Ads by Google X

رواية رحماء بينهم الفصل الخامس 5 - بقلم علياء شعبان

الصفحة الرئيسية

 رواية رحماء بينهم الفصل الخامس 5 - بقلم علياء شعبان 

(رُحماءٌ بينهم)
                                  "كمثلِ الأُترُجَّةِ".
الفصل الخامس
••••••••••••••
"أطلت عليه حسناء بهية، سلبت لُبه ورغب في مُعايشة حاضره معها كطفلٍ ينام بين ملابسه الجديدة ليلة العيد يحلم بطلوع الصُبح شغوفًا".
•••••••••••••
وضعت كلا كفيها على فمها تنظر إليهم في انبهار؛ لم ينسَ أحدًا يوم ميلادها كما ظنت أن الجميع مشغولًا في حياته ولن يذكرها أحد، مرَّت بفرحة كبيرة من فوق الصندوق الموجود أسفل قدميها ثم هرولت نحو صديقة طفولتها وارتمت بين جنباتها وهي تقول بفرط من السعادة:
-شروق، إنتِ مش ناسية عيد ميلادي!
التوى عُنق الأخيرة ثم قالت باستنكار وملامة:
-وأنا إمتى نسيته يعني!!!
ابتهجت أسارير وجهها وهي تتشبث بخصري صديقتها ثم تقول بخفوت:
-علشان اتجوزتي والظروف إتغيرت وكدا!!!.
شروق بلهجة مُكابرة:
-الظروف تتغير زيّ ما هي عايزة بس علاقتنا لأ.

ارتفع صوت والدتها مُعاتبًا تقول وهي تنظر للجميع:
-تقريبًا كدا هي مش فرحانة بالمُفاجئة أد ما فرحانة بوجود شروق، دي حتى نسيت تشكرنا!!

ضحك الجميع بمرحٍ، ابتعدت "وَميض" عن صديقتها وراحت تقترب من والدتها ثم تلتقط كفها وتُقبله مؤكدًا في سعادة:
-شُكرًا على المُفاجأة الحلوة دي يا ست الكُل وست الناس.

افتر ثغر "سُهير" عن ابتسامة عريضة ثم تمتمت بخفوت وخجل:
-بكاشة.
التفتت "وَميض" إلى ذلك الواقف بجوار والدها ثم أردفت بصوت مُمتن شاكر:
-نورتنا يا عِمران، وشُكرًا إنك جبتها تزورني لأنها كانت وحشاني فوق ما تتخيل!.
عِمران وهو يبتسم بهدوءٍ ثم يُعبر عن دعمه لهذه الصداقة الوفية التي تروقه:
-ربنا يديم العِشرة والود بينكم.
سكت لبُرهة ثم أضاف بحزمٍ:
-هنستأذنكم بقى علشان عندي شغل ولازم أكون هناك في خلال ساعتين، يادوب مسافة الطريق.
علام وهو يرد باستنكار من قدومه دون أن يتناول واجب الضيافة الذي يستحقه:
-والتورتة؟؟؟ مش هناكلها مع بعض يا أستاذ عمران.
عمران يعتذر منه بهدوء:
-غصب عني والله يا عم علام.
أومأ "علام" مُتفهمًا ثم التفت إلى "شروق" وقال بصوت هادئ:
-نورتينا يا شروق هانم.
شروق بتواضع يجعل الأجواء بينهم مُريحة للعقل والمنطق:
-دا نورك يا عمو علام، وقُريب أوي هستنى وَميض تزورني في بيتي!!.
وَميض بترحاب شديدٍ:
-أنا وعدتك، يعني اعتبريه حصل.
سهير تضيف بنبرة متضايقة:
-يعني قطعتوا كل الطريق دا علشان متشربوش حتى كوباية شاي!!!
عِمران وهو يتجه صوب الباب ثم يقول بصوت ثابت:
-تتعوض إن شاء الله، السلام عليكم.
علام يرد مودعًا إياهما:
-وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، في حفظ الله.

ودعهم الجميع بعد أن قدمت شروق هديتها إلى صديقتها ثم قرر "علام" المغادرة فورًا عائدًا إلى القصر وبقيت "سُهير" مع ابنتها بعد أن طلبت إجازة لمدة يومين كي تعتني بابنتها التي تعرض لحادثة وظنت أنها سترقد في فراشها لأيام؟؟ فقد وضعتها "وَميض" في مأزق كبير بذهابها إلى الشركة وهذا يعني أن الإجازة لم يكن لها داعي من البداية!!

قامت "وَميض" بوضع هدية صديقتها داخل الصندوق ثم حملته وأدخلته إلى غرفتها، تأجج حماسها اشتعالًا حول معرفة هدية صديقتها، أسرعت بالجلوس على طرف الفراش ثم بدأت تفك رباط العلبة بفروغ الصبر إلى أن أزاحت الغطاء عنها ووجدت فُستانًا من اللون الأخضر الفاتح الحريري ومعه علبة صغيرة يقبع داخلها قلادة من الذهب على شكل حرف الـ(w)

افتر ثغرها عن ابتسامة عريضة ثم التقطت الرسالة المُلحقة بالهدية وقرأتها في سعادة تكاد تطير بأجنحتها الوهمية عاليًا:
-"لسه الهدايا مخلصتش، ليكِ عزومة عندي بعد بكرا في مطعم تركي اكتشاف، عِمران وداني هناك وعجبني أكلهم فقولت لازم تجربيه وبالمناسبة السعيدة دي وإن القمر كبر سنة فكان لازم هديته تليق وتفرح كرشه، بحبك يا صديقتي الومضاء الرائعة".

