Ads by Google X

رواية طائر النمنمة الفصل السابع والاخير 7 - بقلم ملك العارف

الصفحة الرئيسية

 رواية طائر النمنمة الفصل السابع 7 - بقلم ملك العارف 

"الفصل الأخير"

شق النهار طريقه في الأفق و ملاء ضوء الشمس الغرفة متسللًا من النافذة و داعب جفنيها فحركت رأسها من فوق مسند الأريكة حينما سمعت صوت طرق خافت فوق باب الغرفة، عدلت ثيابها و وقفت خلف الباب تستعلم عن الطارق، أجاب أحد العساكر بالخارج: 
أنا عبد الله يا مدام في حد جاب بوكية الورد ده لـ طه باشا و مشي علطول. 

قطبت جبينها بتعجب وهي تدير المقبض و تلتقط باقة الورود من الأخير، شكرته و أغلقت الباب من جديد وهي تنظر لما بيدها بتعجب، زمت شفتيها بضيق وقد وصل عقلها لاستنتاج أنها من إمرأة، فما من ضابط مثله سيرسل له هذه الباقة الرقيقة بهذه الألوان المبهجة، راحت و جائت بأرجاء الغرفة بغضب و قد اشتعلت داخلها غيرتها بقسوة، ألقت الباقة فوق الطاولة الصغيرة فسقطت زجاجة المياة أرضًا، وضعت يدها فوق فمها و شهقت بخفوت وهي تنظر جهة الفراش، رفرفت أهدابه بضيق و قد ازعجته الضوضاء، قال بضيق: 
إيه الدوشة دي؟ 

لم تجبه و لكنها جذبت باقة الزهور و رمتها بين يديه و قالت بحنق شديد: 
اتفضل شوف مين الحلوة اللي بعتالك ورد علي الصبح. 

لم تنتظر جوابه بل دلفت لحمام الغرفة و صفقت الباب خلفها بقوة تحت دهشته، تنهد بكلل وهو يعبث بالزهور يبحث عن كارت الإهداء ليعلم هوية الراسل، إلتقط الورقة و فضها يمرر عيناه فوق ما دون فيها، قرأها مرارًا و تكرارًا، وفي كل مرة كان يزداد لديه شعورًا سلبيًا و احدًا تلو الأخر حتي كاد ينفجر، عاد يقرأها مجددًا و قد أظلمت عيناه بغضب 
"حبيت أكون أول واحد يقولك حمد الله علي السلامة يا باشا، طلعت زي القطط بسبع أرواح، بس يا تري المدام زيك؟ و لا هتودع من أول مرة؟"

سبة نابية خرجت من بين شفتيه تزامنّا مع خروجها من المرحاض، نظرت له بتعجب من كم الغضب المتربع فوق ملامحه المتجهمة، حرك رأسه يمينًا و يسارًا و كأنه يبحث عن شيء، تركت غيرتها جانبًا و سألت بلامبالاة ظاهرية: 
بتدور علي إيه؟ 

أجاب بجمود وهو يحاول فتح الدرج بجانبه لكنه لم يستطع الوصول إليه فقال: 
تليفوني فين؟ 

تحركت نحو حقيبتها و أخرجته منها و ذهبت به نحوه، إلتقطه منها وهنا لاحظ ضيقها المبالغ فيه، نفخ الهواء من فمه بصوت مرتفع و قال بحدة وهو يجذب يدها لتنظر له: 
الورد مش واحدة اللي بعتاه، و سبق و قولت مش بخونك، لازمته إيه بقي أم البوز اللي أنتِ مصدراه ليا ده؟

سحبت يدها و قررت عدم الخوض في شجار صباحي معه، مهما كان الأمر فهو مريض و ليس بكامل عافيته وجدال كهذا سيرهقه فقالت وهي تبتعد: 
و لا بوز  ولا غيره شوف تليفونك و أنا هطلب الفطار علشان تاخد أدويتك. 

عاد تركيزه ينصب علي مهاتفة أمير و محادثته بخصوص تلك الرسالة التي وصلته، و لكن شاشة هاتفه المكسورة و بطاريته الفارغة منعت هذا، ناداها من جديد يطلب: 
آية هاتي تليفونك. 

سألت بتعجب: 
ليه؟ 
هز رأسه بملل: 
أكيد مش هلعب جيمز، عايز اعمل مكالمة ضروري انجزي. 

رفعت سبابتها بوجهه وقالت: 
أنت…أنت…
و لكنه قاطعها مستعطفًا: 
أنا تعبان، و حاسس إن جسمي كله واجعني كأني لسه في العربية وهي مقلوبة بيا، فـ أرجوكِي مش دلوقتي علي الأقل. 

تنهدت بضجر و أخرجت الهاتف من جيبها و وضعته بيده و ذهبت خارج الغرفة، بينما نفض هو كل هذا عن رأسه و صب تركيزه علي الاتصال بزوج أخته، انتظر الرد حتي أجاب أمير بصوتٍ بان فيه النعاس: 
خير يا آية محتاجة حاجة؟ 

نسي ما كان سيخبره به وقال بغضب: 
آية حاف كده يلا، ده أنت نهارك مش معدي، تعالالي دلوقتي حالًا. 

استفاق أمير من نعاسه، هتف بسعادة: 
يخرب عقلك أنت فوقت أمتي، أنا كنت جاي اطمن عليك اصلا.  

دقائق مرت حتي وصل للغرفة و جلس أمامه و الفرحة تعلو وجهه لرؤيته بخير، دار بينهما حديث طويل ختمه طه بقوله: 
انسي يا أمير أنا مستحيل اوافق علي حاجة زي دي. 

سايسه الأخر يحاول إقناعه: 
يا طه الموضوع مفيهوش أي خطورة و الله و أنا هأمن كل حاجة، و بعدين ده مجرد تخمين ممكن ميحصلش حاجة اصلا، لكن لو نجحنا هنعرف نوقعه، و افق بس و ثق فيا. 

لكنه لم يقتنع و علا صوته بالرفض: 
أنا قولت لا، يعني لا، و أقفل الكلام لحد كده. 

هز الأخر رأسه بيأس، تزامن قوله الأخير مع دلوف آية للغرفة بعدما جذبها الصوت المتعالي قالت بتعجب: 
أنتو بتتخانقوا ولا إيه صوتكم عالي! لو سمحت يا أمير نأجل أي كلام دلوقتي لحد ما طه صحته تتحسن شوية. 

هز الأخر رأسه مستحسنًا ونهض راحلًا، بينما نظرت له هي بضيق و ضمت شفتيها تعبيرًا عن رفضها لتصرفه، قالت بمزاح: 
يعني أنا أجلت خناقة الورد علشان أنت تعبان، تروح تجيب أمير تتخانق معاه، طب و الله عيب! 

ابتسامة شحيحة ارتسمت فوق وجهه ولكنه نظر بعيدًا محاولًا إخفائها
★***★***★***★***★***★***★***★***★***★

إن كان الرجلُ أعقلَ من المرأة بفكره، فهي أعقل منه بحواسّها، وإن يكن أقدر في قوته فهي أقدر في عواطفها، وإن يكن في البليّة عودَ الثقاب، فهي الحريقُ كلّه!

-الرّافعي.

للبحر أثر عجيب علي النفس، أمواجه المتتالية تجذب عن كتفيك همومك، و تتركك نقيًا دون شوائب، تتغلغل رائحته و هوائه البارد لصدرك فتذيب ملوحة ندوب صدرك فتخرج تنهيداتك خفيفة هادئة مطمئنة
ابتسمت بإنتشاء وهي تفتح نافذة الشالية المُطلة علي البحر و تضم علي كتفيها شالها الخفيف، اسندت يديها فوق السور، حادت ببصرها للنائم خلفها بملامح منبسطة ينام نومة محارب انهي معركة طاحنة مع الحياة و نال منها جائزته الكبري، غلف نظراتها دفء روحها، و حنان فؤادها، و حبها الغامر له، عادت تنظر للبحر أمامها بقيت هكذا لدقيقتين حتي قررت الأقتراب أكثر من تلك الأمواج، لا مانع من إخباره بما مرت به في الفترة الماضية أو ربما إلقائه بالماء و الرحيل بدونه جلست فوق الرمال و رفعت ركبتيها تسند ذقنها فوقهما و قد داعبت الأمواج أطراف قدميها، عادت بذاكرتها للأسابيع الماضية
بالتحديد إلي غرفته بالمشفي حيث منذ علم الجميع بخبر الحادث و توالت الزيارات إليه حد أمتلاء الغرفة بالكامل، كان طه يجلس فوق فراشه و الضيق يعتليه بالكامل حيث أرهقته كثرة الحديث و التساؤلات حول كيفية حدوث هذا به، وعن صحته، نظر لتلك التي جلست مع زوجة أحد أصدقائه تتجاذب معها أطراف الحديث بكل سلاسة اغمض عينيه و فتحها وقد أوقع نظره فوق ساعة الحائط يشعر و كأن العقارب لا تتحرك، ساعة و الثانية مرت حتي انتهي موعد الزيارة و لم يبقَ سواها معه، ما أن ودعت والديها و أغلقت الباب خلفهما فـ استدارت تفك غطاء رأسها متنهدة بإرهاق وقالت: 
يا الله، حاسة طاقتي الاجتماعية لشهر قدام استنزفت من كتر الكلام. 

