقي، هجيب الشنطة و جاية علطول، متتكلمش معاه تاني بالله عليك. 

امرها بعيناه أن تتحرك للأعلي فذهبت مسرعة، و حين عودتها كان محمود قد خرج لتوه من الغرفة اوقف رحيلهما بقوله: 
أنت مين سمح ليك تاخدها و تخرج، ولا هي وكالة منغير بواب؟ 

تفاقم غضب طه مجددًا و نظر لها و عاد له بعدما أصدر سبة نابية لم تتمكن من سماعها و نوي ضربه: 
هستأذن منك أنت علشان اخد مراتي ولا إيه يلا، أنت شكلك مجنون، و أنا بقي أجن منك. 

و لكن و قوف آية أمامه مجددًا وهي تصيح بغضب: 
لا بقي أنا ممكن أوريكم الجنان علي أصله أنتم الاتنين
★***★***★***★***★***★***★***★***★***★

بعد نصف ساعة استطاعت جعله يخرج معها بعدما استنزف طاقتها، جلست جواره بالسيارة بنزق شديد مما فعله، بقيت صامتة حتي لم تسأل إلي أين، حتي وجدته يوقف سيارته أمام منزلهما، نظرت له تسأل بعيناها، فقال: 
مش عايز اقعد في كافيهات، ومش جاي علي بالي مكان تاني غير هنا، انزلي . 

لاحظ جمودها فقال متذكرًا جملتها التي تكررها علي مسامعه مرارًا و تكرارًا: 
مش هعضك علي فكرة، أعتبريني زي جوزك يعني. 

أخفت ابتسامتها علي طريقته، فنزل و دار ناحيتها يفتح لها الباب لتنزل، وصلا حتي الباب الذي فتحه هو بمفتاحه و سمح لها بالدخول قبله، و قفت بمنتصف الصالة حتي أشعل هو الأضواء و توجه نحو النوافذ يفتحها كما كانت تفعل هي، وكحركة تلقائية رفعت يدها تزيل حجابها، خاصةً مع بداية الصيف و إرتفاع درجات الحرارة قليلًا، جلست فوق الكرسي خلفها تتطلع لأرجاء المنزل بحب لكل ما فيه.

طلبت منه: 
شغل الراديوا يا طه. 

فعل ما قالته و توجه نحو المطبخ و غاب داخله مما أثار فضولها فنهضت تنظر لما يفعل، كان قد وقف يوليها ظهره و قال: 
هعملنا اتنين قهوة، بدل اللي طفحتهم لمحمود. 

ختم جملته وهو يغمز لها بضحكة، توقع أن تغضب مجددًا لكنها ضحكت بخفة وهي تجلس فوق كرسي الطاولة الصغير تتطلع له دون أي حديث، تأكد من ضبط شعلة الموقد أسفل كنكة البُن و نظر لها متنهدًا: 
أول مرة شوفتها فيها كان أخوها اتصاب في ضرب نار حصل علي كمين، روحت المستشفي و هناك شوفتها واقفة بتتخانق مع دكتور هناك علشان مرضيش يدخلها عنده، كانت تشبه شخصية شهد كتير، يمكن الفرق بينهم إن نانسي كانت متهورة بزيادة معندهاش صبر علي أي حاجة، وكانت عصبية، بس كان فيها صفات حلوة تاني تغطي علي كل ده، وقتها طبعًا مكنتش اعرف عنها كتير، اتقدمتلها و اتخطبنا، و بدأت بعدها خناقاتنا اللي مبتخلصش، تصرفاتها، طريقة كلامها مع الناس، حاجات كتير كنت بعديها و أقول يمكن علشان لسه سنها صغير، بس كنت ببص لشهد الاصغر منها مكنش بيحصل منها أي حاجة من تصرفاتها. 