أسرعت باحتضان الرسالة في غمرة من سعادتها، ثم نهضت من مكانها فورًا وتحركت صوب دولابها، أخرجت منه صندوقها العزيز الذي تخبئ داخله كُل أشيائها الجميلة والقريبة على قلبها، جذبته للخارج ثم جلست مُقرفصة بالأرض وراحت تفتحه بحماس كل مرةٍ  تجلس فيها نفس الجلسة وتعبث بمحتوياته في حُب، نظرت داخله ببهجة ثم دفنت كفها داخله وأخرجت أول أشيائها حُبًا وقد كانت دُمية مخيطة بالقماش أخبرتها والدتها بأنها صنعتها لها في صغرها كي تتخذ منها صديقة وقد كانت تكف عن البكاء كلما أمسكتها بين يديها، نظرت إلى الدُمية بحب وفيرٍ استحقه والديها؛ كذلك والدها الذي استغنى عن قمصانه الجميلة من أجل تنفيذ دمية جميلة لها!!

قبلت الدمية ثم وضعتها جانبًا وراحت تلتقط هذه الميدالية التي تُذكرها باسمها القديم فقد كانت على شكل فص من ثمرة الأُترُج مكتوب عليها أول حرف من ذلك الاسم، تلك الثمرة التي لم تكن لتعلم عنها شيئًا لو لم تُسمى على اسمها؛ لم تكن تكره الاسم ولم تحبه أيضًا، أرادت أن تتخلص من تنمر صديقاتها على اسمها خلال مسيرة تعليمها فأصرت في النهاية على تغييره رغم حُزن والدها الشديد منها ومقاطعتها لأسابيع مُبررًا أنه الذي اختاره لها.

ذكرتها الميدالية بذكريات كثيرة، وقت أن طلبت منها والدتها أن تجمع كل أشيائها القديمة وتتخلص منهم مُبررةً أن هذه الأشياء تذكرها بذلك الاسم؛ إلا أنها رفضت قطعيًا هذا الاقتراح وقررت جمعهم في صندوق تفرغه من حين لآخر من أجل استعادة الذكريات وشعورها بدفء الماضي.

-وَميض إنتِ مش هتاكلي من التورتة!!!

دخلت "سهير" الغرفة فجأة فالتفتت الأخيرة لها ثم تابعت بابتسامة عريضة:
-كنت قاعدة بتفرج على ألعابي وأنا صغيرة، تعرفي إني بحب العروسة دي أوي!!!.

تجهم وجه "سهير" ولكنها جاهدت أن تبدو صفحة وجهها طبيعية، تنحنحت بغيظ خفي ثم تقدمت منها وقالت بصوت ثابت:
-هي حلوة بس إنتِ كبرتي على الكلام دا، اقفلي بقى الصندوق دا وخلينا نقعد شوية مع بعض.

أومأت "وَميض" بهدوءٍ ثم تناولت قلادة صديقتها ووضعتها داخل الصندوق وأبقت الفُستان بالخارج، حملته مرة أخرى حتى وضعته في مكانه ثم أردفت بصوت مرتفعٍ حماسي:
-أديني شيلت الصندوق بس لازم أخرج حالّا، يا دوب أجهز علشان عندي مقابلة شغل.

اتسعت عينا "سهير" ثم تساءلت دهشةً:
-إنتِ لحقتي تسيبي الشغل لما تبدأي في غيره!!!
وَميض بابتسامة ثابتة عنيدة:
-أمال عايزاني أقعد أبكي على الأطلال يا ماما، دي واحدة زميلتي من الجورنال قالت لي على اسم شركة كويسة أوي عايزة موظفين في كُل الأقسام ولمَّا بحثت على موقع الشركة عرفت بالصدفة إن التقديم النهاردة الساعة خمسة يعني يادوب ألحق ألبس وأنزل، ادعي لي يا سوسو يا قمر.

انقضت عليها ثم قبلتها بمشاكسة، ابتسمت "سُهير" ابتسامة صغيرة ثم أردفت بصوت خافت:
-ماشي يا وَميض، ربنا يوفقك يا بنتي في كُل خطوة.
•••••••••••••

-أهلًا أهلًا يا حميد، اقعد يا راجل!!

أردف "عثمان" مُرحبًا بالأخير في حفاوة كبيرةٍ، سلم "حميد" عليه ثم جلس على الكرسي المقابل لذراعه الأيمن، تنحنح "حميد" بخشونة وقد بدت علامات الضيق على وجهه بوضوح وتمكن "عثمان" دون حذق أو نباهة من معرفة سبب مجيئه إلى الشركة دون موعد حتى!!!
تنهد "حميد" ثم أردف بنفاد صبرٍ:
-أنا عارف عن شركتك الالتزام وعارف إنك رجل أعمال ذكي بس مكنتش أتخيل إنك بتشغل عندك عيال صغيرة طايشة لمجرد المُجاملة!!!
عقد "عثمان" حاجبيه بضيق من كلماته القاسية؛ ولكنه تكلم بلهجة حازمة لا تقبل الاستخفاف بعظم شأنه مهما كان:
-شركتي معروف عنها الالتزام للنهاية ومفيش أي حاجة أو حد يقدر ينكر أو ينفي دا؛ أما بقى بالنسبة للبنت فهي شاطرة وشغالة معانا هنا لأنها ناجحة ومحققة تارجت ممتاز معانا.

ظهرت ابتسامة مُستخفة على جنب شفتيه ثم أكمل بصوت غليظ:
-يعني مش علشان بنت الشغالين عندك؟؟ مينفعش نضحي بسمعة حياة بنيناها في سنين علشان نجامل ناس عابرين في حياتنا!!!
اِكفهرت ملامح وجهه من جرأة الأخير في توجيه النصائح إليه، تنحنح بصرامة ثم أضاف بثبات:
-صحيح كلامك، على العموم هي اترفدت بشكل نهائي من الشركة.
أومأ "حميد" إيماءة واحدة خفيفة، مال قليلًا نحو المكتب ثم شبك أصابعه سوية وأضاف بلهجة حادة:
-هتغاضى عن إنها عملت لي مشاكل مع بعض الجهات الخاصة واللي تهمني وأنا هحل الموضوع دا بمعرفتي بس آسف مش هتغاضى عن حق مراتي!!.