سخر منها بقوله: 
غريبة مع إن شكلك و أنتِ بتتكلمي ميقولش كده! 

جلست بجواره فوق الفراش كعادتها في هذا التوقيت في الأربع ليالي الماضية حيث تجلس إليه و تغوص معه في أحاديث كثيرة متفرقة منفصلة و متصلة، و متعددة لساعات طويلة، شغفه للحديث معها يجعل قلبها يطير فرحًا، تراقبه طيلة النهار وهو صامت دون حديث إلا من بضع كلمات مقتضبة مع الجميع وفي الليل يصبح درويشًا يغازلها، و ينافس أفضل رواة القصص في سرده و استرساله وهو يحكي لها أمورًا عنه لا يعلمها أحد سواها، ابتسمت و قد استقرت في جلستها و أجابته: 
أكيد مش هرسم علي وشي تكشيرة زيك كده في وش الناس اللي جاية تطمئن عليك، حاول تخبيها شوية. 

لم يتحدث فقالت هي: 
صحابك لُذاذ أوي بصراحة و زوجاتهم كمان لُطاف أوي، حاسة هنبقي صحاب أنا وهما، حتي بفكر نعزمهم كلهم في مرة عندنا وكده أنا بحب الأجواء دي جدا. 

رفض بقوله: 
حبيها ماشي، نعملها لاء. 

تسألت: 
ليه؟ دول أصحابك علي فكرة. 

نظر بعينيها: 
أنت عارفة أنا مبحبش الدوشة و الزحمة. 

وافقته: 
ماشي بس دول مش زحمة، أنت أصحابك المقربين تقريبا ٤ يعني مش هنعمل مهرجان، وبعدين يا حبيبي، اللمة الحلوة دي مش بتتعوض، و أكيد مش هنعيش في كهف و ننعزل عن الناس. 

قرر إنهاء الحديث فقال: 
بعدين نشوف الموضوع ده. 

تقبلت تهربه و انتظرت منه قول جديد: 
أنا عايز أخرج بكرة علي أخر اليوم إن شاء الله. 

عارضته: 
أيوة يا طه بس أنت…

قاطعها: 
بقيت كويس، كفاية بقي القعدة دي أنا حاسس إني متكتف، وبعدين نومتك علي الكنبة دي مش نافعة. 

ابتسمت: 
ياسيدي ملكش دعوة بيا، أهم حاجة عندي دلوقتي أنت تبقي كويس. 

تنهد و أكد: 
يبقي نخرج من هنا، أنا هبقي كويس أكتر لما أمشي. 

سألته بتذمر وهي تعقد ذراعيها وتشيح بوجهها عنه: 
علشان تاني يوم الصبح أقوم ألاقيك لابس و نازل الشغل صح؟

ضحك بخفة و أمسك بكفها لتنظر له:
لا مش صح،أصلا أنا أجازة أسبوعين تقريبًا فـ قاعد علي قلبك لحد ما تزهقي. 

نظرت له بطرف عينيها و قالت: 
المية تكدب الغطاس. 

نهضت تجذب الغطاء فوقه و تعدل من وسادته وقالت: 
يبقي يلا كفاية و ارتاح شوية علشان نمشي بكرة. 

تركته و توجهت لأريكتها و تمددت فوقها وهي تطالع السقف كما كان حاله هو الأخر مرت نصف ساعة صامت حتي همس هو: 
آية، نمتي؟ 

ابتسمت وهي تجيبه: 
لا، صاحية. 

اعتدلت بنومتها لتواجهه استعدادًا لجولة جديدة من الحديث

انتقل فكرها لصباح اليوم التالي حينما نهضت من الأرض وبيدها سجادة الصلاة بعدما أدت فريضة الظهر، نادها برفق بعدما حسم أمره فيما يؤرقه منذ حديثه مع أمير بعدما أفاق: 
تعالي يا آية. 

جلست فوق طرف الفراش وعلي محياها بسمتها التي شعر في هذه اللحظة تحديدًا أنها أكثر مما يستحق، تنهد بنزق و لا يدرِ من أين يبداء، حتي قال: 
عارفة أنا نفسي في أي دلوقتي؟ 

سألت بلهفة بانت في عينيها قبل قولها: 
أي، قول. 

قال بطريقة طفولية تعجبت منها كثيرًا: 
عايز أكل رز وبسلة من ايديكِ. 

ضحكت بشدة غير مصدقة: 
يعني ده أقصي طموحك بجد.

لم يتحدث فهزت رأسها بموافقة وقالت بحب: 
من عيني حاضر، تخرج بالسلامة و اعملك أحلي بسلة و رز بالشعرية كمان.

هز رأسه بالنفي وقال: 
لا مش هستني كل ده، أنتي تروحي دلوقتي تعمليه، و أنا أخر النهار هخرج و أمير هيوصلني للبيت. 

بان الرفض في قولها: 
لا طبعًا أنا مش هخرج من هنا منغيرك. 

مرت نصف ساعة بين جذب وشد من كليهما حتي كان هو المنتصر، رفع هاتفه يحادث أمير يطلب منه المجيء إليه ليوصلها للبيت بعدما تجهزت للخروج، وقفت أمامه بتحذير و قالت وهي ترفع سبابتها بوجهه: 
إياك يا طه تخرج قبل ما أجيلك، أنا هخلص اللي طلبته و أجي علشان نخلص إجراءات الخروج و نروح بيتنا ماشي؟ 

هز رأسه بهدوء عجيب، تنازلت عن حدتها وجلست أمامه ونظرت بعمق عيناه، وسألت: 
أنت مش مخبي عليا حاجة صح؟ إحنا متفقين محدش يداري علي التاني أي حاجة! 

توترت نظراته للحظة و لكنه تماسك وقال بثبات: 
مفيش حاجة، أنتِ متوترة علي الفاضي علي فكرة. 

هزت رأسها ونهضت بهدوء: 
ماشي يا طه. 

انتقلت ذاكرتها من جديد لنقطة بعينها حيث تجلس بالمقعد الخلفي للسيارة وفي المقدمة يجلس السائق، بعدما أصرت علي أمير ألا يتحرك من جانب طه، حدثُها يخبرها بأن شيء ما سيحدث يأكلها القلق عليه، ولكن ما لم تحسب حسابه هو أن الكرسي المجاور لها يتربع فوقه الخطر، و بانت بوادره حينما عدل السائق وضع المرأة و أمسك الهاتف يجري مكالمة، لاحظت هي حركته وتركيزه علي الطريق خلفهم، دارت بجسدها للخلف و داخلها يتمني أن يكون ما بعقلها مجرد أوهام، و لكن لا خلفهم سيارة سوداء عملاقة يجلس بها ما يزيد عن أربعة رجال ولا يبدو علي وجوههم الخير إطلاقًا، قفز القلق من قلبها لعينيها و بان في أنفاسها المتعالية، أنتبهت علي قول السائق:
أمير باشا حصل اللي كنا متوقعينه، في عربية ماشية ورانا و للأسف أنا مش هقدر أتصرف لو وقفونا عددهم أكبر من إني أوقفهم، تمام ياباشا تمام. 

أغلق الهاتف و صب تركيزه علي محاولة تفادي هذه السيارة حتي زادت الطين بلة حينما أخرج أحدهم يده وبها سلاح ناري و أطلق عليهم، صرخت بهلع، حينما صاح من بالأمام فيها بقوة: 
أنزلي تحت بسرعة، ولو وقفونا متخرجيش من العربية نهائي مفهوم. 

