Ads by Google X

رواية رحماء بينهم الفصل الثامن 8 - بقلم علياء شعبان

الصفحة الرئيسية

 رواية رحماء بينهم الفصل الثامن 8 - بقلم علياء شعبان 

(رُحماءٌ بينهم)
                           "كمثلِ الأُترُجَّةِ"
الفصل الثامن
•••••••••••••••
"جدائلك الصفراء أنعشت روتين أيامي وغمزتك الرقيقة جعلتني أنكب على حُبك شغوفًا انتظـــــــر لقائنا المنشود في صحوي ومنامي!".
•••••••••••••••
بجسد مُرتجفٍ تحدق في الفراغ وهي تستقر بين ذراعي والدتها، كانت تهيم في عالم آخرٍ يكثر فيه تساؤلاتها ودموعها لا تنضب للحظة أبدًا، تحولت بنظراتها إلى الرجل الذي أردف بصوت ثابت:
-إن شاء تكوني بخير يا آنسة، بعد إذنكم!

كانت تراقب حركته في سكونٍ وتيه يتملك من جميع حواسها؛ فهي لا تسمع ما يقول أو تُدرك شيئًا في هذه اللحظة حتى أنها لم تهتم بسؤاله عن سبب مجيئه إلى باب بيتهم؟! هل سمع صوت صراخها بالخارج أم جاء صدفة من أجل شيء آخر، أومأت "سهير" له ثم تابعت بامتنان:
-شكرًا يا ابني، ربنا يسترها معاك ويبارك لك.

أردفت تدعو له وهي تصحبه إلى باب الشقة وما أن غادر حتى تحركت بخطوات مُتأدة نحو النافذة ثم نظرت منها خِلسةً تتفقد بقائه أمام بوابة المنزل أو ذهابه؟!!! لقد جاء بها إلى المنزل ولكنه تلقى اتصالًا جعله يقرر البقاء داخل سيارته ولم يصعد للأعلى معها كما كان ينوي!!.. زوت ما بين عينيها في شكٍ جعلها تنتظر رؤية خروج الرجل الذي أنقذ ابنتها من البوابة والذي برر أنه سمع صوتها تصرخ أثناء مروره من أمام المنزل فدخل في الحال دون تفكير، لم تقتنع بهذه القصة بشكل كاملٍ الأمر الذي دفعها إلى اختلاس النظرات من خلف زجاج النافذة التي تطل على الشارع لترى ما توقعته تمامًا!!!

تحرك الرجل بسرعة رهيبة حتى وصل إلى سيارة "تليد" ثم ركبها لينطلق الأخير على الفور قبل رؤية أحد لهما، افتر ثغرها عن ابتسامة ماكرة وهي تُدرك بمعنى واضح أن ذلك الرجل وضع خلفها حارسًا لمراقبتها وحمايتها!!.. تنهدت بعُمقٍ قبل أن تلتفت مرة أخرى إلى ابنتها التي ترجف في انهيار كبيرٍ!

-قولت لك مليون مرة تاخد بالك وتقوم بشغلك على أكمل وجه، لو شايف إنك مش أد الشغل دا قول لي؟!!!

صاح "تليد" عاليًا بصوت جهوري يفيض منه السخط والغضب من تقاعس الأخير عن حمايتها للمرة الثانية، ضرب مقود السيارة بنفاد صبرٍ أثناء رؤيته لوجه الأخير عبر المرآة الأمامية التي تقبع في منتصف السيارة، ابتلع الأخير ريقه على مهلٍ ثم قال بوجلٍ:
-والله العظيم أنا مركز معاها في كُل ثانية وخطوة ومش بفارقها، أنا يادوب كُنت بجيب غدا من السوبر ماركت اللي على أول الشارع!!

كور "تليد" قبضة يده كاظمًا غيظه ثم هتف بلهجة حادة وهو يلتفت له تارة وأخرى إلى الطريق:
-وساعة عربيتها ما وقعت في الماية بردو كُنت بتجيب غدا!!

نكس "الرجل" رأسه في احراج وخزي شاعرًا بأحقية الأخير في الانفجار غضبًا منه، أقسم له أنه في كل مرة تسير الأمور في غمضة عين منه ولم يتوانَ فتفهم "تليد" مبرراته وصدق عليها؛ إلا أنه أردف بصوت هادئ بعد أن هدأت نفسه قليلًا:

-لو مكنتش وصلت في الوقت المناسب، أنا كنت خلاص ناوي أظهر في الصورة وإنت عارف كويس وقايل لك من البداية إني مسؤول عن البنت مسؤولية كاملة وإنها تخصني بس مش عايزها تعرف بأي حاجة!!!