قطب "عثمان" ما بين عينيه يسأل بفضول ينبعث من عينيه فيتابع الأخير بغيظ خفيف:
-البنت ضربت مراتي يا عثمان بيه!!
عثمان يصيح مصدومًا:
-نعم؟ ضربتها!!! وهي شافت مراتك فين يا حميد!!

برزت عروقه النافرة من شدة الغضب ولم ينتظر رد الأخير ملتقطًا سماعة الهاتف أمامه ثم هتف بها بصوت جهوري:
-سكون تعالي حالًا!!

هرعت إلى مكتبه ظنًا منها أن كارثة ما قد حدثت، دخلت الغرفة بسرعة لتجده يجلس بوجه مكفهر والشرر يقدح من عينيه ومعه "حميد الديب".. تمشت نحوه متوجسةً ثم قالت:
-خير يا بابا، في أيه؟؟؟
عثمان وهو يصيح فيها بصوت أجش ثائر:
-إنتِ كُنتِ عارفة إن وَميض ضربت مرات حميد باشا!!!

ابتلعت ريقها بصعوبة بالغة ولكنها تماسكت بصلابة كبيرة وراحت تجيبه بصوت هاديء تزوي ما بين عينيها وكأنما تسمع هذا الخبر للمرة الأولى:
-معقول ضربتها؟ لأ طبعًا معرفش، بس وَميض هتعمل كدا ليه يا بابا من غير سبب!!
حميد وهو يرمقها بنظرة جامدة ثم يرد بصوت جافٍ:
-قصدك إني كذاب مثلًا يا آنسة سكون!!!

باغتته "سكون" بابتسامة هادئة مُتماسكة، عقدت ذراعيها أمام صدرها ثم أردفت بلهجة حازمة:
-حضرتك مش كذاب طبعًا، أنا بسأل مش أكتر، وبعدين هي وَميض تعرف مرات حضرتك منين أو شافتها فين؟!!!.

تنحنح "حميد" بضيق من سؤالها المتربص به والذي لفت انتباه "عثمان" الذي استدار نحو الأخير ثم سأله بترقب:
-صحيح، كنت سألتك هي شافت وَميض فين؟؟
حميد وهو يومىء سلبًا ثم يقول:
-معرفش تفاصيل.
ابتسمت "سكون" بمكرٍ وهي تجد خطتها تؤتي ثمارها بتعجيزه عن الرد أو رؤية نفسه صاحب حق وهو لا يمت للحق بصلة؛ فهي لا تقبل الظلم مهما بلغ غضبها من الشخص الذي تدافع عنه إذ كان مظلومًا وهي تعلم تمام العلم بمجيء زوجة "حميد" إلى [وَميض] في المستشفى وتهديدها وترى أن ردة فعل "وَميض" في محلها تمامًا ولا يشوبها مثقال ذرة من خطأ.
••••••••••••••

لم ترد على رسائله منذ الصباح وشعر بقلق بالغٍ عليها؛ فلم يعتَد على مرور يومه دون الاطمئنان على حالها على الأقل ولم يشعر بالضيق مُطلقًا إلا خلال هذه الساعات السيئة على نفسه، قاربت الساعة على السابعة مساءً ولم يأتيه خبر منها بعد!!.
جلس أمام التلفاز بوجه عابس حزين يتنقل بين القنوات التلفزيونية في ملل يخنقه وقلق يأكل لحم رأسه، في تلك اللحظة سمع صوت إشعارًا يصدح عبر هاتفه فأسرع بفتح الهاتف ليجد اسمها يظهر على الشاشة فأيقن بأنها قد رأت رسالته وردت عليه، فتح المحادثة بينهما فورًا فوجد بعض الكلمات التي لم يكن يتوقعها مُطلقًا.
-عُمر، أنا آسفة بس مش هقدر أكمل في علاقة من النوع دا أكتر من كدا، أنا أتقدم لي شخص كويس وأهلي موافقين.

اِبتسم بتذبذب لا يعلم إن كانت تقول الحقيقة أو ترسل له مزحة سخيفة سوف يحاسبها عليها حتمًا، أسرع بالاعتدال في جلسته ثم كتب لها:
-أيوة أيوة، الإسطوانة المشروخة بتاعة كُل البنات، متقدم لي خمس لواءات وظابط، يا تيجي تخطبني يا خلاص خلاص بصوت نوسة!!.

وصله فورًا رؤيتها للرسالة ولكنها لم ترد بنفس السرعة بل صمتت لوقت طويلٍ ثم وجدها تكتب على غير عادتها دون أن تستخدم رموزها التعبيرية التي تشغف حُبًا فيهم:
-عُمر! للأسف أنا مش بهزر.. مبسوطة إني عرفتك حتى لو كانت دي النهاية اللي مش هتبسطني أبدًا.

عقد حاجبيه ثم زفر بحنق كبيرٍ وهو يشعر بجدية كلماتها، وكتب:
-رويدا دا بجد؟؟؟ بقول لك أيه، أنا هرن ردي!!
كتبت بسرعة:
-مش هينفع، قاعدة مع أهلي.
فكتب بأطراف مُرتجفة:
-بس أنا عايز أتكلم معاكِ!! وأقول لك على خبر هيفرحك أوي!
كتبت بتوجسٍ:
-خير أيه؟!.
رد قاصدًا أن يمزح معها ببعض العبث:
-أكيد مش هاجي أخطفك من بيتك.. أنا بس فكرت إننا لازم نتقابل!!!!!
التهبت وِجنتاها من شدة الفرح؛ فكتبت بحماسٍ:
-إنتَ بتتكلم بجد ولا بتقول لي كدا علشان أرجع عن قراري!!
عُمر يرد عليها برمز تعبيري غاضب:
-إنتِ هترجعي عن قرارك عافية ومن غير حاجة، المهم، تحبي نتقابل إمتى!!!!
••••••••••••
وقف على عتبة الباب قاطبًا ما بين حاجبيه في استغراب من تركه للباب مفتوحًا!.. لم يطل التعجب وقرر أن يدخل فورًا وهو يصيح بصوت عالٍ مرحٍ:
-يا شيخ تليد!!! يا بتاع البرتقان يا منعنع!!!

