Ads by Google X

رواية طائر النمنمة الفصل السادس 6 - بقلم ملك العارف

الصفحة الرئيسية

 رواية طائر النمنمة الفصل السادس 6 - بقلم ملك العارف 

"طائر النمنمة" 
"الفصل السادس"

كان قد أنقضت ساعة أخري قبل أن يصبح هنا في سيارته يتجه نحو مكان عمله بنشاط و حيوية و كأنه عنقاء وُلِدَ من جديد، تذكر جلستها بالغرفة وهي تتابع تحركه من هنا لهناك حتي يتجهز للنزول و هو يسرد عليها تفاصيل مهمته الأخيرة و كيف تم إلقاء القبض علي هؤلاء المجرمين في لمح البصر، ابتسم من جانب وجهه و هو يتذكر لمعان عيناها كطفلة صغيرة  يسرد لها والدها مغامرات السندباد، وفي لحظة أنقلبت ملامحه المبتسمة لأخري يشوبها الريبة و هو يتفقد فرامل سيارته ليتضح له أنها لا تعمل، لعن من تحت أنفاسه و هو يحاول تجميع افكاره ليرفع وجهه للطريق بعدما أرتفع بوق إحدي السيارات التي تسير في إتجاه معاكس له، حاول تفاديها ولكن سائقها استدار بها لتصتدم بسيارة طه بقوة ما جعل سيارته تنقلب علي جانبها، مرت دقائق تجمع فيها الناس حول السيارتين بينما بداخل السيارة كان يصارع هو لـ ألا يفقد وعيه قبل الخروج من كومة الحديد هذه ولكن جرحه رأسه شوش رؤيته، و ذراعه الذي حُشر بين السيارة و المقعد عاق حركته وقيده، سكنت الأصوات من حوله ولم يتردد علي مسامعه سوي قولها الأخير له قبل أن يرحل:
"خلي بالك من نفسك يا طه، ومتتأخرش بالليل." 
شعر بأحدهم يحاول فتح الباب بجانبه و قبض فوق يده يجذبه 
هنا فقط ترك لعينيه العنان بأن يغلقا وغاب لدنيا اللاوعي
★***★***★***★***★***★***★***★***★***★
في الطريق للمشفي كانت تجلس في المقعد الخلفي لسيارة أمير الذي جاورته شهد، لم ينقطع بكائها منذ علمت بما أصابه، فبعد رحيله لعمله بنصف ساعة جاءها اتصال من رقم مجهول يخبرها بما أصابه، تردد في أذنها ذلك الصوت المقيت  بقوله: "متستنيش المحروس جوزك بالليل، أصله زمان ملك الموت واخد روحه في حضنه دلوقتي، البقاء لله يا حلوة."

شلت الصدمة و عدم التصديق أطرافها، جذبت الهاتف الذي سقط من يدها و عادت تهرول بين الأرقام تأتي برقمه وضعت الهاتف فوق أذنها بعد أن ضغطت عليه بأصابع مرتعشة، ولكن الصوت الذي أخبرها بأن الهاتف مغلق دب الرعب بفؤادها، عادت تمرر الأرقام أمام عينيها حتي جائت برقم أمير و طلبته بأنفاس متسارعة، أجاب في المرة الرابعة بعدما أنهار ثباتها فقالت بدموع و غضب: 
أنت مبتردش ليه يا أمير، طه مبيردش عليا، و في …في رقم كلمني قالي…

سردت له المكالمة وما حدث فيها وسألته بأمل:
قولي إن طه كويس و إن ده مقلب من حد سخيف بالله عليك قولي كده. 

ولكن خاب أملها و هو يردف بأسف: 
أنا اسف يا آية، بس ده مش مقلب. 

تعالي صوت بكائها، و تتابعت شهقاتها ولم تملك قدرة علي إمساك تلك الأنفاس الهاربة منها، بينما صمت هو ينتظر أن تهدأ قليلًا، قالت من بين شهقاتها: 
طيب هو حصله إيه طيب، يعني هو خلاص كده، أنطق متسكتش كده، جوزي حصله إيه. 

سارع ينفي ما وصل لها: 
لا، لا أطمني طه عايش الحمد لله، هو بس عمل حادثة بالعربية و اتنقل علي المستشفي دلوقتي، بصي أنا رايح البيت أجيب شهد و أنتِ اجهزي هاجي أخدك ماشي، طه هيبقي كويس صدقيني. 