صب فنجاني القهوة و جلس فوق الكرسي أمامها و أكمل بعدما أراح ظهره فوقه: 
بس رجعت قولت البيئة اللي شهد اتربت فيها غيرها، كنت بخترع أي عذر و بحط أي حاجة تبرر ليها، رغم نظرات أهلي اللي باين فيها إنهم مش متقبلينها، بس مكنتش عايز أظلمها، و كنت حابب ميكس شخصيتها ده و بحط عيني علي نص الكوباية المليان، لحد ما اختفت مرة 3 أيام مش بترد عليا، و بفتح إنستجرام في اليوم الرابع لقيت صورة ليها في دهب، و أنا معرفش؟! 

هز كتفيه و هو يلتقط الفنجان يرتشف القليل، قال: 
سألت نفسي وقتها طب و أنا إيه لازمتي في حياتها لما تعمل حاجة زي دي منغير ما اعرف من باب العلم بالشيء حتي، و إزاي بعد الجواز هنزل من البيت و أنا متطمئن إني هرجع ألاقيها في البيت، مهي ممكن تضرب في دماغها فتقوم تلم هدومها و تسافر مع صحابها، و الأهبل اللي متجوزها مش مهم يعرف، في الوقت ده كنت خلاص قررت إن الحكاية دي مش هتكمل، مكلمتهاش و مقولتش حاجة و اختفيت عنها زي ما هي اتصرفت بالظبط، طبعًا معجبهاش، وبعد جدال طويل أوي، وعدتني إنها مش هتتكرر تاني و إنها فهمت غلطها، فصبرت، لحد ما الموضوع اتكرر، وحتي بعد ما أخوها حذرها من تصرفاتها دي، و خوفه عليها بسبب القضية اللي كان ماسكها مهتمتش، لحد ما جات القشة اللي قسمت ظهر البعير و أتخطفت. 

مرر يده فوق وجهه و صمت برهة، فهمست له وهي تربت فوق يده الممددة فوق الطاولة: 
طه ده ماضي و عدي خلاص، بلاش تخليه يسحبك من تاني. 

هز رأسه موافقًا و أكمل: 
وقتها لفيت القاهرة كلها مسيبتش شبر إلا و دورت فيه، لحد ما اتصلوا وقالوا طلباتهم، أكيد شهد قالتلك اللي حصل، و المكالمة اللي وصلت لنا منها و قالتلنا العنوان، لما كلمتني عرفت إن دي أخر مرة هسمع فيها صوتها، كان قلبي حاسس إن في فخ، قولت لأخوها بس هو صمم يروح، فأضطريت اكون معاه، 
يتبع الفصل

طائر النمنمة

الفصل الخامس الجزء الثاني

 كانوا سايبين كام واحد يضرب نار من باب التهويش، كانوا بيلعبوا بينا بمعني أصح، لحد ما دخلت الأوضة اللي هي فيها و لقيتها مدبــ،وحـ،ـة، مش قادر أنسي نظرة عينيها، ولا الصدمة اللي كانت مرسومة علي وشها بعد ما ادوها أمل إنها هتعيش و تخرج، خلصوا عليها، وقتها نار ولعت جوايا، بقيت واحد تاني مش شايف قدامه غير إنه ينتقم


استمرت جلستهما طويلًا حتي ختم حديثه: 

كان نفسي تهورها يقل و تحس بقيمة حياتها، و خوف اللي حواليها بأي شكل، لكن مش بإنها تمـ،ـوت، بس قدرها كده.


نظر لساعته وقال:

الكلام الكتير جوعني، نطلب أكل؟


هزت رأسها موافقة فنهض يجذب هاتفه من فوق رخامة المطبخ،و أقترح:

برجر ولا بيتز؟


فكرت قليلًا وقالت:

عايزة أكل كفتة وسلطة طحينة 


ضحك بغير تصديق وسألها: 

ده بجد؟ 


قالت: 

أه طبعًا و قوله يتوصي بالسلطات. 


بعد ساعة


استلم الأوردر من عامل التوصيل و عاد للداخل، وضعه فوق السفرة المخصصة للضيوف و ناداها: 

يلا الأكل وصل. 


