رواية عيناك لي المرسى الفصل الثامن 8 - بقلم حنين أحمد
الفصل الثامن
عيناكِ لي المرسى
(قبل عشرين عاما)
عاد إلى منزله بعد المدرسة وهو يشعر بالإرهاق.. فقد
أرهقته المباراة التي خاضها مع أصدقائه بعد المدرسة
كثيرا ولكنه كان يحتاجها لتفريغ طاقته السلبية من
المذاكرة فالمرحلة الثانوية تستنزفه كثيرا وهو كان
يحتاج بقوة للترفيه حتى يستعيد نشاطه وشغفه
بالمذاكرة.. دلف للمنزل لتنتبه عيناه إلى فتاة صغيرة
تجلس منكمشة بجوار باب المنزل وبجانبها حقيبة تبدو
أكبر منها حجما فعقد حاجبيه وقبل أن يوجّه لها كلمة
واحدة يسألها من هي وماذا تفعل بمنزله سمع صوت والدته
المرتفع بعصبية غريبة على طبعها الهادئ فترك الفتاة
دون كلمة واحدة واتجه إلى مكان الصوت ليجدها مع
خاله الوحيد.. ذلك الخال الذي لم يره منذ سنوات
عديدة ولا يعلم عنه شيئا.. همّ بالحديث ليُصدَم من صوت
والدته الذي عاد بالارتفاع مرة أخرى صارخا:
"أنا مش مصدقة اللي انت بتقوله! هتتجوز يا عصام
بالسرعة دي؟ دي مراتك مابقالهاش شهر ميتة!"
"أيوة هتجوز, حقي وهعمله مش هعمل حاجة حرام يعني"
قالها خاله بغلظة فانتفض على صوت والدته الصارخ مرة
أخرى وهي تقول:"أيوة مش حرام, لكن الحرام هو انك
تسيب بنتك عشان تتجوز, المفرض لو هتتجوز مراتك
تتقبل وجود بنتك في حياتك مش تحرمها منك وانت
عايش! ازاي يجيلك قلب أصلا تعمل كده؟ تتخلّى عن
بنتك بالبساطة دي؟!"
تأفف خاله وهو يشيح بوجهه عنها وهو يقول:
"من حق العروسة ترفض وجودها, وبعدين انا عايز أعيش
حياتي كفاية ست سنين منهم راحوا مع واحدة مريضة
اتجوزتها غصب عني بأمر من أبوكي ولا عمري حبتها..
وخلاص ما صدّقت انها ماتت عشان أعيش حياتي واتجوز
واحدة تعوضني عن السنين دي"
ردت مصدومة:"وبنتك! عادي كده تتخلّى عنها؟!"
"بقولك ايه يا مشيرة لو مش عايزة البنت قولي
ماتفضليش تلوميني وتوجعي دماغي.. انا هتجوز والبنت
مش لازماني.. لو هتخلّيها عندك ماشي لو لا هحطها في
أي ملجأ وأسافر و...."
صفعة قوية على وجنته متزامنة مع شهقة من نضال
المصدوم مما يحدث جعلته يبتلع باقي كلماته
وهو يرمق أخته بصدمة ليسمعها تقول:"انا مش مصدقة
اني بسمع الكلام ده منك.. عايز تسيب بنتك لحمك
ودمك في ملجأ يا عصام؟! لا يا عصام بيتي مفتوح للبنت
وعمري ما هتخلّى عنها زي مانت عملت.. البنت من النهاردة
بنتي وهتتربى مع عيالي اخواتها و..."
قاطعها بلهفة:"طبعا طبعا انا واثق بقلبك الكبير, وانا
هتكفل بكل مصاريفها وهبعتلك...."
قاطعته بقوة:"مش عايزة حاجة منك.. الشرط الوحيد
ليا عشان البنت تفضل معايا هو انك تطلع من حياتها
خالص.. ومن حياتي انا كمان انسى ان ليك اخت.. ولو
اني متأكدة اني مش محتاجة اقولك انسى ده, مانت
ناسيه اصلا بقالك سنين.. لكن المرة دي هقولك
انسى ان ليك بنت, جويرية من النهاردة بنتي انا, وانت مت
مع والدتها الله يرحمها ومعدش ليك وجود في حياتنا"
لم ينتظر للحظة حتى قبل أن يوافق:"وانا موافق"
قالها بلهفة قبل أن يبتسم متابعا:"انا مش عارف اشكرك
ازاي! أنا ..."