كانت هي علي الجانب الأخر منذ سمعت قوله بأنه علي قيد الحياة وهي تكرر همس " الحمد لله" حتي سمعت قوله الأخير: 
متتأخرش ارجوك أنا مش قادرة أتلم علي أعصابي. 

مرت ما يقارب الساعة لا تعلم كيف استطاعت أن تبدل فيها ثيابها، كانت تارة تبكي و أخري تجلس أرضًا لا تستطيع النهوض،  وتارة تهرول لتكون مستعدة حالما يصلوا إليها، سمعت طرقًا علي بابها فجذبت حقيبتها و هرولت تفتحه، كانت شهد و التي ما أن رأتها إلا و أحتضنت كلتاهما الأخري ببكاء حتي أبعدتها آية للوراء وقالت بقوة و أمل تحاول إيصالهم للتي أمامها: 
هيبقي كويس، إن شاء الله هيقوم، ربنا مش هيوجعنا فيه أنا واثقة من ده. 

جذبتها حتي المصعد الذي انفرج بابه بـ هُنَا في مدخل البناية ومنه إلي السيارة حيث  هي الأن. 

صف أمير سيارته أمام المشفي و هرول الجميع نحو موظف الأستقبال للاستعلام عن مكانه، بعد خمس دقائق كان ثلاثتهم يقفون أمام غرفة العمليات بإنتظار خروج أي أحد ليطمئنهم كان أمير يروح و يجيء بأعصابٍ تالفة بينما وقفت كلتاهما و دموعهما مصاحبة لهن، خرج فرد من طاقم التمريض و لكنه قبل أي سؤال رحل بعد قوله بأنه لا يملك أي صلاحية لقول أي شيء، ساعة كاملة لا علم لهم بما يحدث بالداخل حتي طرق أمير الباب بغضب و نفاذ صبر: 
إحنا هنفضل كده كتير، ما حد يخرج يطمنا. 

مرت نصف ساعة أخري لم تعد لقدميها القدرة علي التحمل أكثر؛ فأنهارت بالأرض جالسة، أنفرج باب العمليات فخرج افراد طاقم التمريض يدفعون السرير المدلوب و هو مستلقي فوقه لا حول له ولا قوة، شهقة مُلتاعة خرجت من جوفها وهي تنهض نحوه بقلب مات من خشية فقدانه، همست باسمه وهي تهرول معهم ترفض تركه حتي أوقفتها إحداهن قبل دلوفهم للمصعد، بقيت تنظر له حتي أنغلق الباب فعادت لهم تسمع قول الطبيب: 
واضح إن الحادثة كانت شديدة عليه لكن إحنا عملنا اللازم، و قدرنا نسيطر علي النزيف الداخلي، الخبطة اللي في الدماغ سببت جرح كبير لكن إحنا خيطناه، و باقي الجروح و الكدمات مع الوقت هتروح، إحنا هنحطه في العناية المركزة لحد ما يفوق، ادعوله الـ ٢٤ ساعة الجايين يعدوا علي خير، بعد إذنكم. 

اوقفته برجاء: 
دكتور لو سمحت ممكن أشوفه، دقيقة واحدة بس ارجوك. 

عادت تبكي بقوة، فاسندتها شهد، بينما نظر أمير للطبيب الذي رفع نظارته بسبابته و قال مضطرًا نظرًا لحالتها: 
مفيش مشكلة بس ياريت بلاش نزعجه. 

تحرك ثلاثتهم خلفه حتي غرفة العناية، أشار لها الطبيب بالدخول بينما افسح لها شهد و أمير لتدخل، قبضت فوق مقبض الباب و أتخذت عدة أنفاس قبل أن تديره و تدخل مغلقة خلفها، تقدمت نحوه ببطء، لامس كفها الرقيق المرتعش كفه الكبير الساكن بجانب جسده، طالعت الأجهزة الموصولة بجسده بدموع، منذ ساعات قليلة كان بجانبها، كان يضحك لها ويحادثها و يرتب لحياة قادمة برفقتها و الأن ينازع الموت حتي يبقي، و ينازعه الموت ليأخذه، تذكرت حديثه لها بعدما أنتهي من إرتداء ثيابه صباحًا، جلس جوارها و هو يلف ساعته الغليظة و الأنيقة فوق معصمه، فسألته وهي ترفع إحدي حاجبيها: 
قولي يا طه، هو مش المفروض بعد مهمة كبيرة زي دي وترقية كبيرة زي اللي خدتها دي تاخد أجازة يومين حتي، ولا هو خلاص ياعم الجامد الداخلية هتنهار منغيرك؟ 

رفع سبابته يفك انعقاد حاجبيها ضاحكًا: 
إيه ياعم كرومبو أنتِ أهدي، ده اللي كنت هتكلم في دلوقتي علي فكرة، الأجازة أنا أجلتها بعد ما الهانم قالت مش راجعة غير بعد ما شروطها تتنفذ. 