لا تعلم هل نزلت بإرادتها أم أنسياب أعصابها جعلها تنزلق دون وعي، بقيت ترتل أيات القرآن الكريم وبعض الدعوات التي تحفظها عن ظهر قلب، و دموعها تتسابق، لا تخشي الموت بقدر ما تخشي عليه هو، تعلم جيدًا بأنه لو أصابها مكروه لن يتحمله هو، ربما لا يتخطاه كما تخطي سابقتها
بينما علي الجانب الاخر بالمشفي دلف أمير الغرفة ما أن تلقي مكالمة السائق قائلًا بعجالة: 
اللي توقعته حصل، هما لسه قريبين مننا، لازم أتحرك وهتابع معاك بالــ…

توقفت الكلمة بفمه وهو يراه متجهزًا للخروج و يشد أجزاء سلاحه الناري و يضعه خلف ظهره متحاملًا علي ألم ذراعه، نظر له مستنكرًا: 
و إيه؟ هتابع معاك بالتليفون؟ أنت واعي للكلام ده، مراتي بتتخطف و أنا هريح علي السرير! 

و هكذا ها هما بالسيارة و علي حسب ما يشير جهاز التتبع فهما علي مقربة كبيرة منهم، حاول كثيرًا الاتصال بها يطمئنها بأنه قادم إليها ولكنها لا تجيب، يعلم جيدًا أنها لا تريد أن يسمعها وهي خائفة، صوتها المرتعش سيمزق قلبه بالفعل، ولكن قلقه الأن يقتله، أكل الطريق أكلًا حتي لاحت أمامه السيارة علي بعد قليل منه،  بينما انطلقت طلقة غادرة منهم نحو إطارات السيارة جعلتها تنحرف للطريق الرملي و تتوقف، تقلصت المسافة بين سيارة المجرمين و السيارة المتوقفة هبض منها ثلاثة رجال واقتربوا منها ضرب أحدهما السائق بسلاحه فوق رأسه فسقط أرضًا و حاول الأخران فتح الباب الخلفي وسط صرخاتها المتعالية، كسر أحدهما زجاج النافذة فتناثرت أجزاء منه فوق وجهها، فتح الباب وما لبث أن يجذبها من السيارة إلا وكانت طلقة طه الأسرع وهي تستقر بذراعه صرخ الرجل متألمًا، ولم يلحق أي من البقية فعل أي شيء حيث اكمل طه هجومه وهو يصوب نحو ظهر الأخر،تحركت السيارة بمن فيها للهروب بينما حاول أمير ملاحقتها ولكنها زاغت منه فعاد إليهم، في حين فر الثالث هربًا حينما وجد السيارة قد ولت بعيدًا، أسرع طه خلفه، ولكن جسده الذي ليس في كامل لياقته المعتادة خذله بعض الشيء، توقف مصوبًا سلاحه و مطلقًا رصاصته في قدمه ليسقط أرضًا مثل البقية، غير وجهته مسرعًا نحو السيارة التي لازالت داخلها، تخطي ذلك الذي سقط امام الباب و ادخل جسده كاملًا بالسيارة وجذبها نحوه يتفحصها بخوف وسط قوله المتكرر بذعر وهو يتفحص جرح جبينها النازف: 
أنتِ كويسة، فيكي حاجة، آية ردي عليا، حاسة بأي حاجة وجعاكي. 

كان جوابها نوبة بكاء عنيفة وهي تدفن رأسها بصدره و تبكي من أعماق روحها، ضمها بقوة و أغمض عيناه بطمأنينة، قالت من بين بكائها: 
كنت فاكرة إنه خلاص كده خِلصت، فكرت إني مش هشوفك تاني، كنت خايفة عليك أوي، كنت …

امسك وجهها بين كفيه: 
ششش كل ده عدي خلاص، أنتِ بخير و أنا بخير و مفيش أي حد فينا حصلت ليه أي حاجة

سألت بضياع: 
بجد، أنت بخير؟ 

أعادها بين ذراعيه مؤكدًا: 
طول ما أنتِ بخير أنا بخير. 

وصل الخبر في لمح البصر لوالدها، لازالت تذكر مشاجرته مع زوجها بغرفتها في المشفي بعدما أصر طه علي الذهاب إلي هناك ليتأكد من أنها بخير تمامًا،خاصةً بعدما تبين جرحًا برأسها من إثر الزجاج المحطم، وقرر الطبيب تعليق بعض المحاليل لها حينما رأي الإصرار بعيني زوجها، لا تعلم ما دار بينهما من حوار خارج الغرفة، لكن لأول مرة تري والدها يتحدث بهذه العصبية المفرطة مع طه، تذكرت صياح والدها: 
الظاهر إني كنت غلطان لما وثقت فيك وسلمتك بنتي، فكرني كده أنا جوزتها ليك علشان إيه، علشان تصونها وتحافظ عليها، ولا علشان تعملها كبش فداء، و ُطعم للمجرمين. 

لم يتحدث بقي محافظًا علي صمته وهي تنظر له دون فهم، حاول أمير الدفاع عن صديقه مبررًا: 
يا عمي، حضرتك فاهم غلط، إحنا كنا مأمنين الوضع كويس، و الموضوع عدي علي خير منغير ما يحصل لحد حاجة. 

هز والدها رأسه وقال بنزق: 
عندك حق الحمد لله المرة دي عدت، أنا اسكت و استني لما المرة الجاية يجيبهالي مقتـ.ـولة أي رأيك. 

قال جملته الأخيرة وهو ينظر بعمق عيناه وكأنه يؤكد له إنهيار ثقته فيه، و لكنه لم يهتم أشاح بوجهه ناحيتها يتأكد من سلامة المحلول، بينما تحدث أمير مجددًا يحاول منع مشكلة قد تحدث إذا طفح كيل صديقه: 
بعد الشر يا عمي أنا مقصدش كده، لكن ده شيء استثنائي مش كل يوم بيحصل، طه بيحب مراته و بيخاف عليها اكتر من نفسه و لولا إصراري عليه مكنش وافق، و بمجرد ما العربية اتحركت بيهم احنا كنا وراها، حضرتك متأكد مليون في المية إن طه لو تطلب الأمر هيفديها بروحه و ده اللي خلاك توافق يتجوزوا، و أنا متأكد إن كلامك ده في ساعة غضب مش أكتر. 

هنا فقط خرجت عن صمتها و سألت بصدمة بانت في نبرتها المبحوحة: 
أنت تقصد إيه بكلامك ده يا أمير إنه لولا إصرارك مكنش وافق؟ طه أنت كنت عارف؟ طب ليه مقولتليش؟ ليه تخبوا عني حاجة زي دي، أنتم عارفين إني عيشت اسواء لحظات حياتي و أنا جوا  العربية دي، سيبتوني القلق ينهش فيا من وقت ما قفلت باب اوضتك و خرجت لحد ما شوفتك عند العربية، رد عليا يا طه أنت بجد كنت عارف ومرتب كل ده مع أمير؟ 

لازال صامتًا، صمته أصبح مثيرًا للاستفزاز لها و لوالدها أيضًا الذي ضرب كف بالأخر وصاح بغضب: 
طيب رد، اتكلم، دافع عن نفسك قول أي حاجة، أنا مش فاهم أنت ساكت كده ليه؟! 

وقبل أن يتفوه أمير بأي شيء أشار له بتحذير: 
أسكت يا أمير أسكت أنت، أنا عايزة أسمع منه هو، من جوز بنتي. 

نقل نظره بينهما وقال بعدما اخرج تنهيدة توحي بثقل المشاعر التي عصفت به و ثقل سؤالها المعلق دون إجابة، قال بتريث: 
معنديش رد حاليًا علي أي كلام، المهم عندي دلوقتي مراتي تخلص المحلول اللي في إيدها و نروح علي بيتنا، وقتها ممكن يبقي عندي حاجة اقولها وهيكون ليها هي. 

هنا فقط ضحك والدها و بشدة مثيرًا تعجب ثلاثتهم حتي انتهائه، نظر له وقال بغضب عكس ما كان عليه: 
تروح معاك فين؟ أنت متخيل إني هأمنك عليها لدقيقة واحدة تاني، أنسي. 

وقف طه و اقترب منه خطوتين وقال بثبات: 
محدش يقدر ياخد مراتي غصب عني. 

بينما اقترب منه هو الأخر حتي أصبح أمامه مباشرة وقال: 
لا أقدر، وقسما بربي يا طه آية ما هتخرج من هنا غير علي بيت أبوها.

وقبل أن ينفجر توسطهما أمير و قال مهاودًا: 
يا جماعة مش كده، ممكن نهدأ شوية. 