قاطعته شقيقته بصرامة:"مش عايزة شكرك, مش عايزة
غير انك تطلع من حياتنا.. ولو مت ماتبقاش تيجي
جنازتي ولو اني ماظنش انك هتهتم وتيجي اصلا"
لم ترف له جفن وهو يستمع لكلمات شقيقته التي سبّبت
الصدمة لابنها المتجمد مكانه يرمقهما بصدمة مما
يسمع.. ليغادر بعد أن تمتم بتحية لا معنى لها دون أن
يلقي بنظرة واحدة للفتاة التي انتفضت واقفة حالما
رأته متوجها لباب المنزل وهي تهتف:"بابا!"
وقفت الفتاة تنظر للباب الذي أغلقه والدها دون كلمة
واحدة بصدمة لتنتبه على يد المرأة وهي تربت على
كتفها فنظرت إليها بوجل وهي تقول لها:"عارفة أنا
مين؟"
أومأت جويرية وهي تهمس:"عمتو"
ابتسمت لها مشيرة بحب وهي تقول:"برافو عليكي"
أمسكت بكفها الصغير وهي ترافقها لداخل المنزل وتقف
أمام نضال الذي أفاق من صدمته يراقب ما يحدث بهدوء
هو جزء من شخصيته ثم قالت:"ده نضال, ابني الكبير
وأخوكي من النهاردة.. ايه رأيك فيه؟ تقعدي معانا؟"
ابتسمت لها جويرية ببراءة وهي تقول:
"الله, كان نفسي في أخ من زمان"
ضحك نضال بخفة ثم اقترب منها قائلا بود:
"وانا كان نفسي في بنّوتة عسولة زيك, ايه رأيك تبقي
بنّوتّي؟!"
ابتسمت له بود وهي تقول:"ماشي"
استقام واقفا وهو يقول لوالدته:"خلاص يا أمي, جويرية
من النهاردة مسئوليتي أنا, بنّوتّي أنا ومش هفرّط فيها أبدا"
ابتسمت له والدته بحب وهي تربت على كتفه فخورة به
وهي تعلم أنه على قدر المسئولية .
****
قبل عامين
بعد شهرين من وفاة نوال
جالسا بشقته يرفض الذهاب لأي مكان.. لا يصدق أنها
ماتت حقا! لفظت أنفاسها الأخيرة بين يديه كما تمنت
يوما وهو... انتابه شعور قوي بالذنب تجاهها!
هل حبه الذي لم يعلم عنه شيئا ل جويرية جرحها؟!
هل كان سببا لتعاستها بفترة زواجهما التي لم تكمل
حتى العام؟!
زفر بقوة لا يستطيع أن يزيح شعوره بالذنب تجاهها وتجاه
جويرية أيضا.. كيف كان غبيا إلى هذا الحد؟!
كيف لم يلاحظ أن مشاعره تجاه جويرية عشقا وليس
فقط مشاعر أخوية أو حتى أبوية؟!
انتفض بقوة وهو يحرّك رأسه نافيا.. لا هو لا يحبها
هي فقط ابنته التي نشأت على يديه وتحت رعايته,
ابنته التي اهتم بها منذ كانت بالخامسة من عمرها,
ابنته التي لم تنم يوما إلا بين ذراعيه وبأحضانه.. كيف
يفكر بها بطريقة أخرى وهو لم ينظر لها يوما سوى
كابنة له؟ هو حتى لم يرها كفتاة كبيرة بل رآها دوما
كطفلته الصغيرة التي ....
قاطع تفكيره مواقف ظهرت بعقله كومضات لم يفكر
بها من قبل..
غيرتها الشديد عليه والتي كانت تثير بداخله فرحة
غريبة, توبيخها له عندما تظن أنه ينظر لامرأة وهو معها
وهو الذي لم ينظر لامرأة قط حتى تزوج بنوال!