خرجت إليه و شرع كلاهما في فتح العبوات بشهية كبيرة فقال: 

بصراحة المشويات تكسب قصاد أي حاجة تانية. 


تناول كلاهما الطعام وسط أحاديث جانبية حتي عادت تستجوبه: 

بس قولي يا طه، أنت اتغيرت إزاي برضو كده، يعني أنت مش طه اللي اتجوزته من سنة، مش هنكر إن المسؤولية و وارد برضو الحب يغيرنا بس مش بالشكل ده، صح؟ 


ضحك وهو يغمس قطعة اللحم بطبق السلطة وقال: 

قولتيلي بباكِ مدخلكيش كلية الشرطة ليه؟ 


ضحكت هي الأخري: 

أنا اللي قولت أسيبكم تاكلوا عيش، يلا جاوب. 


تنهد و نفض عن يده دقيق الخبز وقال بصراحة: 

كنت متابع مع دكتور نفسي. 


ابتسمت له بتقدير علي محاولاته وسألت: 

من أمتي؟ 


فكر قليلًا و قال: 

من ٤ أو ٥ شهور، في الأول مكنتش منتظم ومكنتش مقتنع إنها هتجيب نتيجة، بس مع إصرار الدكتور و أهتمامه كملت، وقتها قالي لو مش علشان نفسك علشان غيرك، أهلك، زوجتك، ياسيدي بلاش كل دول، علشان أولادك في المستقبل، لما بدأت سلاسل الماضي تتفك، وعقدى خوفي من إني أتعلق بيكِ و أحبك و بعدها تروحي مني اتفكت، بقيت سايب قلبي يقرب منك منغير ما أشده، أو أجبره يرجع يبعد، سيبتك تفتحي شبابيكه و تدخلي النور، و تعملي لنفسك مكان جواه و أنا مقرر إني مش هخرجك منه تاني.


سألت بخفوت: 

ليه مقولتليش يا طه، مش بس علي الدكتور، علي كل حاجة من الأول، ليه سيبتني في حيرتي الوقت ده كله؟ 


قال مبررًا: 

متخيلتش لما اتقدمتلك انك هتكملي معايا، فقولت مش لازم اتكلم دلوقتي، لما أشوف حكايتنا هترسي علي إيه، بعد كده بقيت حاسس إن في حاجة جوايا بتمنعني أتكلم، و الحاجة دي أتحولت مع الوقت لخوف إنك تسيبيني لما تعرفي، بس لما كنت خدت قرار اقولك، اعتقد شهد كانت قامت بالواجب. 


قال جملته الأخيرة مبتسمًا فردت هي: 

بمناسبة شهد، هي قالت ليا إنك زعلت منها علشان أنا عرفت منها، بس أنا اللي وقعتها في الكلام وبعد كده أصريت إنها تتكلم و تقول كل حاجة. 

زادت ابتسامته و هو ينهض للداخل قائلًا: 

مش بقولك كان لازم تدخلي كلية الشرطة. 


نهضت خلفه لتغسل يدها، وقالت: 

طيب و الدكتور برضو، ليه متكلمتش عنه؟ 


قبض فوق المنشفة يجفف يده و أجابها: 

كنت هحكيلك، ايوة أتأخرت بس أنتِ صدمتيني يوم ما طلبتي الطلاق، لوهلة حسيت إن كل ده اصلا ملهوش لازمة لو أنتِ مخدتيش بالك منه، بصراحة أنا لسه مش فاهم ليه طلبتي الطلاق في التوقيت ده! 


ناولها المنشفة و سبقها للخارج، وقف بمنتصف الردهة ينتظرها، وقفت امامه وقالت: 

أنا كنت ملاحظة إنك اتغيرت مش هنكر ده، بس برضو مكنتش فاهمة أنت  أمتي هتتكلم، و حسيت إنك هترجع تاني تاخد دور الصامت فكان لازم وقفة أضغط عليك بيها، و في نفس الوقت أشوف أنت فعلًا عايزني معاك و لا مجرد متقبل وجودي من باب اللي لقيتها قدامي. 


