رواية لِبچَشان الفصل الخامس 5 - بقلم عفاف العريشي
( موفق )
لم أعد أشعر بشيء سوى الإعياء من كثرة الضرب بالحجارة وإلقاء المخلفات والبيض اللزج على جسدي بعدما جردوني من ملابسي العلوية، بكيتُ قهراً.
كاد يُغشى عليّ وأنا أشعر بدمائي الدافئة تختلط مع الرمال أسفل بشرة ظهري الذى بات يحرقني نتيجة لضرب أحدهم لي بالسوط ووضع الملح على جروحي،
وكل هذا فقط لأنني ولدتُ في إمارة العبيد كُتب على جبيني الإهانة، وهل يستطيع الإنسان أن يختار أين يولد، لا بالطبع ولكنه يختار كيف يعيش هو وحده من يقرر ذلك، وأنا قررتُ العيش بالترحال لينتهي بي الأمر غارقاً بدمائي في سوق لازورد،
أفقتُ قليلاً عن سماعي لصراخ أحدهم بتركي ولكن لم آره، رأيته فقط حينما أمسك الرجل من قميصه وعنفه كان يبدو مخيفاً بجسده الضخم وملابسه العسكرية بالإضافة إلى عينيه البيضاء هي تشبه خاصتي ولكنه يختلف تماماً أعنى حقاً مخيف.
نظرتُ إلى السماء وحمدتُ الله، حاولتُ النهوض ولم أستطع فساعدني هو وسرنا في السوق ثم سمعته يسب أحدهم
قلتُ بوهن:
_شكراً لك يا سيدي.
شد على كتفي وقال بعصبية طفيفة:
_أنا لستُ سيدك لقد خُلقت حراً لا تفرض قيوداً على ذاتك.
قلتُ بابتسامة أظهرت أسناني الملطخة بالدماء رأيت الانعكاس على مرآة لمتجر ما:
_نعم لقد خُلقت حراً، ولكن عبداً تحت راية الأبوة.
_لا أفهم مقصدك؟
_ولن تفهمه.
صمتنا إلى حين سألني وهى ينظر إلى المفرقين أمامنا بتفكير:
_إلى أين؟، أقصد أين منزلك أو كيف أتيت؟
_أنا لا أقيم هنا أولست من شعب لِبچَشان؟!
-بلى.
_إذاً لنذهب إلى ساحة لازورد؛ فالاحتفال على وشك.
_حسناً ولكن أي مفترق نسلك
_الأيمن.
سرنا بهدوء إلى أن رأينا الحشد حول المنصة فمن قوانين المملكة عندما يخون أحدهم ملك يتم إعدامه أمام الملأ حتى يكون عبرة لمن تسول له نفسه خيانة ملكنا.
قلتُ له بهدوء وأنا أراقب صعود الملك لينحني له الشعب ونحن كذلك:
_بالأمس كان إعدام ولكن لم يحدث.
_لما؟
_لقد هربا الخائنين، هربوا قبل الإعدام بدقائق ولا علم لأحد كيف حدث ذلك سوى الملك ومساعده يعقوب فهما على دراية بالأمر برمته، والآن هو إعدام من عاونهما على ارتكاب جريمتهم الشنيعة.
صعد الملك غيث أولاً ثم تبعه صعود الضابط يعقوب بزيه العسكري بجانبه الأميرة عنود بزيها الفضفاض الأبيض الذى يزيدها جمالاً دائماً، ثم الملكة ناديرا زوجة الملك، ترتدي فستان ثقيل مرصع بالمجوهرات والأحجار النادرة كاسمها؛ خلفها وصيفتها دارين تحمل الأمير زايد الرضيع وولي العهد.
جلس كلاً بموضعه وعلى إشارة من يد الملك المزينة بالحلى والمجوهرات فهؤلاء هم أعلى طبقة في هرم لِبچَشان، عيونهم الزرقاء القاتمة بالإضافة إلى الملابس الثقيلة المرصعة بالمجوهرات والأحجار الكريمة.
جاء بعد ذلك ثلاثة حراس يجر كلاً منهم شخص مبهم الهوية بسبب الغطاء الأسود الموضوع على عينيه فتستحيل الرؤية وقف ثلاثتهم جنباً إلى جنب وأمام كلاً منهم ضابط مُمسكاً بسيفه وخلفهم حراس، انحنوا على ركبهم إثر ضرب الحارس لكلاً منهم في ركبته من الخلف كان من بينهم سيده، ما الذى اقترفته فقط لأن ابنتها عشقت شخصاً كان يستحيل اجتماعهما وهربت معه قبل الإعدام، هل ما يفعله الأبناء يعاقب عليه الآباء، أين العدل في ذلك.