ارتباكها من تقرّباته التي لم تتغير حتى بعدما نضجت
وأصبحت فتاة كبيرة, رفضها النوم معه كما فعلت
طوال حياتها, خجلها منه والذي كان يثير داخله شعورين
متناقضين.. غضب من خجل لا يرى له سببا فهي ابنته,
وبهجة خالصة بمراقبة تورّد وجنتيها.. تورّد يجعله يميل
مقبّلا وجنتها دون أي إرادة منه!
غضب عارم عندما يرى نظرات الرجال لها, غيرة سوداء
عندما يراها تحدّث أحدهم بعفوية مثلما حدث مع ذاك
المدعو عمرو..
نبضات غريبة تثار بداخله عندما تتقابل عيناهما!
حزن غريب احتل قلبه عندما علم أنه ليس من حقه
الاقتراب منها كما فعل طوال حياتهما معا,
شوق غريب عندما ابتعدت عنه وتحاشى هو وجودها خوفا
من ظلم يوقعه بها وبنوال ..
زفر بقوة وهو يشعر بالارتباك من مشاعره التي تتراوح بين
الشعور بالذنب تجاه نوال حتى بعد وفاتها لخوفه أن يكون
قصّر بحقها دون إرادته.. والذنب أيضا تجاه جويرية التي
شعر الآن فقط كم ظلمها بزواجه من أخرى !
شهرين قد مرّا على وفاتها وهو يخشى العودة لمنزل والدته
ولا يعلم كيف سيعود بعد أن أدرك مشاعره تجاه
جويرية!
يخشى من انفلات مشاعره قبل أن يستعيد تركيزه
والتفكير في طريقة للتقرب منها وطلب الزواج..
أجل لن يصرّح لها بأي شيء سوى بعد الزواج فهو لا يضمن
رد فعله أبدا فشعوره حاليا كالظمآن الذي يتوق لرشفة
ماء بارد في يوم شديد الحرارة!
ليس أمامه سوى أن يظل هنا عدة أشهر حتى يستعيد
تركيزه وثبات مشاعره وفي هذه الفترة سيعود لحياتها
مرة أخرى.. سيحاول أن يتقرّب منها و......
شدّ شعره بعنف وهو يهتف:"ازاي هعمل ده؟ ازاي؟! انا
عمري ما كلّمت بنات ولا حاولت أشاغل واحدة.. حتى نوال
حياتي معاها كانت هادية من غير اي مشاعر عاصفة زي
اللي جوايا لجويرية!"
كاد يجن من التفكير.. كيف يتقرب منها ويجعلها تشعر
بتغيّر مشاعره تجاهها من أب أو أخ إلى حبيب يتوق للزواج
منها وبثّها مشاعره وبنفس الوقت يحافظ على ثباته معها
ومسافة آمنة حتى لا تفلت مشاعره من عقالها؟!
****
عاد إلى المنزل حزينا, مهموما يشعر بثقل غريب بقلبه
بجانب الذنب الذي يكبّله لضعفه أمامها وموافقته
على ذاك التافه عديم المروءة.. كيف سيخبرها الآن
عمّا حدث؟! كيف سيراها وهي تذبل وتذوي أمام عينيه
دون أن يذهب لقتله دون تردد علّه يشفي النار التي تستعر
بداخله من فعلة ذاك الدنيء!
أفاق من شروده على صيحة مشاكسة من صغيرته:
"بابا حبيبي حمدالله على السلامة, روحت فين من بدري؟
ده انا زعلت اوي لما صحيت ومالقتكش"
ابتلع غصته وهو يفتح ذراعيه لها دون حديث وكعادتها
استجابت لحضنه وهي تتمسك به بقوة وقلبها يحدّثها أن
هناك شيء سيء سيحدث وقبل أن تسأله عمّا يحدث
معه كانت والدتها قد خرجت من المطبخ وهي تسأله
"حمدالله على السلامة يا حبيبي, ها قابلت أسامة؟
كان عايز ايه؟ وليه ماجاش هنا؟"
رفعت رأسها ترمقه بدهشة هاتفة:"كنت مع أسامة؟!
غريبة ماقاليش يعني؟ كان فيه حاجة؟"
رمقها والدها بحزن لم تلاحظه في غمرة تفكيرها لتتابع:
"اكيد كان عايز يحدد معاد الفرح صح؟ ما صدّق ان
الامتحانات بتاعتي خلصت وقال نتجوز على طول"
ضحكت بمرح وهي تقول:"أصلي عارفاه مجنون"
الصمت المطبق من والدها جعلها ترمقه بتساؤل وهي
تهمس:"فيه ايه يا بابا مالك؟ هو حصل حاجة؟!"