ابتعد كليهما للخلف، طرق احدهم علي الباب ومن ثم دلفت منه شهد و والديها، بدد صوت شهد المرح الغضب المتربع فوق الوجوه وهي تدلف: 
اي يا يويو مش معقول فيلم السرعة و الغضب  اللي أنتِ و طه دخلتونا فيه ده. 

نظر لها أمير مبتسمًا و أفسح لها مجال للتقدم ناحية آية تعانقها: 
حمد الله علي سلامتك يا حبيبتي، عاملة اي دلوقت؟ 

ابتسمت باصطناع: 
كويسة يا شهد. 

اقترب منها البقية من أهل زوجها للأطمئنان عليها، ومن ثم نظر لها والدها بجمود: 
يلا يا آية المحلول خلص، ترتاحي في البيت أفضل. 

وافقته شهد: 
عندك حق يا عمو، يلا يا أمير علشان نوصلهم. 

ولكن قول فاروق الصارم اوقفها: 
آية هتروح معايا بيتي. 

نظرت له والدة طه بتعجب: 
إيه الكلام ده، ما تقول حاجة يا عبد اللطيف! 

نظر عبد اللطيف لابنه وسأل: 
أنت مزعل مراتك ولا إيه يا طه؟ 

أجاب أمير عن صمت صاحبه: 
ربنا مايجيب زعل يا عمي…

قاطعه فاروق منزعجًا: 
وبعدين معاك يا أمير هو أنت المتحدث الرسمي بتاعه ولا إيه، أسكت أنت خالص. 

ادي أمير التحية العسكرية قائلًا: 
تمام يا افندم. 

ابتسم الجميع علي حركته، و أكملت شهد ملطفة وهي تغمز لزوجها: 
بقولكم اي إحنا نطلع كلنا منها ونسيبهم هما يتصافوا سوا، انتم قاعدين كاتمين انفاسهم وهما ممكن يحلوا مشكلتهم بكلمتين و شكرًا، يلا نروح نشرب أي حاجة في الكافتيريا تحت و نرجع لهم. 

وافق والديها و جذبت هي والد آية من يده للخارج بلطف فلم يملك شيئًا للرفض، أغلق الباب و مرت دقيقة كاملة أرتفع فيها صوت الصمت بينهما حيث رقص في زاوية الغرفة أمامهم، نهض من كرسيه وجلس فوق طرف الفراش دون حديث، و لم تتفوه هي سوي بـ: 
كل مرة بقول خلاص بقينا قريبين من بعض، ومفيش حواجز بيننا، بتعمل حاجة تكشفلي قد إيه إحنا بعيد أوي عن بعض.

راقبت تعابيره دون النظر لعيناه، تعلم تمام العلم بأنها لو نظرت داخلها فلن تتمكن من الحديث، لن تستطيع معاتبته، ولاحظ هو هذا، أدرك هروبها، حرك يده لتصافح وجهها و أدار رأسها لتتقابل عينيهما، عتاب صامت و ألم، قابله بقصائد اعتذار مطولة و رجاء بأن تصفح عنه، أن تقترب و تسمح له أن يصلح ما أقترفه من خطأ، الألم بعيناه يخبرها بما كان يعانيه في الساعات الماضية، و كأن صدمته تعود للحياة بعدما انتهت، لذا قرر قلبها أن يضع العتاب جانبًا بشكل مؤقت، أن تحتضنه حتي يسكن و بالفعل فردت ذراعيها تجذبه نحوها برقة، و أنصاع هو  كـ صغير وبخه استاذه و عاد لوالدته يشكو إليها، اتخذت رأسه موضعها المعتاد فوق كتفها، فأغمض عيناه متنهدًا براحة، شدد من عناقه لها و كأنها ستفر من بين يديها، بينما ربتت بيدها فوق ظهره مرارًا و تكرارًا و كأنها تزيل ما علق به من ألام
فقد يحدث أن تواجه الحياة مواجهة فارس شجاع، و لكن لابد لك في النهاية من ركن دافيء تطمئن به و تأمن فيه، أن تُرخي سدولك جانبًا و تعانق الهدوء. 

لا يعلم أي منهما كم مر من الوقت، فقط هي تربت فوق ظهره حتي شعرت بدموع تسقط منه و تبلل كتفها، تعلمه لا يحب أن يراه أحدًا ضعيفًا، و إن كان يظهره لها فهو لن يقبل أن تنظر لهذا الضعف وجهًا لوجه، علي الأقل في الوقت الراهن، تركت له المساحة الكاملة، ذهابه لذلك المعالج النفسي ساعده كثيرًا، و الدليل الأكبر هو حالته الأن، إن جاء احد في بداية زواجهما و اخبرها بأنهما سيعيشان هذه اللحظة في يوم من الأيام ما كانت لتصدقه مطلقًا
ولكن هذا الرجل يدهشها كل يوم، دهشة تدغدغ قلبها، شعورٌ رائع بالتميز يغمرها، فهذا الرجل اليافع يُحبها، لا يعلم عن جانبه هذا سواها، لا يتعامل بطبيعته سوي معها، يخشاه الجميع بينما يمكنها هي الغضب في وجهه و مناطحته في الحديث، يتودد إليها في حزنها، يتحايل علي أفعاله التي تُثير حنقها حتي تصفح عنه، يُقدرُها و يعطي اهتمامًا لمشاعرها فيضعها في أولوياته، كيف لها ألا تحبه، بل كيف لها أن تفترق عنه كما يقول و يرمي والدها بحديثه؟ 
وعلي ذكر والدها همست وهي ترفع يدها لتتغلغل أصابعها في شعره: 
طه لو سمحت بلاش مناهدة مع بابا، أنت عارف إنه تعبان و العصبية دي غلط علي صحته. 

تنهد وهو يرجع رأسه لتكون في مقابل وجهها وقال ببراءة مصطنعة: 
علي فكرة أنا متكلمتش غير كلمة ونص، والدك هو اللي سايق فيا بكلامه و أنا علشان خاطرك أنتِ ساكت. 

رفعت حاجبها بتعجب و قالت: 
طه أنت صمتك مستفز أكتر من ردك، فلو سمحت ترد عليه، بابا بيكره الحركة دي كره العمي، فـ بلاش الطريقة دي، و بلاش تزعل بابا و تخسره علشان إحنا الاتنين وجهين لعملة واحدة. 

ابتعد عنها و قد اسند ذراعه جوارها فوق الفراش، رفع حاجبها متسائلًا: 
و ده معناه إيه بقي إن شاء الله؟ 

هزت كتفيها بلامبالاة قائلة: 
معناه اللي وصلك. 

تبدلت نبرتها للجدية وهي تمسك كفه: 
طه ياريت تقدر إن أنا البنت الوحيدة لبابا، فـ لو خوف الأب علي ولاده في العادي قيراط فـ بابا بيخاف عليا الـ 24، ومش بيستحمل عليا الهوا، أنا لحد دلوقتي مجبتش ليه سيرة عن الفترة اللي كنت طالبة فيها الطلاق، لإني عارفة أنه كان هيتصرف بشكل قطعي وينهي الموضوع في وقته، علشان خاطري متزعلهوش منك وتبوظ علاقتكم ببعض! 

تنهد وهو يربت فوق كفها و هز رأسه موافقًا، وقبل أن تضيف قول جديد، عاد والدها من الخارج وقال بجمود: 
مش يلا بينا يا آية ولا إيه؟ 

هتفت مهاودة له برجاء: 
بابا لو سمحت، الكلام …

قاطعها من جديد بقوله: 
يلا بينا يا آية. 

قبل ان ترد، عاد البقية من الخارج، نظر طه لوالده ليتدخل، فهم الأخر بقول: 
يا فاروق مش كده، أنا مقدر إحساسك بس الولاد مش عايزين يسيبوا بعض، آية مش هتسيب جوزها وهو خارج من حادثة صعبة زي دي ولسه مبقاش في كامل صحته، ولا طه عايز مراته تبعد عنه بأي شكل من الأشكال، خليهم…

ولكن لا فائدة قاطعه من جديد بحزم: 
علي رأسي من فوق كل الكلام ده، بس أنا حالف يمين و مش هنزله لو إيه يجري. 

تدخل أمير ملاطفًا: 
مش مشكلة يا عمي نخلي طه يطلع كفارة ليك. 

اجابه بهدوء: 
مش هكرر كلامي تاني علي فكرة…

لاحظت شهد ثورة أخيها من نظرات عيناه و قبضة يده المنكمشة بقوة فسارعت تقترح: 
خلاص يا اونكل آية هتروح مع حضرتك و طه كمان يروح معاها، هي اكيد اعصابها تعبانة ومش هتقدر تعمل اي حاجة ليهم، ولا حتي طه، يبقي الحل الأنسب فعلًا يروحوا معاك. 