قال بغير تصديق: 

اللي لقيتها قدامي؟! ده بجد يعني؟ حتي بعد اللي قولته ليكِ يوم فرح شهد، لما كنا بنرقص سوا؟ 


لاحت فوق وجهها ابتسامة للذكري: 

ده أكتر وقت حسيت فيه إن أنت ممكن تكون بقيت بتحبني. 


ولت عنه لتذهب للخارج ولكنه جذبها مسرعًا من خصرها و قربها إيه، تسارعت أنفاسه تدل علي فرط ما يعتليه من مشاعر، نظر بعمق عيناها و همس بصوتٍ رخيم: 

حسيتي إيه بس!

آية أنا بحبك، و بحبك من قبل اللحظة دي بكتير من وقت ما بقيت بشوف في عيونك خوفك عليا و قلقك، من وقت ما بقيت اتخنق من شغلي اللي بيسهرني طول الليل و مبعرفش أجي بدري اقعد معاكِ شوية قبل ما أنام من كتر التعب، بحبك من وقت ما بقيت أتنازل و أعمل حاجات مش متعود أعملها، بس علشان خاطر أنتِ اختارتيها، مش عارف أحدد أمتي بالظبط حبيتك، بس أنا كل يوم بحبك أكتر من اللي قبله يا آية. 


ذابت كليًا من أعترافه المفاجئ، ما إن همس بكلمته الأخيرة حتي همست: 

آية و سنين آية البيضاء. 


سمعها فعلَا صوت ضحكاته المجلجلة و لازال يقبض عليها، رفعت كفيها فوق صدره تدفعه للخلف حتي تفلت منه و لكنه أحكم قبضته أكثر وقال غامزًا بنبرة لأول مرة تسمعها منه: 

يعني من الذوق اعترفت اعتراف أخد مقابل ليه، اعتراف مماثل أو أي تعبير شكر يعني. 


هنا استعادت قوتها وقالت: 

اعتراف مماثل ده في المشمش يا عيوني، متنساش أنا لسه مقولتش شروطي علشان أرجعلك، وممكن لما تسمعها تغير رأيك. 


نظر لها بمكر: 

بذمتك بعد وقفتنا دي لسه في شروط هتحطيها، أنتِ مشوفتيش شكلك من دقيقتين كان عامل إزاي؟ 


دفعته بغيظ وهي تتجه للخارج، فسار خلفها و حملها

علي كتفه و غير و جهته وسط صراخها: 

طه متتهورش، نزلني أحسنلك. 


رأته يتجه بها نحو غرفة نومهما فزادت حركتها وصاحت: 

يابن المجنونة نزلني، أنت هتعمل إيه؟ 


نجحت في الإفلات بعدما عضته بكل قوتها في كتفه فأنزلها

وصاح متأوهًا، استغلت هي الفرصة و هرولت نحو الشرفة، بعدما جذبت حجابها و وضعته بعشوائية، جلست تتخذ أنفاسها بصعوبة نتيجة ما بذلته من جهد للهروب، و مالبثت إلا و وضعت يدها فوق فمها تحاول السيطرة علي ضحكاتها وهي تراه قادمًا من الداخل يبحث عنها  مغتاظًا من فعلتها

جلس أمامها وقال: 

أنتِ لسانك بقي طويل زيادة عن اللزوم. 


عاندت بقولها: 

أنت السبب علي فكرة، تستاهل. 


قبل أي رد منه قالت: 

المهم أسمع اللي عندي علشان نقلب الصفحة اللي فاتت دي ونبداء صفحة جديدة. 


تنهد وهو يوميء برأسه موافقًا، أولاها كامل أنتباهه فقالت: 

شوف مبدئيًا كده، نقطة إني مخرجش غير معاك، و لو أنت مش فاضي استني تفضي دي مرفوضة تمامًا. 