ابتسم "تليد" بهدوءٍ وهو يستمع إلى صوته يأتي من الخارج بينما هو مرابطًا داخل غرفة مكتبه، فيما ظل "نوح" يصيح بأعلى صوت لديه:
-شيخ تايه تايه يا ولاد الحلال، يا تليييييييييد!!
تليد وهو يصيح بصوت جهوري من داخل الغرفة:
-موجود هنا، تعالى وانجز!!
توجه صوب المكتب ثم أدار مقبض الباب وراح يستند عليه وهو يقول بغيظ هزلي:
-بقالي ساعة بنادي عليك وإنتَ متوحد هنا مع نفسك؟
تليد وهو يضحك بهدوءٍ:
-أنا لا متوحد ولا حاجة، أنا سامعك بتنادي على ابن أختك من برا.
اتسعت حدقتاه وهو ينظر إلى الشجرة التي زادت ثمراتها واحدة جديدة ثم صاح بصوت عالٍ ماكرٍ:
-ألاه!!! هي الشجرة ولدت واحدة جديدة يا تليد؟؟

رمقهُ "تليد" بنظرة قوية من جانب عينيه ثم أردف بصوت هاديء هزلي:
-الشجرة مبتولدش يا نوح.
انبسطت المسافة ما بين حاجبيه وهو يقترب من الشجرة ثم يُمسك بالثمرة الجديدة بين أنامله مُضيفًا بضحكة هادئة:
-أمال بتبيض؟؟ عايزين نعمل لرقم 23 دي سبوع أو عقيقة!!!
تليد وهو يضيف بضحكة عابثة:
-نعمل لها يا حبيبي مع طهورك إن شاء الله في أسبوع واحد.

رفع "نوح" أحد حاجبيه كاتمًا ضحكته العالية مُردفًا بحنقٍ مُصطنعٍ:
-أخلاقك بقيت على المحك، احكي يا عم ومتقرفناش!!!
تليد بصوت هادئ راسخٍ:
-عايزني أحكي؟!
أومأ "نوح" مؤكدًا رغبته؛ فتابع الأخير بابتسامة سمجة:
-اعملي شاي الأول!!
ضغط "نوح" على أسنانه ثم قال باستسلام صاغرٍ:
-وعامل لي فيها شيخ وإنت ديكتاتوري، استغلالي وسادي و…
قطع "تليد" حديثه مُضيفًا بلهجة حازمة:
-وغير مُحايد وغير قابل للنقد وبطفي السجاير تحت بطاطك، عارف عارف.

تأفف "نوح" بغيظٍ وهو يلوح بذراعيه في الهواء ثم يُذعن لرغبته في كوب من الشاي الدافىء رغبةً في الحصول على أجوبة واضحة لأسئلته الفضولية!!!!!
••••••••••••

انقضى أربعة أيام، قدمت "وَميض" على تلك الوظيفة داخل شركة معروفة وتمنت لو تنال مكانًا فيها وتنفتح أمامها كُل أبواب الرزق حتى تستطيع استئجار منزل صغير وترك الشقة التي يعطيها "عثمان" لهم كي يعيشوا فيها أثناء خدمتهم داخل قصره، ذهبت للمُقابلة المبدئية والتى انهتها غير راضية عن أدائها فيها ولكنها تفاجأت بعد مرور يومين باتصال من الشركة يخبروها من خلاله باجتيازها المقابلة الأولى وصعودها لمُقابلة رئيس القسم الذي سوف يحدد الاختيار النهائي لاثنين من بين الأربعة المتصاعدين؛ تفاءلت خيرًا أن تكون ضمن طاقم العمل بهذه الشركة واستعدت للمقابلة القادمة التي عرفت بموعدها الذي يأتي بعد يومين من اتصالهم، ظل الخوف يعتريها كلما فكرت في هذه المقابلة وهي ستؤدي فيها جيدًا أم سيُلجم لسانها عن إجابة غالبية الأسئلة التي طُرحت عليها والغريب أنها رغم كُل هذا تم تصعيدها للمرحلة النهائية!!!

ظلت في انتظار هذا اليوم على أحر من الجمر حتى تتخلص من خوفها الذي نغض حياتها إلى أن جاء اليوم الذي يسبق يوم المُقابلة حيث وردها اتصالًا من صديقتها تأمرها بالتجهز للخروج سوية مع زوجها عِمران إلى ذلك المطعم الشهير الذي يُقدم بعض الأطعمة التركية المميزة، تجهزت "وَميض" وارتدت الفُستان الذي أحضرته لها صديقتها، وضعت القليل من مساحيق التجميل مع غطاء رأس بنفس لون الفُستان وقد أطلقت العنان لبعض من خصلات شعرها التي طلت بوضوح من خارج الغطاء كما أنها لم تنسَ ارتداء القلادة والحذاء ذي الكعب العالي الذي لا يتفاوت في لونه عن الفستان أبدًا لتكتمل الأناقة وتلتقي بصديقتها عند باب منزلها ثم تركب سيارتهما وتنطلق، صحبتها إلى ذلك المطعم وتفاجأت "وَميض" بأن العاملين به جميعهم يتحدثون التركية بطلاقة وتمكنت وقتها من ممارسة بعض التعابير التي التقطتها من مشاهدة المسلسلات التركية التي تحبها؛ سعدت كثيرًا بتناول الطعام في ذلك المكان ولكنها تفاجأت بصديقتها تقول بنبرة حماسية كبيرة بعدما أنهت حديثها عبر الهاتف مع شخصٍ ما:
-هننهي اليوم بإني هاخدك معايا مشوار هتحبيه أوي وتشكريني عليه كمان.