وافقها أمير و قال مسرعًا لإنهاء هذا الجدال: 
فكرة هايلة، يلا يا طه هات آية و هستناك أنا وشهد في عربيتي، و حمايا وحماتي يروحوا علي البيت وعمي قدامنا بعربيته. 

لم يتحرك سوي شهد و أمير لتنفيذ ما قالاه بينما نظر فاروق في أثرهما بتعجب و سأل: 
هما الاتنين دول علطول كده واخدينها جري. 

ابتسمت والدة طه و هي تجيبه: 
وليه متقولش إنهم بياخدوا الأمور ببساطة علشان الدنيا مش مستاهلة. 

رد بهدوء و رزانة: 
مش كل حاجة ينفع ناخدها ببساطة، في حاجات لازم ليها وقفة. 

اقتربت من فراش آية تودعها وجادلته: 
ده من وجهة نظر حضرتك بس، هنمشي إحنا و بالليل هنعدي نطمئن عليكي وعلي طه يا حبيبتي، خلو بالكم من بعض. 

رحلت برفقة زوجها بينما تبادل ثلاثتهم النظرات في صمت حتي قال والدها مغلوبًا علي أمره: 
يلا كفاية كده، هسبقكم و أنتم تعالوا مع أمير. 

صفت سيارة أمير أمام منزل والد آية دلف منها طه الذي ساعد آية للخروج و هم بالدخول برفقتها ولكن أوقفه نداء أمير فعاد إليه، اخفض رأسه للنافذة يستمع نصيحته: 
مشي أمورك مع سيادة اللواء، ولما دنيتك تتظبط بالليل رنلي علشان في كلام كتير لازم تعرفه. 
هز رأسه موافقًا و ابتعد عن السيارة ليسمح له بالتحرك
بينما خلفه استغلت آية ابتعاده و تمسكت بذراع والدها تطلب منه برفق: 
بابا لو سمحت بلاش تقول لماما حاجة بما إنها لسه معرفتش، مش عايزاها تقلق. 

هز رأسه بضيق وقال متفحصًا: 
مش عايزاها تقلق، و لا مش عايزاها تقلب علي طه أفندي؟ 

نظرت له برجاء: 
حبيبي أنا مقدرة خوفك عليا، بس قدر كمان إن طه خارج من حادثة كبيرة و لسه مبقاش كويس كفاية علشان نفضل نجادل معاه كل شوية، طه من وقت ما فاق مش بينام ساعتين علي بعض من  الصداع اللي شبه مش بيروح بسبب خبطة دماغه، فـ علشان خاطري كفاية عليه اللي عملته و قولته في المستشفي. 

جاء في هذه اللحظة طه الذي أحاط كتفيها بذراعه الأيمن وقال برفق: 
يلا ندخل ولا إيه؟ 

هزت رأسها موافقة وتقدم ثلاثتهم للداخل، جاءت والدتها من الداخل بترحاب شديد و تلقفت كل منهما بين ذراعيها تطمئن عليهما، حتي انتهي بهما الأمر في غرفة آية بعد تناول العشاء مع عائلتها، انتهي طه من تبديل ثيابه بأخري بيتيه مريحه اقترضها من والد زوجته، توجه نحو الفراش بجوارها، وجلس مسندًا ظهره فوق ظهره ونظر لها بابتسامة طفيفة، بادلته النظرة ذاتها دون اي ردة فعل حتي قبضت فوق كفه وقالت برقة: 
قول اللي عايز تقوله يا طه، مستني أي، أنا جنبك، و سمعاك، اتكلم. 

اعتدل في جلسته ليواجهها و فعلت هي بالمثل، ليبداء : 
أنتِ مش ممكن تتخيلي غلاوتك في قلبي زادت قد إيه لما أجلتي أي عتاب ممكن يتقال و  حضنتيني وبس، أنا في حياتي محدش فهمني قدك يا آية. 

تنهد بثقل وشرع في سرد تفاصيل ما دار بينه هو و أمير من اتفاق: 
فاكرة الورد اللي جالي في المستشفى، كان مبعوت من اللي دبروا ليا الحادثة، و فيها تهديد مبطن إنهم هيأذوكِي، كلمت أمير اللي عرفني إن الحادثة فعلا بفعل فاعل و اقترح فكرة إنك تخرجي من المستشفى وحدك علشان يظهروا و نشوف هيعملوا أي و وقتها يتقبض عليهم متلبسين ونعرف مين اللي عايز ينتقم مني، أنا رفضت طبعًا زي ما شوفتينا واحنا في المستشفي. 

بسط كفه أمامها ونظر لعينيها، ابصر قلبها لطلبه فسبح كفها بمحيط كفه بطمأنينة، أغلق عليه بقوة و أكمل بهدوء: 
يوم ما اخدتك من والدك اخدت عهد علي نفسي إني أحميكِ بروحي مهما يحصل، موافقتي علي اللي حصل ده كله كانت علشان حياتنا الجاية كلها، علشان أحسن بإني متطمن عليكي ولو شوية، لحظة ما اتحركت العربية بيكِي من قدام المستشفي فـ أنا كنت في لحظتها وراكي، ده اللي عايزك تتأكدي منه، أنتِ مصدقة كلامي ده صح، أنتِ عارفة إنك لو طلبتي مني عمري دلوقتي هقدمهولك و أنا راضي؟ 
  
ابتسمت وهزت رأسها بتأكيد، رفعت كفها الأخر لتضعه فوق صدره وقالت: 
عارفة و متأكدة، علشان واثقة إني موجودة هنا، وليا مكان كبير فيه. 

امسك كفها ومال يقبله و أكد: 
القلب و مفاتيحه كلهم بتوعك يا آية. 

ابتسمت وسألت بهدوء: 
طيب مين الناس دول يا طه، أنت شاكك في حد معين؟ 

هز رأسه موافقًا: 
بنسبة كبيرة أيوة شاكك، بس لسه التحريات شغالة. 

ارجع جسدها للوراء حتي استقر ظهرها فوق الفراش، جذب الغطاء الخفيف فوقها وسط استسلامها التام و ابتسامتها المتعجبة، قال بهدوء: 
اليوم النهاردة كان طويل وصعب، ارتاحي شوية علشان نهرب بدري قبل ما ابوكي يصحي. 

اختتم جملته الأخيرة بغمزة من عينيه، فضحكت بقوة غير مصدقة ما جعله يسرع بغلق فمها برفق و همس محذرًا: 
هشش بدل ما يسمعك ويجي يقولي أنت طابق أنفاسها كده ليه، البنت تعبانة. 

هزت رأسها موافقة وهي تنظر له ببراءة وعينيها تصرخ ضاحكة  علي تصرفاته، ما كاد ينهض من جانبها فـ امسكت به تسأل: 
رايح فين، مش هتنام، علي فكرة أنت كمان تعبان أكتر مني. 

قال موافقًا: 
تليفون مهم لازم أعمله وراجعلك أرتاحي. 
★***★***★***★***★***★***★***★***★***★

_قولي وصلت لإيه و العيال اللي اتمسكوا اعترفوا ولا لسه؟ 
كان هذا سؤاله الذي ألقاه علي مسامع أمير عبر الهاتف، و اجابه الأخر: 
في واحد بس اللي اعترف وقال إن اللي وزهم علي كده يبقي رجب الباشا، أخو جابر الباشا بتاع قضية البحر الأحمر. 

ضرب بقبضته السور أمامه بغضب و زمجر: 
زي ما توقعت ولاد الـ****، العيال دول يتحولوا للنيابة بأسرع وقت قبل ما الزفت ده يشم خبر إن حد منهم اعترف، و أنا هعرف أوريه إزاي يهددني كويس. 

حذره الأخر بحكمة: 
طه بلاش تهور وكله هيمشي قانوني بلاش تخليه يمسك عليك غلطة أو يأذيك تاني. 

هز رأسه مهاودًا وقال: 
متقلقش هتعدي، لو في أي جديد كلمني علطول، إحتمال الصبح نرجع البيت و نتقابل في مكتبي نشوف هنعمل أي. 