سألت من جديد: 
طيب و دلوقتي، هتاخدها؟ 

هز رأسه بالإيجاب و اقترب منها: 
أيوة، هظبط شوية حاجات هنا الأول و بعدها شوفي حابة نسافر فين و نروح. 

أخذتها الحماسة وهي تصفق بيديها  ولم تنتبه لكونها نهضت فوق ركبتيها لتحتضنه، قالت وهي تحيط عنقه بذراعيها: 
أنت برنس الداخلية والله. 

فاجئته حركتها المباغته ولكنه تداركها مبتسمًا وهو يعانقها بالمثل متنهدًا بقوة وهو يحرك رأسه ليستقر و جهه مقابلًا لعنقها، شعرت بالخجل وهي تفك قيد يدها و تحاول دفعه ولكنه أبي تركها، فقالت تسايسه: 
طه هتتأخر علي شغلك. 

همس ولازال كما هو: 
يتحرق الشغل. 

ضحكت علي قوله وهي تهتف: 
أنت قد الكلمة دي؟   

و أمام إصرارها ابتعد قليلًا برأسه ولم يفلت جسدها، قال وهو ينظر لها و لهروبها منه بشكل مستمر، مازحها بقوله: 
مش المفروض كبرنا علي موضوع الكسوف ده ولا إيه؟ 

نظرت له فسقطت عيناها أسيرة لتلك النظرة الشغوفة بعيناه، قالت بصوت خفيض متذمر: 
مفيش حاجة أسمها كده، محدش بيكبر علي فطرة أتخلق بيها. 

عقد حاجبيه سائلًا: 
أفهم من كده الحالة دي هتستمر كتير، أصل إحنا مطولين مع بعض، حسبة تأبيدة كده ولا حاجة. 

ضحكت وهي تفك أنعقاد حاجبيه كما فعل لها: 
و لو بعد ١٠٠ سنة هفضل زي ما أنا كده، أيوة بنتخانق و بنبقي ناقص نخلص علي بعض، بس في وقت هقلب قطة سيامي  مش عارفة تروح فين علشان متبصلهاش. 

ابتسم بخبث وقال بوقاحة لم تعتدها: 
ده بيتهيألك بس، علشان إحنا لسه محصلش بينا حاجة لكن بعد…

قاطعته تضع يدها فوق فمه بوجه تكسوه حمرة الخجل وتذمرت: 
إيه يا طه، إيه يا حبيبي مش كده، أنت غلبت حمدي الوزير بجد، قوم شوف شغلك، و حاسب كده. 

تركها و نهض واقفًا و هو يضحك بقوة عليها وسط تحاشيها النظر له نهضت هي الأخري وقد قررت التظاهر بترتيب الغرفة فقبض عليها لتنظر له ولملامح وجهه التي حاول جعلها تشبه ملامح تلك الشخصية التي شبهته بها و أمام هذا لم تتمالك نفسها فعلا صوت ضحكها مجلجلًا يملاء الغرفة، نظرت له بعينان تلتمعان، وقالت:
تعرف أنت بتفكرني بجملة كنت قرأتها مرة في رواية. 

صمت تثير فضوله حتي يسألها وحينها قالت: 
كانت بتقول " كنتُ أعلم أن خلف صمتك كنوزٌ و درر مدفونة."
اعتقد إن أنا قولتها صح، طول الفترة اللي فاتت دي أنا كنت بكتشف طه تاني غير طه الصامت المكشر، اللي مش بيتكلم، أو إجمالًا لده كله، طه الأشعث. 

قالتها وراقبت ملامحه الممتعضة حتي شعرت به يفلتها و يستدير للمغادرة بعد قوله: 
أنتِ مش بوظتي اللحظة أنتِ دشملتي أمها، سلام يا حمقاء. 

تعالت ضحكاتها مجددًا و أسرعت خلفه حتي لحقت به عند الباب، فقالت قبل أن يغلقه: 
خلي بالك من نفسك يا طه، ومتتأخرش بالليل.