زمت "وَميض" شفتيها ثم أهدلت أكتافها باستسلام خضوعًا لنصوص الاتفاقية التي تنص على استمتاعها دون سؤال عن وجهتها حتى!!!.. التفتت "شروق" إلى زوجها ثم تابعت بهدوءٍ:
-مش أنا قولت لك إن عمي اتصل بيا إمبارح وسألني بدون أي مقدمات هل أنا كويسة ولا لأ!!
أومأ "عِمران" إيجابًا فأكملت "شروق" باشتياق:
-عمي سليمان دا أكتر إنسان مُريح في الدنيا وكمان مش هتصدقوني لو قولت لكم إنه بيحس بيا لو متضايقة أو في كرب رغم المسافة اللي بينا، أنا مشتاقة له أوي، مشتاقة لكُل كلمة حلوة بيقولها لي وبيواسي بيها قلبي، اتصل بيا وعايزني أزوره ممكن!!!.

عِمران وهو يُقرب أنامله يتلمس وِجنتها ثم يقول بصوت دافئ:
-طبعًا نروح!.

استدار نحو "وَميض" التي أومأت بموافقة بعد أن أدركت نظرات زوج صديقتها لها والتي تعني حاجة "شروق" إلى رؤيته بصورة مُلحة فرحبت أيضًا بالفكرة، ركب الثلاثة السيارة ثم انطلقت إلى بيت الشيخ "سليمان" المجاور للمزرعة مُباشرة، ترجلوا من السيارة؛ فهرعت "شروق" صوب الباب ثم طرقته بشغف متأججٍ وما أن ظهر أمامها حتى ارتمت بين جنباته وهي تقول بصوت باكٍ:
-عمي إنت وحشتني أوي، سامحني لو كنت مقصرة الفترة الأخيرة دي في حقك!!!

ابتسم "سليمان" برزانة ثم مسد على رأسها بحنان وفيرٍ وبصوت نقي قال:
-عبيط مين دا اللي يزعل منك يا غالية؛ دا إنتِ بلسم في حياة أي حد.

شروق وهي تتشبث بأحضانه في فرحة رغم تحشرج صوتها المُثقل بالكثير والذي يرغب في بخ كُل الأذى المساق إليه؛ فهو مخبأ أسرارها الكبيرة الأوحد والوحيد:
-وحشتني أوي يا عمي، وحشني كلامك وروحك الطيبة.

رفع فمه نحو جبينها ثم قبلهُ برفق قبل أن يلتفت إلى "عِمران" قائلًا بترحاب حارٍ:
-نورت يا عِمران يا بني!!!
صافحهُ بحرارة فسعد "عِمران" برؤيته ثم استدار للجهة الأخرى حيث تقف "وَميض"، ابتسم لها ابتسامة عذبة ثم أومأ برأسه قائلًا بترحيب:
-أهلًا يا بنتي، نورتيني!!!

ابتعدت "شروق" عنه بسرعة ثم قالت بنبرة سعيدة يملأها الشغف:
-دي صاحبتي من الطفولة، اسمها وَميض.

بادلها ابتسامة صافية دون أن يمد يده فأدركت "وَميض" أنه ربما يكون شيخًا طيبًا وطبعًا لا يُصافح النساء باليد؛ ولكنها انجذبت للضوء اللامع المنبعث من وجهه وابتسامته الرصينة الصافية ونقاء لحيته البيضاء الناصعة لقد كانت رؤيته تبعث على نفسها الراحة والسكينة!!!

أسرعت "شروق" بالقبض على ذراع صديقتها ثم تابعت بصوت هادىء:
-وَميض يا عمي تبقى بنت عمو علام اللي شغال مع بابا في القصر!!

تغيرت ملامحه إلى الضيق وهو يدقق النظر فيها باستغراب شديد؟؟؟ هل مَن الله على علام بطفلة بعد أن تبنى أُترُج؟؟؟ أو أنه أخل بالعهد بينهما وهذه الفتاة الواقفة أمامه هي نفسها الصغيرة!!!.. كانت هناك علامة وحيدة يمكنه أن يعرفها من خلالها وهو يتذكر صوت ابنه في صغره يصيح بسعادة غامرة:
-"بص يا بابا، دي عندها غمازة تحت عينيها!!!!".

تنهد "سليمان" بهدوءٍ ثم دعاهم للدخول فورًا وكعادته جاء إليهم بأكواب من الشاي الدافىء دون وضع أية إضافة عليه وجلب معه بعض التسالي ودارت الأحاديث بينهم في استمتاع وسرور عاشتهُ (شروق) التي كانت تحن لهذه الجلسة منذ زمنٍ.
-فاكرة يا شروق لمَّا كُنتِ بتتسحبي من القصر وتيجي عندي المزرعة علشان تتفرجي على الجواميس، فاكرة لمَّا جريتي عليا وحضنتيني وإنتِ خايفة وسألتك مالك، قولتي لي أيه وقتها؟؟؟
صدح صوت "شروق" بضحكة عالية وصل رنينها إلى قلب زوجها الذي اقتبس استمتاعه من سعادتها؛ ردت بمرحٍ:
-الحقني يا عمو سليمان، واحدة من الجاموسات عطست في وشي.