سأله ممازحًا
: و الحكومة عندك علي علم بالموضوع ده؟ 

تنهد بكلل وهو يمرر لسانه فوق شفته السفلية وقال: 
لا، ده غير إنها احتمال تعملي قضية لما تعرف، بس هتصرف، يلا سلام. 
★***★***★***★***★***★***★***★***★***★

عاد للداخل و تقدم نحو الفراش يبسط جسده فوقه بهدوء حتي لا يوقظها، استند علي جانبه ليطالعها وحدثته نفسه متسائلة بحزن: 
ياتري الدنيا مش عايزة تصفي لينا سوا ليه، معقول ممكن تتأذي بسبب شغلي أنتِ كمان؟ ولا ده عقاب من ربنا علشان أنا مكنتش مقدر نعمة وجودك؟ 

وعند سؤاله الأخير أخذه سلطان النوم لعالم اخر، ما انقلب الليل لنهار إلا وكان كليهما علي اهبة الاستعداد للمغادرة كانت تتحرك بخفة بالغرفة تلملم متعلقاتها الشخصية وهي تنظر له خفية وهو يلف ساعته حول معصمه و سط انعقاد حاجبيه وكأنه يتشاجر مع الأفكار بعقله، وقفت أمامه ودفعته للخلف قليلًا بمشاكسة لتتأكد من سلامة حجابها و ثيابها،بينما نظر هو لها في المرأة رافعًا حاجبه الأيسر فقالت مبررة:
أعملك إيه بقالك ساعة واقف و أنا عايزة أشوف الطرحة مظبوطة ولا لاء.
نظر لساعته و قال بهدوء وهو يتوجه للباب:
طب يلا قبل ما حد يصحي مش ناقصة عطلة علي الصبح.
جذبت حقيبتها ولحقت به، أغلق الباب خلفها دون إحداث صوت ومن باب غرفتها لباب سيارة الأجرة التي طلبها استقر كليهما وتحركت السيارة نحو العنوان المنشود نظرت له بحماس وقالت وكأنها فتاة مراهقة هربت من البيت خلسة مع حبيبها: 
يا ربي مش مصدقة إننا خلعنا منغير ما نتمسك. 

نمت بسمة ثقيلة فوق ملامحه وقال: 
أدفع نص عمري و أشوف ردة فعل أبوكِ لما يصحي. 
نكزته بخفة: 
قولتلك متحطش بابا في دماغك علشان هزعلك مني. 
لم يجبها وبقي علي صمته حتي صف السائق سيارته أمام مدخل البناية، هبط كليهما بعدما ناول السائق نقوده وشكره، انفرج باب المصعد في طابق شقتهما، اشار لها بالخروج فتقدمت أمامه و وقفت امام الباب اعطته مفاتيحها و سمحت له بفتح الباب وسبقته بالدخول تفعل كما اعتادت تفتح النوافذ و تشغل المذياع، اقتربت منه تسأله: 
جعان، هعملنا فطار سريع…
ولكنها سرعان ما ضربت رأسها بتذكر: 
مش عارفة في حاجة تتاكل ولا لاء، من وقت الحادثة مدخلتش هنا. 
ربت فوق كتفها وقال برفق: 
شهد و أمير جابوا حاجات امبارح و سابوها جوا هتلاقي كل اللي تحتاجيه، بس أنا مش جعان متتعبيش نفسك تعالي ننام ساعتين كمان علشان أنا تعبان. 

أنهي جملته وسبقها للداخل ليبدل ثيابه، مررت سبابتها فوق شفتيها بتفكير، وقالت: 
مش جعان ودي ممكن نعديها، لكن عايز تنام ساعتين و أنت قايل 15 ألف مرة إنك مش بتنام بالنهار كده يبقي في حاجة. 

تقدمت خلفه، مر نصف ساعة انتهي فيه من أخذ حمام دافئ وتبديل ثيابه وفعلت هي المثل وتدثرت بالفراش وهي تنظر له ينهي تمشيط شعره ابتسمت بسعادة وقالت: 
مش معقول إن مجرد اللحظات دي تكون نعمة مش حاسين بيها، و جودنا اصلا في البيت و إحنا بنعمل أي حاجة روتينية ده في حد ذاته نعمة كبيرة أوي، النوم في سريري و هدوم البيت دي، سبحان الله كنت بشوفها عادي وحق مكتسب، بس طلع إنها ممكن تتسلب مننا في ثانية، الحمد لله علي كل النعم البسيطة دي اللي مش بنحس بقيمتها غير كل فين وفين. 

ألقي فرشاة الشعر و اقترب منها ما إن رأته يأتي نحو جهة نومها فأعتدلت قليلًا، جلس قبالتها وقال: 
أنا برضو مكنتش حاسس بقيمة نعمة وجودك وكنت شايف إنه حق مكتسب لحد ما في لحظة لقيتك طالبة الطلاق، مش عارف اشوفك بعد ما كنتي بداية يومي ونهايته، و مبقتش عارف اقعد. معاكي ولا اسمع كلامك العشوائي الكتير ومواضيعك المتعددة، كل دي حاجات كنت بشوفها عادي، بل في الأول كنت مجبر عليها، كنت غبي لدرجة متتوصفش يعني. 
انهي قوله ببسمة ساخرة وهو يحك مؤخرة عنقه، قالت وهي تنظر له مبتسمة: 
و أنا كفاية يعوضني عن كل اللي فات نظرتك للأمور اللي اتغيرت وبقيت شايف وجودي نعمة بدل ما يكون نقمة. 
افسحت له المجال ليشاركها الفراش، مد ذراعه ليكون وسادتها وجذبها نحوه برفق حتي توسطت قلبه ويديه، نظر بعينيها الساحرة تحت إضاءة الغرفة المظلمة إلا من أشعة الشمس التي تسللت من خلف الستائر، طبع قبلة فوق جبينها وقال بصدق: 
أنتِ أكبر نعمة في حياتي. 

ابتسمت وهي تغمض عينيها و شعور عجيب بالطمأنينة غمرها كليًا لتلصق جسدها بقربه أكثر تتأكد من وجوده، نصف ساعة مرت في هدوء حتي شعرت به يسحب نفسه من جوارها بمهارة حتي لا تشعر حيث ظنها غافية ولكن خاب ظنه وهي تسأله بتقرير: 
رايح فين يا طه؟ 
برقت عيناه وبانت صدمته ولم يحاول إخفائها في سؤال: 
أنتِ لسه صاحية بجد، كده أنتِ عايزة النهار بطوله؟! 

ضحكت وهي تقترب منه المسافة التي ابتعدها، وقالت: 
أنت فاكرني ست مغفلة ولا إيه، خليك صريح وتعالي دوغري وقولي رايح فين. 

ارجع كتفيها للخلف وقال بضحكة خفيفة: 
اللي بنعمله في الناس هيطلع علينا ولا إيه؟ 

قهقهت هي بالمثل، حتي قرر هو القول: 
نازل الشغل. 

انتظرت منه البقية ولكنه صمت فسألت: 
و وبس…نازل الشغل وبس؟ هو ده اللي مفيش شغل اسبوعين تلاتة؟

حاورها برفق: 
أكيد يا حبيبتي الاجازة مش قبل ما القضية دي تتقفل و اللي عمل كده يتحاسب، المفروض كنت هوصلك و امشي علطول بس مكنتش عايزك تزعلي فطلعت معاكي، بس راح عن بالي الحس الأمني اللي عندك. 

ضحكت وهي تبتعد عن الفراش و أخبرته بذلة لسانه: 
علشان يا حضرة الظابط مينفعش تكون مأكد ليا معلومة إنك مش بتعرف تنام الصبح، و تقولي يلا ننام، اعقلوا الكلمة.

هز رأسه بإقتناع وهو يخرج ثوبه يضعه فوق الفراش وقد شرع في إرتدائه وقال ممازحًا: 
القضية الجاية لازم تبقي معايا. 
★***★***★***★***★***★***★***★***★***★

فاقت من ذكرياتها حينما شعرت به يجلس خلفها و يحيطها بذراعيه وقد أسند رأسه فوق كتفها، ابتسمت له ولملامحه الناعسة، سأل بنبرة يغلفها النوم: 
أي اللي قومك من جنبي بدري كده؟ 

ابتسمت بحزن مصطنع: 
عادي، افتكرت إننا خلاص راجعين بالليل فقولت أشبع شوية من البحر. 

اصدر صوتًا بالنفي وهو يديرها قليلًا نحوه: 
تؤ، المفروض تشبعي مني مش من البحر علي فكرة. 

ضحكت بخفة وهي تنصب طولها وتجذب ذراعه ليفعل المثل وقالت: 
بس أنا مش هشبع منك ولو بعد ١٠٠ سنة، تعال نتمشي شوية. 