اعترض: 

ليه بقي إن شاء الله؟ 


وضحت بقولها: 

أنت مش واخد بالك إن تلات أرباع خناقاتنا بيكون بسبب الموضوع ده، و إننا بنعاند قصاد بعض؟ بلاش دي، أنت شغلك طول اليوم وبيكون صعب تخرج منه مثلا تيجي توصلني أي مكان، و مش معقول لو هخرج أقابل صاحبتي هنزل معاك من النجمة استني معادي معاها يا طه. 


استغلت صمته فاكملت تخبره بحججها حتي يوافق: 

حبيبي أنا مش صغيرة، أنا ناضجة كفاية إني أخد بالي من نفسي، أنا مقدرة خوفك من إن اللي حصل قبل كده يتكرر، بس لو هنفكر كده محدش هيخرج من بيته، و في نفس الوقت لو مكتوب لينا أي مكروه هيصيبنا و لو كنا فين. 


بقي علي صمته، و تركته هي يفكر و يرتب قوله، نظر لها و هز رأسه بالمواففة مغلوبًا علي أمره، فابتسمت بحماس و قالت: 

يبقي بكرة نروح معرض عربيات جوز واحدة صاحبتي نختار عربية ليا. 

رفع حاجبه بتعجب: 

مين دول اللي هيروحوا؟ 


قالت بجدية: 

طه، أنا مش بهزر! 


رفع قدمه فوق الطاولة الصغيرة أمامه بغيظ و هو يتمتم: 

اللي بعده. 


قالت بهدوء: 

أنا مش هتكلم في نقطة الصمت و الفجوة اللي بينا لأني شيفاها بتصغر، و شيفاك بتقرب، بس يا طه أنا مش هقبل تاني إنك ترجع تسكت، و تطلع البرج بتاعك و تقفل الشباك و تسيبني و اقفة تحت! 


كرر مستفهمًا: 

البرج بتاعي؟ 


ابتسمت: 

ده موضوع طويل هبقي أقولك عليه بعدين

المهم تالت حاجة …


رفع إصبعه محذرًا: 

أوعي تفكري تقولي عايزة أنزل شغل و تحقيق ذاتي و كفاحي و جو الأندبندنت وومان ده، حققي ذاتك في بيتك مع جوزك و ولادك مستقبلًا. 


ضحكت من قوله و طمأنته بردها: 

لا، متقلقش أنا من الحزب المؤيد لتستيت المرأة، أمتثالًا لعبادة التوقير، أقولك بقي اللي كنت هقوله…


مرت ساعة و الثانية و أوشكت الثالثة علي الإنتهاء و لازال كلاهما علي نفس جلستهما، حديث متواصل دون انقطاع منهما، مما أثار تعجبها و بشدة، كانت تدقق النظر بملامحه من حين إلي أخر؛ تتأكد ما إن كان يجلس معها مرغمًا، و لكن ابتسامته التي كانت تعتلي شفتيه و الإرتياح المرسوم فوق وجهه كان يطمئنها، و ما طمأنها أكثر استرساله في الحديث بكل سلاسة و تعليقاته من الوقت للأخر علي ما تقوله، عند هذه النقطة أدركت أنها كانت مُخطئة حينما ظنت أن هذا المكان ليس مكانها، فـ أين لها أن تمكث إن لم يكن بجانب هذا الرجل، لا مكان لها سوي معه، في هذا المنزل. 


لم يدرِ أي منهما كم الساعة إلا حينما علا رنين هاتفها و أضأء باسم و الدتها، قالت قبل أن ترد: 

معقول الساعة بقت ١١ ونص؟! 


أرادت والدتها الأطمئنان عليها و معرفة مكانها، خاصةً بعد أن اخبرها محمود بما حدث، نهض و ترك لها المجال في الحديث، توجه للداخل يبدل ثيابه، استمرت المكالمة لدقائق حتي ختمتها مودعة و نهضت تبحث عنه. 


دلفت للغرفة حينما رأت نورها مضاء فقالت وهي تتقدم: 

طه يلا علشان تروحني. 