عاد برأسه يُقبل و جنتها سريعًا وقال غامزًا: 
لما أرجع هنكمل اللي وقفنا عنده قبل طه الأشعث اللي قولتيها دي، هتوحشيني. 

هزت رأسها موافقة و راقبته حتي أغلق باب المصعد، رحل نحو مصيره المحتوم، أغلقت هي الأخري باب المنزل و أستندت بظهرها عليه مبتسمة، وهمست وهي تضع يدها فوق قلبها: 
إيه يا معلم مش كده، هتفرفر مني علشان قال هتوحشيني، أومال لما ننقل لليڤل أعلي هتخرج من مكانك. 

عادت من شرودها لا تدرِ أتبكي أم تبتسم، همست له قبل خروجها: 
و أنت كمان بتوحشني في كل وقت يا طه. 

غادرت بعدما مالت تلثم كفه، خرجت إليهم و دون التفوه بأي كلمة، توجهت نحو مقعد مقابل باب غرفته وجلست فوقه تبكي بصمت وكأنها بعالم أخر غيرهم، جلست شهد جوارها و التي لا يقل ما يعتليها عن ما تعانيه الأخيرة، ربتت فوق كفها تؤازرها دون اي حديث، نظرت لها و قالت: 
كنا خلاص يا شهد هنبدأ صفحة جديدة، كنا بنتفق هنقضي الاجازة بتاعته فين، أفتكرت الحياة ضحكت لينا خلاص، ليه يحصل كل ده ليه؟ 

احتضنتها شهد بعدما دخلت في نوبة بكاء اخري، قالت من بين دموعها: 
وحدي الله يا آية مش كده، أنتِ مؤمنة بالله و بقضائه و قدره و اللي حصل ده مكتوب مفيش منه مهرب يا حبيبتي، أدعيله يقوم بالسلامة. 

بقيت بين يدها تتضرع لله هامسة، في حين نظرت شهد لـ أمير بقلق: 
أمير أنت كلمت بابا أو ماما؟ لو اتصلوا بماما زيي أنا و آية دي كانت تروح فيها.
طمأنها بقوله: 
كلمت والدك و قولتله، قالي هيجيبها و يجي، ربنا يستر بس لما تعرف. 

قالت شهد: 
حسبي الله و نعم الوكيل، منهم لله. 

نظرت له آية: 
الحادثة دي بفعل فاعل يا أمير مش كده؟ 

هز رأسه بحيرة: 
لسه منقدرش نجزم بشيء، بس سواق العربية اللي خبطت طه
مكنش موجود لما الناس أتلمت و واحد من الشهود قال إنه شافه بينط من العربية. 

أكملت آية بتفكير و خي تزيل دموعها: 
و لو أفترضنا إنه مش قاصد يخبط طه كان هيبعد عن العربية ماشي لكن مش لدرجة يهرب، و ده معناه إنه كان عارف هو بيعمل إيه، طه مش أول مرة يسوق و اكيد حتي لو السواق ده حاول يخبطه كان هيفادي، أكيد العربية هي كمان كان فيها حاجة. 
هز رأسه باستحسان لما قالته: 
كل شيء جايز علي العموم هنستني تقرير المعمل الجنائي و كمان شهادة طه و نشوف هنوصل لإيه. 

★***★***★***★***★***★***★***★***★***★
في نهاية اليوم التالي حضر الطبيب لفحصه و حالما تأكد من تحسن مؤشراته الحيوية، سمح بنقله لغرفة عادية، ترك الممرضات داخل الغرفة و خرج للواقفين أمام الباب: 
الحمد لله، في تحسن كبير عن أمبارح، دلوقتي هيتنقل لغرفة عادية و هننتظر إنه يفوق. 

كان قول الطبيب بمثابة عود الروح للجميع، آية شهد، زوجها و والديه، الجميع لم يغفُ له جفن منذ اليوم الماضي، مرت نصف ساعة كان قد وصل فيها لغرفته الجديدة و وقف الطبيب بجانبه و ممرضته المساعدة يعطيها تعليماته بينما وقفوا جميعًا بالجانب الأخر و جلست هي بطرف الفراش تنظر له ببكاء صامت، تطالع ملامحه الشاحبة و كأنها تحاكي الموتي في صمت، شاربه الكثيف و ملامحه السمراء التي ما طالع قلبها مثلها من قبل، مررت يدها فوق رأسه بحنان وهي تنظر لجرحه المُخاط بألم و كأنه أصابها هي، أنتهي الطبيب من تعليماته و نظر للجميع باستياء: 
يا جماعة مش هينفع كده لو سمحتوا، ياريت الكل يروح و واحد بس اللي يفضل معاه، لكن المنظر ده لا، مش عايزين نتعب المريض. 