هوت السيوف تباعاً فوق كل رأس لتتدحرج الثلاثة رؤوس على المنصة الخشبية تملأها الدماء.
اللعنة على تلك الابنه فهم كانوا من عامة الشعب أي طبقة جيدة في الهرم على عكسنا نحن أنا وهذا الغريب.
سمعتُ سؤاله المباغت قائلاً:
-من هؤلاء؟
أجبته وأنا أشاهد الحراس يحملون الجثث:
_الجثتان اللتان جانب بعضهما تعودان إلى الطبيب زاهر وزوجته ميلاف والجثة الأخيرة إلى حارس غرفة الطبيب الأول للقصر، ألم تسمع بالقصة إنها تُحكى منذ زمن يا رجل.
قال وهو شارد:
_لا لم أسمع.
_يبدو أنك حديث العهد هنا أليس كذلك؟
_بلى.
كان مازال يساندني لذلك وقفت بجانبه ومددتُ له يدي نية في المصافحة وقلتُ باسماً:
_موفق أعمل في تجارة الأخشاب والأثاث الملكي من إمارة «شيلا» الجنوبية.
صافحني بحبور وقال بابتسامة:
_يونس حارس بالجيش من إمارة (جيكا) الغربية.
قلتُ مازحاً:
_غنى عن التعريف أيها المرعب.
ضحك وكدنا نخرج ولكن سمعنا صوت خلفنا بين فتاتين تبدوان من العامة:
_أنظري إلى الضابط يعقوب يقف بثبات وكأنه لم يخن صديقه قبل يومين.
قالت الأخرى بأسى:
_اللعنة على أمثاله.
نظرتُ إلى يونس باستفهام وبادلني هو بدوره النظرات ذاتها.
قالت الفتاة الأولى:
_لونار لم تأتى اليوم، لما؟
_لا أعلم لابد أنها منشغلة في عمل ما.
_حسناً لنذهب مازال أمامنا وقت ريثما ينتهى العمال من تنظيم حفل الزفاف الليلة، ولكن علينا الذهاب إلى الطبيب لشراء شراب الميلاد لطفل أختي سُيولد عما قريب إن شاء الله.
قالت الثانية بحماس:
_مُبارك يا عزيزتي، أسأل الله أن يجعله ذرية صالحة.
ابتسمت الأولى بهدوء وذهبتا ولكن أظن أن قلبي سُرق لتوه وأوشكتُ على السقوط في حُب محرم سيوأد في مهده.
كان يونس لايزال شارداً بملامح متجهمة وخوذته تغطى شعره، أمسك ساعده فجأة وقال:
_أريد مكان بعيد عن أعين أي أحد، أرجوك يا موفق!
أشرتُ له بالخروج قائلاً:
_بالطبع تعالى معي.
ذهبنا بين الطرقات إلى أن اختبائنا خلف جدار ضخم لقصر الملك القريب من المنصة، أظن أنه من الغباء مجيء الملك وعائلته من طريق ثروان النائي بالرغم من وجود القصر هنا بالقرب من الاحتفال.
عاودتُ النظر ليونس فلم أجده بل وجدتُ ضابط بملابس يونس أظنه من الأشراف نظراً لعينيه الزرقاء القاتمة وشعره الأبيض، ولكن ملامحه ملامح يونس باختلاف العينين سقطَ مغشياً عليه وأنا أحاول إفاقته بلا جدوى وبعد عدة محاولات استيقظ يتنفس الصعداء واضعاً يده فوق قلبه منتصف صدره تحديداً، يغمض عينيه ويفتحهما عدة مرات.
قال بوهن:
_أين انا؟
نظرتُ إليه بتشتت وفضلتُ الصمت فمازال لحديثه بقية.
*
( يونس )
بعدما شاهدتُ مراسم الإعدام، بدأ ساعدي يحرقني بشدة وكذلك رأسي الألم يفتك بها تزامناً مع حرق القلادة لصدري شددتُ قبضتي على حقيبتي القماشية السوداء، نظرتُ إلى موفق لم أشعر بنفسي سوى ساقطاً على الأرض خلف جدار ضخم.
فتحتُ عينايّ ورأيت موفق مجدداً ولكن لما ملامح الصدمة التي تعتلي وجهه الآن؟
سألته:
_أين أنا؟
أجاب بعدما ابتلع ريقه بتوتر:
_أنت يونس؟
_أجل
صاح قائلاً:
_انت لست يونس أيها المستغل الحقير كنت تسير معي كل هذا الوقت لاستجوابي عن العبيد أليس كذلك، أود ضربك ولكن لن أخسر حياتي مقابل لكمة لك يا أخرق!