الرجل بصوت متوترٍ نادمٍ:
-حقك عليا يا أستاذ تليد وأوعدك إني مش هقصر تاني، أقول لك، مش هاكل، هموت من الجوع!
تدبر "تليد" ابتسامة خفيفة ثم قال مُستنكرًا:
-مش للدرجة دي، ركز شوية من فضلك!!

أومأ الرجل بطاعة ولكنه بدأ يُتأتيء للحظات وهو يمعن النظر إلى الأخير الذي هز رأسه يقول بحسم:
-اسأل على اللي إنتَ عايزه!
تنهد الرجل بتوترٍ؛ ولكنه قال بصوت هادئ فضولي:
-لحد إمتى؟ يعني هفضل حارس شخصي للأستاذة لحد إمتى؟

تليد وهو يبتسم بهدوءٍ ثم يقول بلهجة حازمة:
-لحد ما أكون أنا قادر أحميها من غير حارس شخصي سري!!!

أومأ الرجل مُتفهمًا ما يرمي إليه الأخير وقرر أن يلتزم الصمت حتى ينزل من السيارة.
(على الجانب الآخر)
-يعني أيه الكلام دا؟ عايز تحبسني يا بابا؟!

صاحت بصوت مصدومٍ وهي تحدق فيه دهشةً، استدار "علام" إليها بعدما كان يعطيها ظهره ثم قال بصوت أجش صارمٍ:
-أيوة هحبسك أمال هستنى لمَّا يجيني خبر م مم موتك!!!

اغرورقت الدموع في عينيه وتلعثم أثناء اعترافه بما يهدد استقرار قلبه الآمن الذي ينقبض ويخفق خوفًا عليها؛ ربما لا تحمل دمه ولكنها تستقر بين ثنايا روحه المعلقة بها منذ أن صار مسؤولًا عنها، أجهشت "وَميض" بالبكاء ثم صاحت بصوت مخنوق:
-بس أنا كدا بثبت لهم إني خوفت وإني كُنت غلط!! وأنا صح يا بابا؟ إنتَ ليه عايزني أمشي جنب الحيطة، الناس دي مؤذية ولو كل واحد فينا داق أذاهم وسِكت يبقى بنسمح لهم يلوثوا كل حاجة حولينا!!!

اشتدت عروق عنقه وبرزت بوضوحٍ وهو يصرخ فيها بصوتٍ جهوري:
-بس أنا إحنا مش قدهم.. لا قوة ولا مال ولا جاه.. إحنا مالناش غير ستر ربنا معانا!!
وَميض بصوت ساخطٍ من استسلامه:
-ودا مش كفاية علشان نقف في وش الظلم!!

تأفف "علام" باختناق فأطرق برأسه أرضًا، عقد أصابعه سوية وهو يضغط عليهم مُحاولًا التحكم في انفعالاته التي تأججت أثناء دفاعه عن رأيه الذي يراه من كافة الجوانب صائب!
-مينفعش أقدم في مسابقة رسم وأنا عمري ما كان عندي مقاومات الموهبة دي يا بنتي، لأن العواقب وقتها مش هتبسطك خالص!

ضغطت على أسنانها باختناق ثم تساءلت متوجسةً:
-آخر كلامك دا أيه يا بابا؟!

استقام "علام" في جلسته ثم قصد التحديق في عينيها مردفًا بحسم وقرار لا رجعة فيه أو نقاش:
-مش هقول لك ممنوع الشغل نهائي، ولكن ممنوع رجلك تعتب الجورنال تاني، الشغل كتير بس الجورنال دا بالذات لأ.

وَميض وهي تنتفض ذعرًا من جديته ثم تقول بصوت خافتٍ:
-بس أنا يا بابا بحب الشغل دا؟؟؟

كشر وجهه وهو ينهض في مكانه ثم ينصرف من أمامها مُغادرًا البيت بأكمله، استدارت تواجه والدتها التي ظلت صامتةً طوال الوقتٍ وإلا صابتها سهام غضبه، انهمرت الدموع من عيني "وَميض" وهي تقول باختناق:
-ماما، إنتِ موافقة على الكلام دا؟؟؟

تنهدت "سهير" بهم يتراكم على رأسها، تحركت من مكانها تجلس مُلتصقةً بابنتها ثم التقطت كفها وراحت تربت عليه وهي تقول بنبرة هادئة:
-بكرا يهدي وينسى كل اللي قاله في لحظة غضب، استهدي بالله إنتِ وقومي خُدي لك دُش عقبال ما أحضر لك الغدا!

هدأت أنفاسها الثائرة فقالت وهي تمحو دموعها بظاهر كفها:
-لا ما هو أنا عندي ميعاد غدا برا.