هز أمير رأسه موافقًا و كان أول من تحدث: 
الدكتور عنده حق يا جماعة يلا بينا و الصبح، إن شاء الله نبقي عنده كلنا. 

غمز بعينه خفية لزوجته مشيرًا نحو تلك الجالسة و دون إهتمام لما يقال حولها، حمحمت شهد وربتت فوق كتف آية: 
حبيبتي يلا بينا علشان نوصلك، و الصبح نرجعله. 

هزت رأسها نافية و قالت بقوة: 
أنتم عايزين تسيبوه لوحده إزاي يعني مش فاهمة، دي محاولة قتل و ممكن اللي عمل كده يرجع يعملها تاني. 

صحح لها أمير ظنها: 
مين قال بس هنسيبه وحده، أنا هوصلكم و ارجع له، و كمان في اتنين عساكر هيكونوا برة علي الباب. 

هزت رأسها باستحسان وقالت وهي تعود ببصرها نحو طه: 
طيب كويس روح وصل عمو وطنط و مراتك و ابقوا تعالوا الصبح، و أنا هفضل مع طه. 

مرت نصف ساعة كاملة حاول فيها الجميع إثنائها عن قرارها لكن الإصرار بعينيها أرغم الجميع علي الرضوخ لها بعدما أنهت النقاش بقولها: 
متتعبوش نفسك علي الفاضي، أنا مش هسيب جوزي و أمشي، أمير حابب توصلهم  وترجع تبقي قريب من هنا زيادة أمان أنت حر، بس الأول شهد تروح الڤيلا عند عمو علشان متبقاش وحدها، لكن أنا مش هعرف أقعد في مكان غير جنب طه لحد ما يفوق و أطمئن عليه. 

جلست فوق الكرسي المجاور لفراشه و راقبتهم يتوجهون للخارج حتي توقف أمير قبل غلقه للباب: 
هوصلهم البيت أرجع علطول، اقفلي باب الأوضة من جوه و متفتحيش غير ليا أو للدكتور اللي كان معانا من شوية، ولو احتاجتي حاجة اتصلي بيا. 

رحل و بقيت هي لجواره حتي غلبها النعاس فوق كرسيها، لم يوقظها سوي طرق خافت فوق الباب، حركت رأسها يمينًا و يسارًا تستوعب أين هي حتي عاد الطرق مجددًا فتوجهت نحو الباب بقلق بعدما نظرت في ساعة يدها وجدتها قاربت علي الخامسة فجرًا، همست بصوت بان فيه اثر نومها: 
مين؟ 

فقال الطارق: 
أنا أمير افتحي. 

هدأت ضربات قلبها القلقة وهي تدير المفتاح بالباب و أدارت المقبض تفتح الباب، مد لها أمير يده ببعض الأكياس و حقيبة صغيرة وقال بهدوء: 
أنا جبتلك أكل، و الحاجات دي بعتتهالك شهد، قالت هتحتاجيها، و أنا قاعد قريب من هنا متقلقيش من أي حاجة. 

ابتسمت له بإمتنان تشكره علي حسن تعامله، و وفائه لصديقه، نظر للداخل بقلق وهو يسألها: 
طه عامل إيه، لسه مفاقش؟ 

هزت رأسها بنفي مجيبة: 
لاء لسه، الدكتور كان هنا من شوية قبل ما تيجي وطمني عليه متقلقش، إن شاء الله بكرة يفوق و يطمنا عليه بنفسه

اومأ موافقًا، اغلقت الباب بالمفتاح بعد رحيله و عادت للداخل، و ضعت الأكياس فوق الأريكة المجاورة للباب و فتحت الحقيبة التي ارسلتها شهد لتجد بها ثياب لها و سجادة للصلاة، ابتسمت وهي تجذب بعض الثياب و تتوجه لمرحاض الغرفة، بعض قليل من الوقت خرجت بعدما ابدلت ملابسها لأخري و جذبت سجادة الصلاة لتصلي سنة الفجر لكنها وقفت حائرة بمنتصف الغرفة لا تفقه أين القبلة حتي جذبت هاتفها تحاول تحديها، بقيت هكذا حتي طرقت إحدي الممرضات باب الغرفة، وقفت الممرضة تراقب مؤشراته الحيوية و تتأكد من أن المحلول المعلق يعمل جيًدا، ما أن همت بالمغادرة بعد قولها: 
كل حاجة تمام الحمد لله، حضرتك محتاجة أي حاجة قبل ما أمشي؟ 

سألتها وهي تشير لسجادة الصلاة بيدها بقلة حيلة: 
عايزة أصلي، ومش عارفة القبلة فين. 