ولكنه لم يتزحزح وقال بنبرة مُغوية: 
طب ما تيجي نرجع الشالية؟ 

هربت من بين يديه قبل أنا يقبض عليها وركضت مبتعدة لمسافة قصيرة تشاكسه: 
أنا غيرت رأيي علي فكرة وشبعت منك، حاليًا عايزة أشبع من البحر. 

اغدقت ساقيها بالمياة وهي تسير بمفردها بينما وقف هو بالخلف مغتاظًا حتي تقدم منها وحملها وسار بها داخل المياة أكثر فأكثر وسط صخب ضحكها وتحذيراتها الواهية، ولكنه لم يستمع لها وقال بصوت مرتفع: 
أنا هخليكِ تشبعي من البحر ومية البحر يا حبيبة قلبي. 

أنهي جملته و مد ذراعيه ملقيًا إياها بقوة، فجذبتها المياة لأسفل لثوانٍ حتي اخرجت رأسها تتخذ أنفاسها وسط صدمتها من فعلته هذه، دفعت بيدها فوق المياه بقوة لتصيبه وسط قولها المتذمر: 
أنت أي هزار العساكر بتاعك ده بجد، مخوفتش اغرق ولا الموج يسحبني لبعيد؟! 

لم يفعل شيء ردًا علي فعلها ولكنه قفز مقتربًا منها، لم تسمح له بالدنو منها حيث أخذت تدفعه وتضرب بيديها المياة تعيق أقترابه حتي قرر أن يجذبها من قدميها لتخمد. ثورتها ولكن حركاتها العشوائية جعلتها تلطم وجهه بقدمها، شهقت ما أن ادركت فعلتها وسارعت بالسباحة مبتعدة عنه تعود. للشاطيء وصوت ضحكها يجلجل في الأرجاء وهي تستلقي فوق الرمال حتي خرج هو وعلي وجهه علامات الغضب الدفين، ما زاد من ضحكها وهي تراه يستلقي مثلها متمتمًا بتذمر وما لبث أن اعتدل وقال: 
عارفة لو حد غيرك عمل كده؟ مكنتش سيبته يخرج من المية غير غرقان. 

اعتدلت تنفض حبات الرمل عن شعرها وعن كتفيه وهي تخبره بأدب: 
حقك علي عيني يا حبيبي، و الله مكنش قصدي، وبعدين اعتبرها رد علي رميك ليا يبقي كده واحدة بواحدة و خالصين. 

زاد الغضب في عينيه فنهضت من أمامه تهرول للداخل: 
تصدق أنا غلطانة، قوم نرجع دلوقتي لحسن أنا خلاص كده مش قادرة. 

انبثقت ابتسامة شقية من جانب فمه وقد نال ما أراده وهو أن تعود للداخل بإرادتها فنهض ينفض عنه بعض الرمال و أسرع خلفها هامسًا بتسلية: 
استعنا علي الشقي بالله. 

★***★***★***★***★***★***★***★***★***★
بعد مرور عامين

خرج كليهما من عيادة الطبيبة النسائية و الشرر يتطاير من عينيه والغضب يقفز من حركاتها وملامح وجهه المكفهرة حتي دلفا للسيارة في صمت لم يخلو من صوت غضبه وصدمتها، نظرت له تحاول الإقتناع بأن غضبه ليس سوي من كون حملها جاء بوقت غير مناسب ليس إلا و ألا يكون لا يريد الإنجاب منـ…
قاطع أفكارها سؤالها الغير مصدق بصوت هز السيارة: 
أنا عايز افهم إزاي ده حصل، إحنا متفقناش علي كده يا آية! 

ودت لو تبكي بصوت مرتفع، أن تصرخ بوجهه، أنا تتركه وتعود للبيت بمفردها ولكنها أثرت أن تتمسك هي بلجام العقل، أن تفعل كما اعتادت معه، تبتلع غضبه بتريث، حتي يهدأ ويعود. معتذرًا عما فعله، امسكت كفه برفق وقالت: 
حبيبي إرادة ربنا فوق كل شيء مهما عملنا اللي ربنا رايده هيكون، وبعدين ده رزق من ربنا لينا نرفضه ونقول مش عايزينه؟! 

قال وهو يجز فوق اسنانه: 
متدخليش من الحتة دي علشان مش هتجيب نتيجة، أه ربنا قادر علي كل شيء بس في أسباب زي إن سيادتك مخدتيش الحبوب سواء بقي قاصدة أو ناسية.

جادلته برفق: 
ولنفترض ده حصل، هنعمل أي يعني؟ ده أمر واقع ولازم نقبله، قول الحمد لله. 

حك رأسه بغضب وعض شفته السفلية: 
و ناسية إن الواقع و القواقع بتاعتك إن في اتنين في البيت مكملوش السنة لسه؟ واخدة بالك إن أنتِ اصلا جسمك لسه مأخدش هدنة من الحمل و الولادة و الرضاعة بتاعت الولدين؟ أنتِ إزاي تهملي حاجة زي دي يا آية، فهميني إزاي؟ 

اعتدلت في كرسيها تنظر أمامها ولم تقل سوي: 
أنا تعبانة ومش قادرة أتكلم فلو سمحت أجل أي كلام لبعدين و روحني. 

ضرب المقود بيديه يفرغ غضبه وأدار محرك السيارة عائدًا للمنزل، كان ينظر لها بين الدقيقة و الأخري يلمح دموعها التي تجففها سرًا كي لا يري، لكن قلبه يشعر بها وبحزنها، توقفت السيارة اسفل البناية وقبل أن يتفوه بأي شيء أسرعت تدلف منها و تتقدم نحو المدخل مسرعة، لحق بها بعد قليل من الوقت استعاد فيه هدوءه الهارب منه، اغلق باب الشقة خلفه متعجبًا من الهدوء حوله و نظافة المكان أيضًا، ترك مفاتيحه فوق المنضدة و توجه نحو غرفة أبنائه فوجدها تجاورهما الفراش تمسح فوق رأس أحدهما وتقبل وجنة الأخر و تقاوم بكائها من جديد، أشار لها لتلحق به بالخارج، وقف أمام الباب ينتظرها حتي خرجت و أغلقت الباب خلفها، قبل أن ينطق أي منهما جائت السيدة التي تساعدها في أعمال البيت من المطبخ وهي تجفف يديها وقالت: 
آية يا حبيبتي، أنا خلصت كل حاجة خلاص، احضرلكم حاجة خفيفة تتعشوا؟ 

حادت ببصرها نحوه تسأل بعينيها فأشار لها بالرفض: 
لا يا أم بلال متتعبيش نفسك، أنا كلمت السواق وهو زمانه جاي علشان تروحي، وبكرة بإذن الله خديه أجازة علشان ولادك اللي جايين من السفر.

ولكن المرأة رفضت:
و أسيبك مع القرود الصغننين دول وحدك لا مقدرش، ولادي قاعدين يومين تلاتة مش هيحصل حاجة لو جيت بكرة ساعتين حتي.

اجابتها:
يا حبيبتي مالوش لازمة تتعبي نفسك، أنا هتصرف متقلقيش هو أنا ورايا غيرهم.
استمر الجدال بينهما حتي وصل السائق و رحلت برفقته بعدما انتصرت آية،دلفت للغرفة فوجدته لازال ينتظرها وكأنه يصر علي إكمال الحديث الذي قطعته هي،قالت وهي تتوجه للحمام:
لو سمحت يا طه خلينا نتكلم الصبح أنا مش قادرة والله
ولكنه عاق تقدمها بوقوفه أمامها وقوله بندم:
أنا أسف.
عادت الدموع لعينيها وعاد صوت صراخه عليها يتردد بأذنيها،و أمام حالتها هذه احتضنها ليجدها وقد استسلمت للبكاء وعاتبته بقولها:
متأخر أوي الحضن ده يا طه،كنت مستنياه من وقت ما كنا في العيادة،مكنتش متخيلة إنك هتقسي عليا كده.

مرر كفه فوق رأسها برفق:
حقك عليا والله،مش هتتكرر تاني، أنا أسف، بس مكنش مسيطر عليا غير إحساسي بالصدمة. 