لم أستوعب ما قاله ولكنني قلتُ بهدوء:
_موفق هذا أنا يونس يا صديقي أقسم لك.
رأيته وهو يشد شعره بغضب ثم رحل وعاد حاملاً مرآة وضعها أمامي قائلاً بامتعاض:
_أنظر!
وجهتُ نظري إلى المرآة عادت هيئتي لطبيعتها، ابتسمت بفرحة ونظرتُ لموفق هاتفاً بسعادة:
_هذا أنا، آه حمداً لله.
رفع حاجبه وسألني:
_أعلم أنك لست من شعب لِبچَشان لهذا ستحكى لي قصتك كاملة وإلا..
نظرتُ في عينيه بثبات ابتسمت بسخرية قائلاً:
_حسناً يا صديقي، لنجلس ولكن بعيداً عن هنا.
أومأ لي بهدوء وأشار لكى أتبعه:
_وصلنا إلى ساحة شاسعة ولكن فارغة تحيط بها الأعمدة من جميع الجهات أعمدة خشبية عملاقة والبعض مدبب بسنون حادة.
جلسنا على مقربة من عمود بالرغم من جروحه التى لم تُشفى بعد إلا أنه قال:
_حسناً، نحن إذن بعيداً عن أنظار الجميع، مَنْ أنت؟
ابتسمت له وتنهدتُ قائلاً:
-أنا يونس وليد الرسام المنبوذ.
نظر إلىّ إشارة على إكمال الحكاية، قصصتُ له ما حدث معي قبل وبعد مجيئي إلى هنا.
رأيته يغمض عينيه بحزن بادي ثم قال:
_أنت جئت إلى هنا للبحث عن والدك وأنا جئتُ إلى هنا للهرب من والدي.
سألته باستهجان:
_كيف؟
_في مملكة لِبچَشان، مخطوطة عهد ريديس تنص على الحق للعبيد بيع أولادهم في سن الاثنتي عشرة سنة؛ وأبى لم يتفانى في هذا فباعني في سن العاشرة، اخترقت القوانين قضيتُ حياتي بين العبيد، أختبئ كلما وطئت قدمي أي من إمارات الطبقات الأعلى، وكلما رآني أحدهم يتم ضربي كما شاهدت أنت تماماً.
_إن الله معنا وإن الحياة بكل مجريتها ستهون.
ابتسم بهدوء وقال:
_ولكن كيف علمت أن والدك هنا؟
_لا أعلم ولكن هذا الخاتم هو من قادني؛ وأنا أعلم أنه على صواب.
_حسناً، وكيف ستبدأ؟، أي أنك الآن لست من العبيد لأن عينيك طبيعية وكذلك عملتك استحالت إلى تلك الخاصة بالطبقات الحرة.
وأمسك بالعملة الخاصة بيونس وتابع:
_حتى الاسم بات كارم وليس يونس، ماذا ستفعل الآن؟
_سأبدأ ككارم بالطبع، أي انني كارم الآن لذا سأبدأ ككارم، فكما تعلم يونس بين الصفوف وكارم أمام الصفوف.
ابتسم موفق بضعف وقال بهدوء:
_الحياة رحلة بدأت بصرخة مدوية وتنتهى بصمت مطبق وبين الصرخة والصمت الحصاد، ولكن أين حصادي أنا لم يكن سوى الإهانة والضعف.
قلتُ بهدوء:
-موفق، أنت لست ضعيفاً ابداً، لا ترضى بالهوان يا صديقي عليك بالتريث والتحلي بالصبر، وأسأل الله راحة البال لك دائماً يا أخي.
رأيتُ نظرات السعادة بعينيه بعد كلماتي كاد يتحدث إلا أن صوت حارس خلفنا قائلاً باحترام:
-سيدي السيد يعقوب بانتظارك للحديث بأمر اختفائك قبل يومين.
نظرتُ إلى موفق بصدمة ماذا قال ذلك الحارس، الضابط يعقوب بانتظاري، دقات قلبي تتواثب بتوتر.
أومأ لي موفق ثم سألتُ الحارس بأن يأتي بملابس نظيفة وغطاء لموفق لكى اضمن خروجه سالماً من براثن العنصرية.
بعدما ارتدى ملابسه عانقني بحرارة وهمس بأذني ببضعة كلمات.
قال بابتسامة:
_ وداعاً، حفظك الله دائماً يا أخي.
_لا تقل وداعاً بل إلى اللقاء أيها المحارب العظيم.
ابتسم ووضع غطاء رأسه وذهب على أمل اللقاء داعياً لي بإيجاد أبى بأسرع وقت.
****
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية لِبچَشان) اسم الرواية