ابتسمت الأخري و أعلمتها ما تجهله و ولت راحلة، عادت تغلق الباب من خلفها بالمفتاح، وقفت تؤدي صلاتها وجلست من بعدها بمكانها تدعو الله بأن يرد له عافيته، غلبتها دموعها فبكت بصمت قطعه شهقاتها بين الدقيقة و الأخري حتي سمعت همهمات ضعيفة تأتي من ناحيته، رفعت رأسها ببطئ وهي توجه نظرها نحوه دون حركة، ولكن همسه الضعيف بإسمها جعلها تنتفض بسرعة البرق إليه، أشعلت ضوء المصباح الصغير المجاور له وهي تجلس بطرف الفراش تتأكد إن كان ما سمعته حقيقي،فتح عينيه و نظر لها بنظراته التي تحيطها من كل إتجاه،ابتسمت وهي تنظر له دون حديث، ولكن همست مقلتيها بالأشعار سرًا، تغازل عيناه الصافيتين تحت ضوء الغرفة الخافت المائل للأصفر و التي أضفت لهما بريقًا جذبها إيه برفقٍ كمن يجذب أميرته نحو ساحة الرقص لأداء رقصة، تحت ضوء القمر و وسط ألحان موسيقي هادئة، مررت يدها فوق وجهه وقد امتلئت عيناها بالدموع ولازالت صامتة، فيحدث أن يأتيك ما صبرت لنيله فيكون ترحيبك به صامتًا ليس لأنطفاء لهفتك نحوه، بل لأن الكلمات لا يمكنها أن تعبر عن فرط ما يعتليك من مشاعر، ثوانٍ و دقائق مرت وهما هكذا، حتي مرر يده يزيل دمعتها وهمس: 
عينيكِ حلوة أوي يا آية. 
ابتسمت و خرجت عن صمتها وهي تميل برأسها تضعها فوق صدره وقالت ببكاء: 
روحي كانت بتروح من بعد ما عرفت اللي حصلك، حسيت الدنيا ضلمت و مبقتش عارفة إزاي أخد نفسي…

رفعت رأسها تنظر له، سألته بخوف: 
كنت هعمل إيه لو حصلك حاجة، كنت هعيش إزاي يا طه؟ 

ربت فوق كفها وقال بوهن: 
أنا بقيت كويس علي فكرة. 

قالت بعتاب مُحب: 
من كام ساعة بس كنت هتسيبني، من كام ساعة بس أنا قلبي اتخلع مني و مرجعش غير لما فتحت عنيك دلوقتي. 

ابتسم وأجاب: 
أنا جنبك لأخر يوم في عمري، حتي لو أنتِ عايزة تبعدي مش هسمحلك. 

ابتسمت وخرجت من سحر لحظتهما وهي تجفف دموعها و سألت: 
أنت تعبان؟ في حاجة بتوجعك؟…هنادي الدكتور يشوفك.

وقبل أن تضغط الزر لإستدعاء أي أحد منهم أوقفه قائلًا: 
أنا كويس مش محتاج حد. 

ولكنها رفضت وهي تضغط على الزر: 
و أنا عايزاك كويس دايمًا، بس الدكتور لازم يشوفك برضو. 

بان تذمره فوق ملامحه، حتي سمعت طرق الطبيب، توجهت نحو الباب تفتحه فأوقفها قائلًا بضيق:
غطي شعرك ده، مش ابن أختك اللي علي الباب.

غطت بضيقٍ خصلاتها  التي تمردت عن حجابها دون أن تشعر و نظرت له تخبره: 
مخدتش بالي أكيد. 

مرت خمس دقائق وقف فيها الطبيب يقوم بعمله، حتي ختم ما يفعله قائلًا: 
الحمد لله إحنا كنا فين وبقينا فين يا بطل، حمد الله علي سلامتك. 

هز رأسه دون رد علي حديثه وسأل:
هقدر أخرج أمتي؟ 

تعجبت من سؤاله، و كذلك الطبيب الذي قال:
إيه يا حضرة الظابط زهقت مننا بالسرعة دي ولا إيه. 