لم تنتبه لما يقول اكتفت بالانخراط في نوبة بكائها دون توقف، ولم يقاطعها هو، بل جذبها لتجلس فوق الأريكة وجلس هو الأخر وجذب رأسها لتستقر فوق كتفه وأحاط كتفها بذراعه،قالت من بين دموعها:
أنت متخيل إني عملت ده عن قصد وجايب اللوم كله عليا، هو الحمل ده بإيدي وحدي يعني؟

ابتسم بخفة وهو يحك أنفه برفق، بينما اكملت وهي تحاول إخماد شهقاتها: 
وبعدين أنا باخد الحبوب بإنتظام علي فكرة، وعارفة إن الولاد لسه في مرحلة صعب اتشغل عنهم بحاجة تانية، و إن الحمل هيكون صعب عليا، و إني كمان ممكن اضطر افطمهم بدري، بس لازم تعرف كمان إن أنا معملتش ده قصد، أنا اصلا كنت بفكر إن كفاية اتنين ومنخلفش تاني، وبعد ردة فعلك دي فـ أتأكد فعلا مش هكررها تاني وكفاية لحد كده.

رد مستنكرًا قولها الأخير:
هو إيه ده اللي كفاية لحد كده،أنا عايزة نخلف تاني وتالت وعاشر، بس بالدعقل، زي ما عايز ولاد كتير فـ أنا مش مستغني عنك وتهمني صحتك قبل أي حاجة تاني،وعصبيتي كانت علشان كده قبل أي حاجة تانية، خايف تتعبي او تحصلك مضاعفات مع الوقت، لكن أنا بحبك يا آية، و يابختي إن ولادي أنتِ أمهم. 

رفعت رأسها تسأله وهي تمسح دمعاتها: 
بجد؟ يعني أنت مش ندمان؟ أو بتفكر ننزل البيبي؟ 

رفع حاجبه بغيظ: 
مش هرد عليكي والله، ربنا يشفيكي. 

سألت مجددًا بنبرة تهدد بنوبة بكاء جديدة: 
يا طه بجد أنت مش زعلان طيب، أو…

قاطعها بصدق وهو يحيط وجهها بكفيه: 
والله لا، ليه بتقولي كده، ما أنا فهمتك سبب عصبيتي ووضحت لك الأمور. 

هزت رأسها بإطمئنان ونظرت له ببرأءة: 
تفتكر هيطلع ولد ولا بنت؟ 
رفع كتفيه بحيرة: 
مش عارف بس أنا نفسي تكون بنت، وتبقي شبهك في كل حاجة، هادية و عاقلة، وبتخطف قلبي بكلامها وضحكتها. 

ولكنها خالفته الرأي: 
بس أنا نفسي يطلع ولد. 

نهض يفك أزرار قميصه وعارضها: 
ده علي أساس إن ريان و حسن دول قرود ولا أي؟ 

تقدمت منه وقالت: 
لا بس لو بنت فـ فرق السن بينهم هيكون صغير، و أنا مش عايزة كده؟ 

اغلق ضلفة الدولاب بعدما إرتدي ثيابه و استدار لها: 
أشمعنا يعني؟ 

قالت ببساطة وهي تنهي تبديل ثيابها هي الأخري: 
علشان لما البنت بتكون أصغرهم والفرق بينهم كبير بتبقي دلوعة أخواتها، و بيدوها حب اكتر بكتير من لما تبقي قريبة منهم لأن شعورها هي بالمسؤولية تجاههم بيكون أكبر بكتير. 

ابتسم: 
وجهة نظر تحترم وكل حاجة، بس ابوها موجود وفي كل الأحوال هديها كل الحب اللي ممكن تحتاجه، فـ متقلقيش. 

جلست فوق الفراش وقالت معترضة: 
والله، ولما تدي الهانم كل الحب، أنا مين يحبني و يهتم بيا؟! 

جلس في الجانب الأخر وقال ببساطة: 
هحبكم سوا، متقلقيش. 

ولكنها رفضت: 
لا أنا مش موافقة وخد بالك أنا غيرتي وحشة! 

اقترب منها وهو يجذبها إليه لتستند فوق صدره وسأل مهاودًا لتقلباتها المزاجية:  
يعني عايزاني أعمل أي؟ 

لانت نبرتها لقربه المحبب وقالت: 
حبني وحدي، ومحدش غيري يكون ليه مكان في قلبك

نظر لعينيها بتأكيد: 
طب ومين قال إن في غيرك في قلبي يا يويو؟! 

و أعلم يا عزيز فؤادي بأنه و إن كان في الحياة متسع للأعتراف بالحب في كل دقيقة لما توقفت عن فعلها حتي الدقيقة الأخيرة من عمري

★***★***★***★***★***★***★***★***★***★
في الصباح الباكر استيقظ علي كف صغير"حسن" يصفعه علي وجهه بقوة، اعتدل في نومته ليواجهه وقال بابتسامة واسعة: 
طيب يا ابن الناس يا متربي خلاص صحيت، أمك فين؟ 
نهض وحمله بين ذراعيه يتبع ضوضاء صغيره الثاني"ريان" الذي لا يكف عن البكاء وصياح زوجته الدائم منه، ما أن رأته جلست فوق كرسيها بإرهاق وقالت: 
طه بجد تعالي شوف ابنك من وقت ما صحي مش مبطل زن تعب أعصابي والله. 

اجلس حسن في مقعده وحمل المشاغب الأخر وتوجه للحوض يغسل له وجهه و كفيه من بقايا الطعام التي لطخ بها نفسه، جذب منديلًا يجفف به بقايا المياة وهو يداعبه فـ ضحك له الصغير، ما أثار تعجبها وهي تتحدث بتبرم: 
طلع عين أهلي من الصبح ودلوقتي بيضحك لأبوه، أنا الواد ده مش ابني، أنا خلفت رينو وبس. 
وضعه في كرسيه ومال إليها يقبل رأسها: 
صباح الورد، علي القمر الغضبان. 
ابتسمت له بحنان وقالت: 
صباح الخير يا حبيبي، اقعد افطر ودقيقتين و القهوة هتكون جاهزة. 

جلس اربعتهم لتناول الفطور وسط ضحك الطفلين و حديثهما الصباحي المعتاد، كان يطالع ثلاثتهم بعين تفيض بالمحبة و أخري تفيض بالشكر و العرفان لله الذي منحه فرصة أخري ليحيا هذه الحياة الدافئة، و التي لا تخلو من الشجارات و الصدامات مع زوجته، ولكن مادام الحب بينهما فالأمر ينتهي كله في ثوانٍ معدودات، تذكر يوم علم منها بخبر حملها، كان شعورًا لم يملك الجرأة حتي ليحلم به، انتقل بذاكرته ليوم الولادة، كاد أن يموت قلقًا خارج غرفة العمليات وهو ينتظر خروجهم منها بخير، لا يمكنه نسيان قول الطبيبة بأن الولادة متعسرة و أنها تحاول بذل أقصي جهدها لإنقاذ الأم وطفليها، مشهد أخر وهو يحمل الصغيران بذراعيه لأول مرة، تلك كانت من المرات القليلة التي شعر فيها بقلبه يكاد يخرج من بين ضلوعه فرحًا، عام كامل مليئ بصوت هذان الملاكان وبتصرفاتهما العجيبة، وثلاثة أعوام برفقة هذه المرأة المذهلة كلمة منها تساوي الدنيا بما فيها، و دمعة منها قادرة علي جعله يهدم هذه الدنيا وما فيها، وحدها القادرة علي إخماد غضبه، إذهاب ضيقه
كان يطالعها محدثًا نفسه "وما كنت أدري شفاءًا لـ عللِ فؤادي سوي الإرتواء من رحيق أزهارك" 
مشهد أخير مر امام عينيه، زيارة الطبيبة، حديثهما بعد مغادرة العيادة وحديثهما الأخير قبل النوم، انتفض بجلسته وهو يسند قهوته فوق الطاولة ويسألها وكأن عقله لازال غير مدرك للأمر: 
آية، أنت حامل بجد ولا أنا كنت بحلم؟ 
نظرت لهيئته و الصدمة علي ملامحه و ما لبثت أن انفجرت بالضحك ما جعله يتأكد بأنه حقيقة، تدارك صدمته ليشاركها الضحك وسط متابعة الصغيران لهما بتعجب. 

"كأن وجودك كان شفاء من كل احزاني، بقربكَ ابتسمت لي الحياة، وبجوارك اشرقت روحي، وكأن وجودك هو الملاذ الذي ارتمي فيه هربًا من كل هم، وكأنك الهواء والهوي والداء و الدواء. "

النهاية 
تمت بحمد الله

يتبع الفصل كاملا اضغط هنا ملحوظه اكتب في جوجل "رواية طائر النمنمة دليل الروايات" لكي تظهر لك كاملة 

 •تابع الفصل التالي "رواية طائر النمنمة" اضغط على اسم الرواية 

google-playkhamsatmostaqltradent