عقب جملتها خرج من مرحاض الغرفة و قد ابدل ثيابه لأخري تناسب النوم وقال منزعجًا: 

لا كده أنا اللي لساني هيطول، و ممكن أوريكِ الظابط بتاع القسم بيتعامل إزاي مع اللي بيستهبل. 


أشارت نحو نفسها مشدوهة: 

أنا بستهبل يا طه؟ 


قال و هو يتوجه للخارج يبحث عن هاتفه فتوقف أمامها: 

أومال ده تسميه إيه حضرتك؟ آية علشان نختصر جدال مفيش منه فايدة، محدش فينا هيبات برة البيت ده، فـ أتفضلي غيري هدومك و شوفي هتنامي فين و أعفينا من الخناقة دي و خليها ليوم تاني. 


لم يتنظر ردها سار للخارج دون رد منها و جد هاتفه و هو يغمغم بصوت خفيض: 

عملالي فيها ناضجة و اوقات بتبقي تعبانة في دماغها. 


بقي قليلًا بالخارج يجري بعض المكالمات، و عاد للداخل وجدها  فعلت مثلما قال لها بل وسبقته للفراش، ابتسم و هو يتقدم نحوها: 

ربنا يكملك بعقلك يا ست العاقلين. 


و قبل أن يلامس الفراش ترجته برقة: 

طه معلش ممكن تجيب ليا كوباية مياة، عطشانة و مش قادرة أقوم تاني؟ 


هز رأسه موافقًا و خرج يجلب الماء، و لم يدرك بسمتها الماكرة وهي تنهض مسرعة تغلق باب الغرفة من خلفه بالمفتاح، عاد بعد برهة و أدار مقود الباب يفتح ليصتدم به مغلفًا، صاح من الخارج:

ده أسمه إيه بقي إن شاءالله؟


فقالت بصوت يشوبه الضحك: 

اسمه تشوف مكان تاني تنام فيه غير الاوضة دي. 


أفتحي وعدي ليلتك يا آية. 

كان هذا رده بعدما حاول فتح الباب مجددًا ولكنها لم ترضخ لقوله، فقال مستسلمًا: 

طب مش عايزة تشربي، خدي المياة ومش هدخل. 


سألته بشك: 

وعد؟ 


لمعت عيناه بقوة وقال: 

وعد، أفتحي يلا. 


سمع صوت المفتاح، و من ثم أنفرج الباب بزاوية صغيرة أخرجت منها يدها و هي تنظر له، و بدلًا من أن يعطيها الكوب بيدها سكبه في وجهها دفعةً واحدة، شهقت بقوة من برودة المياة المُباغتة وسط ضحكاته العالية عليها وقوله قبل أن يبتعد: 

تصبحي علي خير يا يويو. 

صرخت بغيظ وهي تغلق الباب خلفه بعدما غادر منتصرًا. 

★***★***★***★***★***★***★***★***★***★


"تيك، تيك، تيك، تيك" 

"ساعتنا الأن السابعة بتوقيت القاهرة، إخوة الإيمان و الإسلام هذا موعدنا مع الشيخ"محمد رفعت" و الذي يتلو علينا سورة الرحمن"


صدح صوت إذاعة القرأن الكريم بأرجاء المنزل من جديد و دبت في المطبخ حركتها بنشاط كبير و هي تتحرك هنا و هناك تعد الفطور، وقفت تقلب البيض فوق الموقد، حتي شعرت به يدلف من خلفها، لم تلتفت له بعدما قررت تجاهله لحين اعتذاره عما فعله بالأمس، لكنه فاجأه وهو يقترب منها يطبع قبلة فوق كتفها قائلًا: 

صباح الفل يا يويو، أتمني تكون النومة علي السرير و حدك عجبتك، و أنا مرمي برة علي الكنبة. 


أطفأت الشعلة أسفل المقلاة و نظرت له: 

تستاهل علي فكرة. 


أخرجت البيض في أحد الأطباق، و استدارت له مبتسمة: 

صباح الورد يا طه. 