فـ أجاب الأخر بجمود: 
مبحبش قعدة المستشفيات. 

هز الأخر رأسه بعملية: 
مفيش مشكلة، شد حيلك بس أنت، و إن شاء الله لو في تحسن ممكن تخرج بعد اربع أو خمس أيام أسبوع بالكتير، بعد إذنكم. 

ابتسمت له بإمتنان و شكرته وهي تغلق خلفه الباب و تعود للراقد خلفها بتذمر: 
إيه الطريقة اللي بتتكلم بيها دي، و بعدين خروج إيه ده اللي بتتكلم فيه، أنت مكملتش ساعة فايق. 

ولكنه ناطحها بغضب: 
أنتِ بتتكلمي مع الدكتور ده كده ليه؟ 

عقدت حاجبيها بعدم فهم وقالت: 
بكلمه إزاي مش فاهمة، أنا عملت إيه؟! 

قال بنفس النبرة وقد ظهرت غيرته جلية علي وجهه: 
بتضحكي و تبتسمي و تشكريه و توصليه للباب، مخترعش الذرة هو يعني؟ 

وقفت تحملق فيه دون فهم لما يتفوه به، حتي وصلت لنقطة أنه يغار عليها، ابتسمت داخلها وهي تتقدم من تنظر لضمادة رأسه بتفحص و سخرت بقولها: 
هي الخبطة شغلت الجزء المسؤل عن المشاعر اللي في دماغك صح؟…إحنا لازم نشكر اللي كانوا السبب علي كده. 

تفاقمت حُمم غضبه وهو ينظر لها بإشتعال، بينما نظرت له عي مبتسمة و قالت بمكر: 
أنت غيران من الدكتور يا طهطوها؟ 

امتعضت ملامحه لهذا اللقب الذي تفوهت به، هز رأسه موافقًا وقال: 
كنت غيران آه، بس بعد الاسم ده أنا ممكن أقوم احدفك من البلكونة اللي هناك دي عادي. 

ابتعدت ضاحكة وهي تغلق المصباح المجاور له وقالا بهدوء: 
أنت بقيت رغاي علي فكرة، نام شوية يلا علشان متتعبش، و لأن بمجرد ما يتعرف إنك فوقت مش هتعرف تغمض عينك من كتر الناس اللي هتيجي علشان تشوفك. 

ابتعدت تتأكد من أن الباب مغلق بإحكام وتحررت من حجابها و جلست فوق الكرسي جواره دون حديث أخر بينما هو كانت لازالت شهوة الحديث لديه لم تشبع لذا قال بتذمر طفولي: 
أنا مش عايز أنام. 

مرت دقيقة حتي قالت: 
أومال عايز إيه؟ 

وقع في شر تذمره وهو لا يجد ما يطلبه، قال بهمس مراوغًا:  
أحكي لي عنك شوية. 

عقدت حاجبيها و هي تكذب ما سمعته، وقالت بضحك: 
ده بجد؟ أنت فاكر أنا مين طيب ولا إيه حكايتك؟ أنادي الدكتور؟ 

همس بغضب سمعته: 
هتطلعني مجنون دلوقتي! يابنتي مرة واحدة أعملي اللي أقوله بدون أعتراض و رغي كتير. 

اقتربت أكثر بكرسيها وسألته مجددًا: 
طيب أنت فاكرني بجد؟ إيه أخر حاجة فاكرها قبل الحادثة. 

رفع حاجبه وقال بقوة: 
فاكر طه الأشعث. 

ضحكت بخفة وهي تقول مطمئنة: 
كده أنا اتطمنت عليك، عايز تعرف إيه بقي عني؟ 

همس من جديد يغالب ألمه:
ليه استحملتِ كل ده معايا؟ يعني أنتِ بنت جميلة جدًا، و شخصيتك قوية، أخلاقك، أدبك، ذكية، بتدخلي قلب أي حد يشوفك و…

قاطع استرساله صوت قهقهتها الرقيقة المتعجبة، وهي تنظر له بعبث وسألت: 
ده أنت واقع خالص بقي.

تجهم وجهه: 
طيب جاوبي. 