قهقه الجميع باستمتاع وحرص "سليمان" على رؤية تلك الفتاة وهي تقهقه بصوت مرتفعٍ سعيد؛ رأى تلك الغمزة تقبع أسفل عينها اليُسرى بوضوحٍ، أطرق برأسه في حزن من تبجح الأخير وإخلاله بنصوص الاتفاقية بينهما؛ ولكنه رفع بصره نحوها مرة أخرى ثم ابتسم بهدوءٍ وهو يتمتم بصوت خفيضٍ:
-بسم الله تبارك الخلاق.
كان يشعر بسعادة ينقصها شيئًا ما ولكنه فرح برؤيتها مرة أخرى بعد زمن بعيد جدًا من وضعها على ساقيه والربت بحنان على ظهرها حتى تغط في سبات عميقٍ!!!

انقضى الوقت سريعًا ولكنه سعد جمًّا بهذا اللقاء الذي سعد قلبه دون علم الطرف الآخر، استأذن "عِمران" للمغادرة وأفصحت "وَميض" بضرورة الذهاب إلى البيت والإخلاد للنوم استعدادًا لمقابلة عملها بالغد.

ودعهم "سليمان"  ودار حديث سريع بينهم على عتبة الباب في اللحظة التي وصل فيها "تليد" الذي صف سيارته داخل جراح المزرعة وتمشى على قدميه إلى البيت ولكنه وقف بعيدًا في حالة من الذهول وهو يحدق في ملامحها الغير واضحة!!! ولكنه تأكد من هويتها عندما لمح "شروق" تقف بجوارها، ظل واقفًا في مكانه حتى ركبوا السيارة ثم غادروا، أغلق "سليمان" الباب ثم عاد يفتحه مرة أخرى بعد لحظات، ابتسم بدفء ثم تنحى جانبًا كي يمر الأخير للداخل:
-يا بني مش عندك شغل بكرا، لازم تنام بدري!!

ابتسم "تليد" ابتسامة لم تصل إلى عينيه ثم رد بإيجاز:
-هنام حالًا.
استدار نحو غرفته ولكنه توقف حينما رمى والده سؤالًا مُحيرًا مُربكًا لكينونته الصامدة:
-بس حلوة ما شاء الله!!!
أدرك أن والده علم برؤيته للضيوف فحاول المراوغة مُتبعًا نهج والده:
-شروق!!!
سليمان بابتسامة خفيفة:
-بتكلم عن أُترُج!!!!

ابتلع "تليد" ريقه على مهل ثم أكمل سيره صوب غرفته راغبًا في أن يظهر غير مهتمٍ بالأمر ولكن كيف يخفى ما يضمر داخل قلبه على والده الحكيم، تنهد بضعفٍ ثم قال قبل أن يُغلق باب غرفته:
-تصبح على خير يا بابا، عايز أروح أول يوم ليا في الشركة بدري، لأن الانطباع الأول يدوووووم!.

ابتسم "سليمان" بهدوءٍ ثم أجابه متوجهًا صوب غرفته:
-وإنتَ من أهل الخير يابني.
••••••••••••••
ظل قرابة الساعة يتقلب في فراشه، رؤيته لها نغصت عليه نومته الآمنة من كُل فِكرٍ أو شرود، تقلب على جنبه الأيمن في شتات يسلبه عقله الرصين حتى استعصى عليه جمع شتات نفسه المُشتاقة من كثرة الفقد، فقدٌ وهو لا يستطيع رؤية ملامحها الراسخة في ذاكرته عن قُرب سوى مرة واحدة مذ أن أينعت أُترُجته وصارت صبيةً فاتنة تؤثر الجُزء المُتخفي في شخصيته الغامضة، تأثر جنونه الطفولي بها واشتياقه للقُرب منها وهدم المسافة التي تحول دون التقائهما!!!.

هزَّ رأسه بانفعال ثائر وكأنما يطيح بهذه الوساوس المبعوثة من شيطان نفسه الأمارة بالسوء بعيدًا عنه ثم يتنهد بصوت خافتٍ مُرددًا بصبر:
-استغفر الله العظيم من كُل ذنب عظيم.

قام بوضع كلا كفيه أسفل صُدغه يتحايل على النوم أن ينتشله من هذه الهوة السحيقة من الأفكار الشيطانية والتي سوف تُسفر عن بقائه ساهرًا حتى الصباح وهذا يعني ذهابه إلى عمله داخل الشركة لأول مرة دون نوم!! دون تركيز!!.

ضغط على عينيه بقوة ما أن لاحت هذه الأفكار التي سوف تنجم عن قلة نومه مُقررًا أن يقتصر الشر وينام رغمًا عن شيطانه فإما أن يغلبه فيبقى مُحدقًا في كُل زوايا غرفته أو يتغلب عليه وينام قرير العين لمُتابعة يوم الغد المكدس بالأعمال والمُقابلات الخاصة بتوظيف أفراد جُدد داخل الشركة.

وفي النهاية تغلب هو على شيطانه بقوة إرادته وغط في سبات عميقٍ حتى الصباح حينما تسللت خيوط ضوء الصبح إلى غرفته وقصدت تعامدها على عينيه؛ ونتيجة لذلك، حرك أهدابه مُتضايقًا حتى فتح جفنيه بالكاد ليُطالع الستار مُتذمرًا ثم يقول بصوت أجش من أثر النوم:
-للمرة المش عارف كام، نسيت الستاير مفتوحة، مش مكتوب لك تنام أكتر من كدا يا عم تليد.

أزاح الغطاء عن جسده رويدًا ثم اعتدل في نومته جالسًا وهو يستبين الوقت من خلال الساعة المُعلقة على الحائط المقابلة له، تنهد باستسلام ثم تدلى من فراشه يستعد ليوم جديد في مكان جديد أيضًا!
هل يا تُرى سوف تكون تجربة ناجحة له؟ تبعث الإيجابية على يومه وتكون بمثابة نسمة خفيفة لن يشعر بها أو أن هذه الخطوة الجديدة ستجعله يعيد حساباته بشأن هذه الشراكة التي لم يرغب بها مُطلقًا لرغبته أن يكون مُستقلًا بعمله الذي اجتهد ونجح فيه لسنوات دون أن يجور عليه بأشياءٍ جديدٍ فلا يعطيه حقه المطلوب غير قاصدٍ ذلك!