رفع حاجبه باستفهام لتبدلاتها هذه و جلس فوق كرسيه ينظر للطعام بشغف كبير، اشتاق لهذه الجلسة كثيرًا، تابعها وهي تتحرك من هنا لهناك بخفة فراشة رصت الأطباق فوق الطاولة و سكبت له العصير و جلست بمقابله مبتسمة وهي تمد له إحدي المخبوزات: 

دوق دي كده أنا لسه عملاها النهاردة هتعجبك أوي. 


إلتقطها منها وشرع في تناوله، بينما راقبت هي ملامح وجهه حتي ابتسم وهز رأسه بإستحسان، سأل وهو يقطم منها مجددًا: 

عملتيها أمتي؟ دي الساعة لسه ٧؟! 


أجابت وهي ترتشف من العصير: 

صليت الفجر و مجاليش نوم فعملتها و عملت شوية حاجات تانية كدة، قولت عقبال ما تصحي نفطر سوا. 


تابع كل منهما تناول طعامه حتي سألها فجأة: 

أنتِ إزاي تحكي للي اسمه محمود ده عن حاجة بينا و تعرفيه بيها؟ 


قالت: 

أنت شايف إني ممكن أحكي حاجة زي دي لأي حد عادي كده، حتي لو كان ابن خالي؟ طه أنا لحد دلوقتي مقولتش لبابا ومش ناوية أقوله اصلا، أنا اتفاجئت زيي زيك إمبارح علي فكرة! 


قال: 

أومال عرف منين؟ 


أوضحت: 

لما كلمت ماما امبارح سألتها و قالتلي إن هي اللي قالتله، مش كل حاجة طبعًا، فهمته إننا متخانقين عادي مش أكتر. 


هز رأسه بالموافقة دون رد، فسألته: 

أنت زعلان؟ علشان يعني ماما قالت لمحمود يعني و كده؟ 


مط شفتيه و أجاب: 

مش زعلان، بس محبتش تدخله في الموضوع بالوقاحة بتاعته دي، أنا حاسس إني لو شوفته تاني هضربه. 


كان قد أنقضت ساعة أخري قبل أن يصبح هنا في سيارته يتجه نحو مكان عمله بنشاط و حيوية و كأنه عنقاء وُلِدَ من جديد، تذكر جلستها بالغرفة وهي تتابع تحركه من هنا لهناك حتي يتجهز للنزول و هو يسرد عليها تفاصيل مهمته الأخيرة و كيف تم إلقاء القبض علي هؤلاء المجرمين في لمح البصر، ابتسم من جانب وجهه و هو يتذكر لمعان عيناها كطفلة صغيرة  يسرد لها والدها مغامرات السندباد، وفي لحظة أنقلبت ملامحه المبتسمة لأخري يشوبها الريبة و هو يتفقد فرامل سيارته ليتضح له أنها لا تعمل، لعن من تحت أنفاسه و هو يحاول تجميع افكاره ليرفع وجهه للطريق بعدما أرتفع بوق إحدي السيارات التي تسير في إتجاه معاكس له، حاول تفاديها ولكن سائقها استدار بها لتصتدم بسيارة طه بقوة ما جعل سيارته تنقلب علي جانبها، مرت دقائق تجمع فيها الناس حول السيارتين بينما بداخل السيارة كان يصارع هو لـ ألا يفقد وعيه قبل الخروج من كومة الحديد هذه ولكن جرحه رأسه شوش رؤيته، و ذراعه الذي حُشر بين السيارة و المقعد عاق حركته وقيده، سكنت الأصوات من حوله ولم يتردد علي مسامعه سوي قولها الأخير له قبل أن يرحل:

"خلي بالك من نفسك يا طه، ومتتأخرش بالليل." 

شعر بأحدهم يحاول فتح الباب بجانبه و قبض فوق يده يجذبه 

هنا فقط ترك لعينيه العنان بأن يغلقا وغاب لدنيا اللاوعي


 •تابع الفصل التالي "رواية طائر النمنمة" اضغط على اسم الرواية 

google-playkhamsatmostaqltradent