هزت كتفيها بشرود: 
تصدق إن أنا نفسي معرفش! فجأة لقيتني مع واحد صامت غامض معرفش عنه غير شوية معلومات لا تذكر، في الأول قولت شوية و هنتعود علي بعض، بعدها قررت إنه خلاص أنا مش عايزة أكمل، بس…بس لما بابا قالي لو عايزاني أتدخل و أبلغه إنك عايزة تنفصلي قوليلي، حسيت إني متضايقة ومخنوقة وفي إحساس بالخوف جوايا رافض للفكرة، و إن أيوة أنا رافضة الوضع ده، لكن ده مش معناه إني عايزة ابعد للدرجة دي! 

صمتت فثار فضوله بقول: 
وبعدين، إيه برضو اللي يخليكِ تكملي. 

قالت بهدوء:
مبحبش أخد قرار و أنا مُشتتة، كان لازم اقف علي أرض صلبة و افهم فيها مشاعري رايحة فين علشان أعرف هعمل إيه. 

سأل بهدوء: 
و طلعت مشاعرك رايحة فين؟ 

قامت تجلس فوق طرف الفراش: 
رايحة ناحية واحد كده عصبي شوية، و طباعه غريبة شويتين، و بيقول كلام حلو مرة كل فين وفين، و بيقول إنه بيحبني. 

مال برأسه قليلًا و استطرق: 
و أنتِ بقي بتحبيه؟ 

مررت يدها فوق كفه برقة وابتسمت: 
ماما سألتني نفس السؤال ده، عارف قولتلها إيه؟ 

سأل بعيناه فقالت وهي تدس يدها داخل كفه: 
مفيش حاجة ممكن تصبرني عليه كل الوقت ده غير إني بحبه.

مرت دقائق صامتة بينهما و كأنه يُمتع أذنيه بإعترافها المُبطن تكررت جملتها في قلبه ما جعل ابتسامة شحيحة تظهر فوق ملامح وجهه المليئة بالخدوش، بقيت تراقبه دون أي حديث، حتي همست برقة وهي تمرر يدها فوق إحدي كدماته و همست: 
ممكن بقي ترتاح شوية؟ 

رضخ أخيرًا لقولها و راح في نومه حتي شق النهار طريقه في الأفق و ملاء ضوء الشمس الغرفة متسللًا من النافذة و داعب جفنيها فحركت رأسها من فوق مسند الأريكة حينما سمعت صوت طرق خافت فوق باب الغرفة، عدلت ثيابها و وقفت خلف الباب تستعلم عن الطارق، أجاب أحد العساكر بالخارج: 
أنا عبد الله يا مدام في حد جاب بوكية الورد ده لـ طه باشا و مشي علطول. 

قطبت جبينها بتعجب وهي تدير المقبض و تلتقط باقة الورود من الأخير، شكرته و أغلقت الباب من جديد وهي تنظر لما بيدها بتعجب، زمت شفتيها بضيق وقد وصل عقلها لاستنتاج أنها من إمرأة، فما من ضابط مثله سيرسل له هذه الباقة الرقيقة بهذه الألوان المبهجة، راحت و جائت بأرجاء الغرفة بغضب و قد اشتعلت داخلها غيرتها بقسوة، ألقت الباقة فوق الطاولة الصغيرة فسقطت زجاجة المياة أرضًا، وضعت يدها فوق فمها و شهقت بخفوت وهي تنظر جهة الفراش، رفرفت أهدابه بضيق و قد ازعجته الضوضاء، قال بضيق: 
إيه الدوشة دي؟ 

لم تجبه و لكنها جذبت باقة الزهور و رمتها بين يديه و قالت بحنق شديد: 
اتفضل شوف مين الحلوة اللي بعتالك ورد علي الصبح. 

لم تنتظر جوابه بل دلفت لحمام الغرفة و صفقت الباي خلفها بقوة تحت دهشته، تنهد بكلل وهو يعبث بالزهور يبحث عن كارت الإهداء ليعلم هوية الراسل، إلتقط الورقة و فضها يمرر عيناه فوق ما دون فيها، قرأها مرارًا و تكرارًا، وفي كل مرة كان يزداد لديه شعورًا سلبيًا و احدًا تلو الأخر حتي كاد ينفجر، عاد يقرأها مجددًا و قد أظلمت عيناه بغضب 
"حبيت أكون أول واحد يقولك حمد الله علي السلامة يا باشا، طلعت زي القطط بسبع أرواح، بس يا تري المدام زيك؟ و لا هتودع من أول مرة؟"

 •تابع الفصل التالي "رواية طائر النمنمة" اضغط على اسم الرواية 

google-playkhamsatmostaqltradent