سار إلى الحمام بعد لحظات من التفكير والتساؤلات التي يتمنى أن يحظى بأجوبة مُرضية عنها خلال زيارته لشركة "آل زهران للمُنتجات الغذائية" والتي تعد واحدة من ضمن مجموعة مُمتلكات تخص أحد أهم كبار رجال الأعمال في مصر وصاحب ثاني أهم شركات المنتجات الغذائية بعد شركة عمه؛ فحمدي زهران يعد مُنافسًا قويًا على الساحة حتى أن (عثمان السروجي) يخشى أن تنعكس النتائج يومًا ويحظى حمدي بثقة الشعب مُحققًا المرتبة الأولى شعبيًا؛ والأهم أن منبع المنافسة بينهما وكُره عثمان للأخير يرجع إلى مشاركة الشيخ سليمان لصديقه حمدي والذي يرى فيه من الأمانة والضمير ما لا يجده في شقيقه!.

غاب للحظات ثم خرج من الحمام متوجهًا إلى دولابه، التقط زيه الرسمي الذي اختاره بالأمس واستقر الرأي عليه ثم شرع في ارتدائه وما أن انتهي حتى وقف أمام المرآة وبدأ في ترتيب ياقة قميصه وإغلاق أزرار أكمامه ولم ينسَ وضع الدبوس المُفضل إليه والذي يظهر على شكل حروف اسمه متراصة بجوار بعضها البعض في تشابك.

نزل بعينيه إلى المنضدة يبحث عن قنينة عطره المُفضل أيضًا، اِبتسم بهدوءٍ ما أن وقعت عيناه عليها ثم التقطها وراح يتطيب بها حتى عبأ العطرُ الغرفة؛ لقد كان عطرُ آخاذ ولكنه لا يضاهي سمعة المُتطيب به والتي تغلب كُل العطور ولا عبق طيب يعلو فوق عبق سمعته العطرة!.

تنهد باستعداد وهو يضع القنينة في مكانها ويرتدي ساعة يده بعد ذلك ثم يأخذ كُل أشيائه المُهمة؛ مفاتيح المنزل والسيارة وكذلك هاتفه المحمول ويغادر على الفور.

ذِيع خبر مجيئه إلى الشركة كالذي ينفخ في الريح فتنتشر شتى!!!.. بقيت الأعين في حالة استعداد وترقُب لرؤية أكثر داعية ذائع الصيت في مصر حاليًا فقد عاش آلامًا كثيرة في حياته من فقد لشعور الأمومة والأخوة وفقدان الشيء الذي تعلق به أشد تعلُقًا ولكنه في المُقابل لم يهُن حزنه على خالقه؛ فمنحه تعويضًا لم يكن ليحظى به لولا إيمانه القوي بربه فأحبه الله ووضع حبه في قلوب الكثير ممن يقدرونه ويكنون له الكثير من الاحترام.

كان الجميع داخل الشركة ينتظرونه على قدمٍ وساقٍ؛ إلا هي فقد كانت في عالمٍ آخر حيث جلست داخل صالة الاستقبال بعد أن أخبروها أمس باختيارها هي وثلاثة أخرين لعمل المقابلة الشخصية النهائية والتي سوف تصطف على اختيار اثنين منهم فقط للعمل داخل الشركة، كانت تجلس هلعة لا تحملها قدماها كما أن أطرافها تنتفض نتيجة شعورها بالضغط العصبي الذي تتعرض له في هذه اللحظة، عضت شفتها السفلى وهي تلتفت إلى موظفة الاستقبال ثم تقول بخفوت:
-إحنا بقالنا ساعة قاعدين، المقابلة إمتى بالظبط!!!

الموظفة وهي تبتسم له في تفهم لشعورها القلق:
-بمجرد ما يوصل رئيس القسم، حاولي تسترخي علشان تقدري تلاقي أجوبة مُقنعة قدامه وبالتوفيق.

أومأت بابتسامة خافتة رغم انقباضة قلبها التي وجلت الأمر عن ذي قبل، قررت أن تسترخي قليلًا وأن تضع في عقلها أنها مجرد مُقابلة عمل وأن الأرزاق بيد الله ولو قُسم لها العمل في هذه الشركة؛ فسيكون.

(على الجانب الآخر من الشركة)
شُخصت الأبصار إليه في انبهار وحب، تختلف النظرات المحدقة فيه بين مذهولة ومصدومة من رؤيته على أرض الواقع؛ خاصة أنه أصبح مالكًا لجزء من أرباح الشركة وإن كان قليلًا!!.. عمَّت الفوضى المكان والتفت الكُل له دون أعمالهم وهرول العديد من الموظفين إليه يطلبون أن تجمعهم صورة به وهذا ما جعله يتأخر عن عمله الذي ينتظره بالداخل، استطاع التملص من بينهم بأعجوبة بعد أن سمعوا خبر قدوم رئيسهم (حمدي زهران) الذي لا يقبل أي تقاعس داخل شركته.

مرَّت عشر دقائق بعد هذا الحدث، وبدأت الموظفة تجمع استمارات التقديم بين كفيها بعد أن جاءها اتصالًا من غرفة رئيسها التي تقبع في الجانب الآخر من هذه الصالة الكبيرة، غادرت الموظفة لدقائق وعادت فارغة اليد حيث مكتبها لتجد اتصالًا جديدًا منه جعلها تلتفت إليهم ثم تقول بصوت هاديء:
-هايدي رياض!!!
نهضت الفتاة متبرجلة من شدة القلق المسيطرة على جميع حواسها لتضيف الموظفة بابتسامة لطيفة:
-دورك في المُقابلة، ربنا معاكِ.