أغمض عينيه بقوة يضمّها لصدره فارتجفت وهي تشعر
أن القادم لن يعجبها أبدا لتسمع والدها يقول:
"كل شيء قسمة ونصيب ياحبيبتي, انتي تستاهلي واحد
أحسن منه بكتير وانا من الاول مش موافق عليه
بس انتي....."
ارتدت عنه بعنف وهي ترمقه بعدم تصديق:"انت بتقول
ايه يا بابا؟ انا مش فاهمة حاجة! فهمني فيه ايه"
تدخلت والدتها بالحديث وهي تسأله بوجل:
"ايه اللي حصل يا حاج؟ المخفي ده قالك ايه ضايقك
كده؟!"
أغمض عينيه يتذكر كل كلمة قالها ذاك الدنيء
عديم المروءة الذي كان على وشك قتله قبل أن يخلّصه
منه شامل الذي رافقه بعدما طلبه.. ويحمد الله أنه هاتفه
ليرافقه فلم يكن ليصمد بمفرده أمام موقف كهذا!
"خير يا أسامة طالبني من صباحية ربنا كده عايز ايه؟
وليه ماجيتش البيت وقولت ال انت عايزه!"
رمق شامل بضيق وهو يسأل:"ايه اللي جاب ده هنا؟!"
هتف والد دارين بحدة:
"اتكلم كويس يا أسامة, ورد على سؤالي.. وانا اللي قولت
لشامل يجي معايا وال عندك اعتراض؟! حتى لو عندك
بلّه واشرب مايته"
لم يتحدث للحظات قبل أن يعتدل بجلسته ويقول:
"الحقيقة يا عمي انا طالب حضرتك عشان اقولك ان
علاقتي بأمي بقت وحشة اوي بسبب دارين.. هي مش
موافقة عليها من الاول وانا ال غصبت عليها وقولت
يمكن بعد كده تتقبلها لكن مفيش فايدة.. هي مش
عايزاها وانا مش هقدر أكمل في الخطوبة دي.. فكل
شيء قسمة ونصيب و...."
انتفض والد دارين بغضب واقفا وهو يهتف:"ايه اللي انت
بتقوله ده؟ هي بنات الناس لعبة عندك انت وأهلك؟"
وقف أسامة ببرود وهو يواجهه وشامل الذي وقف بجانب
والد دارين يدعمه وهو يشعر أنه على وشك الانقضاض
على هذا القميء ليسمعه يقول:"يعني اعمل ايه ياعمي؟
اغضب أمي عشان بنت تروح ويجي غيرها كتير! ماينفعش
طبعا وعموما هي لسه صغيّرة وهتلاقي كتير غيري..
وبالنسبة للشبكة طبعا عايزها و..."
قاطعته صفعة قوية من والد دارين كادت تبعها
أخريات لولا شامل الذي أمسك ذراعيه وهو يقول مهدئا:
"صلّي على النبي يا عمي, مايتساهلش توسّخ ايدك بيه
والله هي الكسبانة والحمد لله ان ربنا خلصها من
الأشكال دي"
همّ أسامة بالحديث ليزجره شامل قائلا:
"قسما بالله لو ما غورت من قدامي حالا لاكون رانّك
علقة تحلف بيها عمرك كله"
بالطبع لم يفكر مرتين وهو يغادر ولكنه هتف قبل
مغادرته:"ابقوا ابعتولي الشبكة عشان محتاجها"
وابتعد مرتعبا عندما رأى شامل الذي همّ بالانقضاض عليه.
انتبه من شروده على صوت دارين الذي يهتف:
"مش فاهمة"
ازدرد ريقه ببطء وهو يحاول النطق وما إن نجح حتى
خرجت منه الكلمات متتابعة:
"أسامة فسخ الخطوبة لأن والدته مش موافقة عليها
وماقدرتش تتقبل دارين زوجة لابنها و..."
صرخة زوجته باسم دارين نبّهته بانهيارها على الأرض
فاقدة الوعي .
- يتبع الفصل التالي اضغط على (عيناك لي المرسى) اسم الرواية