أومأت الفتاة لها في شُكر دون أن تتفوه بكلمة أو بالأحرى لُجم لسانها عن الرد نتيجة خوفها البادي على صفحة وجهها.

وعلى غير المتوقع، خرجت الفتاة بسُرعة فلاحت إليها العيون تسأل دون حروف، اِبتسمت الفتاة في صمت ثم غادرت، أرادت "وَميض" أن تسألها عمَّا دار بالداخل ولكنها رأت أنه قد يبدو للجميع تصرف أخبل لا يليق بفتاة شابة تُقدم على وظيفة مرموقة كهذه!!!

تتابعت الأدوار حتى تيقنت بأنها الأخيرة وتمنت أن يكون ختام يومها مسك، مرَّت الأدوار وعدَّت حتى جاء دورها حيث ابتسمت الموظفة ببشاشة ثم هتفت:
-آنسة وَميض علَّام الجن، تقدري تتفضلي، بالتوفيق إن شاء الله.
عقدت ما بين حاجبيها في استغراب ثم تساءلت متوجسةً:
-الجن؟؟؟
الموظفة وهي تنظر إلى الورقة القابعة أمامها من جديد ثم تردف:
-أيوة يا فندم، إنتِ كاتبة في الاستمارة كدا!!!
وضعت كفها على فمها ثم تساءلت بذعر:
-والاستمارة دي دخلت للرئيس؟؟؟

أومأت الموظفة بتأكيد وهي تشعر بشيءٍ مُبهمٍ يمر عبر حديثها فتابعت تستفسر:
-في غلط في الاسم؟؟
وَميض بتنهيدة ثقيلة:
-كان في دال وياء في الاسم، شكلي نسيت أكتبهم!!!
تمتمت بخفوت وهي تنهض بتثاقل غريبٍ:
-الله يسامحك يا شروق!
لتُضيف الموظفة بهدوءٍ:
-حصل خير، هعدله بعد المقابلة إن شاء الله.

سارت عبر ممر طويلٍ يفضي في نهايته إلى ممر ينحدر جهة اليمين وفي نهايته غرفة تبدو أنها الغرفة المنشودة، وصلت إلى بابها ثم تنشقت الهواء داخلها ثم لفظته باسترخاء هادىء مُقررةً أن تظل ثابتةً مهما حدث وأن تكون راضية عن النتيجة التي تصطف في صالحها سواء أسفرت عن قبول أو رفض!!!

دقت الباب برفق ثم فتحتهُ بتوجسٍ وقد زُين ثغرها بابتسامة خفيفة تجعلها تجابه لحظاتها العصيبة بسلاسة، دخلت على الفور وراحت تلتفت صوب المكتب وسرعان ما تحول وجهها المبتسم إلى آخر مذهولًا!!!

أوليس هذا الرجل هو ذاته الداعية المشهور؟!! تليد، نعم تليد سليمان، هو نفسه الشاب الذي رأته أسفل الماء ولا يمكن أن تكذب عينيها أبدًا، حدقت فيه بعينين مُتسعتين على عكسه!!!

كان قدومها بمثابة حلول هلال رمضان المبارك، كان هذا تفسيره المُخبأ بين طيات قلبه، بِمَ تشعُر حينما تستمع إلى تصريح دار الإفتاء المصرية بحلول أول أيام شهر رمضان الكريم، تتغمدك السعادة وتشعر بامتلاء الغلاف الجوي من حولك بألوان الطيف البهيجة كما لو أنك تُحلق فوق قوس قزح الذهبي، هلَّت عليه كفرحة الإنسان بقدوم مناسباته الجميلة التي ينتظرها من عامٍ لعام. كفرحةٍ طفل صغير بليلة العيد؛ فينام مُحتضنًا ملابسه الجديدة يحلم بطلوع الصُبح.

ارتبكت نبضات قلبه وهي تقف أمامه مُباشرة، كانت ترتدي بنطلونًا من الجينز وعليه سُترة جلدية ثقيلة باللون الأسود وترتدي غطاء رأس من اللون الكشميري وجزمة رياضية بنفس لون غطاء رأسها.

تقدمت بضع خطوات فنزل بعينيه إلى وقع خطواتها يترقب تقلص المسافة بينهم ويتخيل أن الأرض تنبت وردًا كلما داستها بقدميها، حاول أن يجلس في كرسيه رزينًا يتحكم في انفعالاته الثائرة التي نتج عنها سخونة أنفاسه التي تتصاعد تدريجيًا، أغمض عينيه يتمالك نفسه ثم رفع بصره إليها من جديد ليجدها تقف أمام المكتب مُباشرة  وتبتسم في هدوءٍ حيث استطاع في هذه اللحظة أن يرى تفاصيلها الدقيقة عن قُرب وأن يرى تلك الغمزة أسفل عينها اليُسرى بوضوح ألهب داخله جنون ذكرياته بها.

تلاقت أعينهما فارتفعت دقات قلبه الخافق وظن أنها ربما تكون قد وصلت إلى مسامعها، أسرع بوضع يده على قلبه ثم ابتلع ريقه على مهل وراح يتنحنح بخشونة ثم يزيغ ببصره عنها قائلًا بصوت رخيم ثابت:
-اتفضلي اقعدي يا آنسة…..!!

سكت لبُرهة وهو ينظر إلى ملفها القابع أمامه مُتصنعًا عدم معرفته باسمها وما هي إلا ثوانٍ حتى أكمل بهدوء:
-آنسة وَميض علَّام الجن!!!!!!
يتبع

 •تابع الفصل التالي "رواية رحماء بينهم" اضغط على اسم الرواية 

google-playkhamsatmostaqltradent