هتفت "سهير" باستنكار:
-إزاي يا حبيبتي، إنتِ عايزاه يطربق البيت على دماغنا؟؟ مش لسه قايل مفيش خروج إلا للشغل الجديد!!!
عضت "وَميض" شفتها السفلى بحذر ثم صرحت وهي تتوسل إلى والدتها:
-رايحة أأقابل وِسَام، رجع النهاردة من السفر وإنتِ لو بابا سألك قولي له راحت تدور على شغلك وأوعدك هحاول أرجع قبل ما يوصل البيت!

ضربت "سهير" كفًا بالآخر ثم قالت باستسلام:
-ماشي يا وَميض، لمَّا أشوف أخرت مشياني وراكِ، أيه؟
••••••••••••

-بعد إذنك قول للشيخ سليمان إن أنا عايزه؟؟؟

أردف رجل ما بتلك الكلمات المرتبكة وهو يقف أمام بوابة المزرعة، رمقهُ الحارسُ من أعلى رأسه حتى أخمص قدميه قبل أن يُردف بصوت جافٍ:
-نقول له مين وعايز منه أيه؟؟؟
فرك الرجل قبضتيه سوية ثم رد مُتلعثمًا:
-الشيخ ميعرفنيش بس أنا جاي له في مسألة حياة أو موت، أنا ساكن قريب من المزرعة.

تنهد الحارس باستسلام فأمره أن يلتزم مكانه حتى يبعث بخبره إلى الشيخ الذي طلب منه أن يسمح له بالدخول راجيًا من الله أن يكون خيرًا، كان "سليمان" يجلس داخل الغرفة التي يتم بها تصنيف المحصولات الزراعية وتمييز الطيب من الفاسد، جلس على سجادة الصلاة بعد أن انتهى منه وراح يُحرك حبات المسبحة بين أنامله يذكر الله بشوق وطمع في فيض عطائه الزخير، لحظات ووجد رجلًا يقف على عتبة الباب في حالة مُرتبكة مُقلقة، تنهد "سليمان" بهدوءٍ وراح يطقطق على الأرض بأصابعه يحث الأخير على الجلوس أينما يشير.
-تعالى يابني، أقعد!

انصاع الرجل في الحال ثم مكث أمام الشيخ رامقًا إياهُ بنظرات متوترة وخائفة تطل من زوايا عينيه، قطب "سليمان" ما بين عينيه ثم سأله بصوت دافىء مُحاولًا بث الطمأنينة على قلبه:
-خير يابني؟
ابتلع الرجل ريقه على مهلٍ مُطرقًا برأسه في الأرض ففهم الشيخ حاجته لبعض الوقتٍ كي يستعد لقول الشيء الذي جاء من أجله ويبعث الوجل في عينيه، مرت لحظات والصمت يحوم حول هذه الجلسة إلى أن تكلم الرجل يقول بحذر:
-أنا سمعت عنك كتير، إنك يعني شيخ قريب من ربنا وبتحب الخير للناس كلها!!!

أومأ "سليمان" صامتًا فأكمل الأخير بارتباكٍ ظهر في رعشة كفيه:
-أنا شوفت رؤيا يا شيخنا، و وطلبت من واحد معرفة يفسرها لي…
صمت يستجمع شتات نفسه ثم أكمل بمرارة تملأ حلقه فيبتلعها بالكاد:
-قالي تفسير وِحِش أوي ومش عارف أنام ولا أشتغل من وقتها، بجهز نفسي وبستعد في كُل دقيقة!

قطب "سليمان" ما بين حاجبيه في استغراب ثم سأله بترقب:
-أيه التفسير دا؟؟
الرجل يرد في حيرة:
-من قبل ما تعرف الرؤيا حتى؟؟؟
أومأ "سليمان" إيجابًا ثم قال بصوت هادئ راسخٍ:
-من قبل ما أعرف الرؤيا حتى!!.. قال لك أيه؟؟

الرجل وهو يتنهد بحرارة ثم يُجيبه:
-قالي لي إني هموت، وسمعت بعدها حديث للرسول مش حافظه بس فيما معناه إن الرؤيا بتحصل زيّ ما اتفسرت بالظبط!!
سليمان يجاريه مُقدرًا ذعره فيقول بثبات:
-الرؤيا على رِجل طائر ما لم تُعَبَّر، فإذا عُبرت وقعت صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أومأ الرجل بجنونٍ يؤكد على استنتاج الشيخ الذي جاء بالحديث المقصود في ثانية، فقال بصوت مخنوق:
-أيوة، مش دا تفسيره يا شيخ؟! وجهني، أعمل أيه؟؟

تدبر "سليمان" اِبتسامة خفيفة ثم ربت على كف الرجل وراح يقول بهدوءٍ:
-الرؤيا على رِجل طائر، أيه المقصود هنا؟!! كلنا عارفين إن الطيور بتحب الحرية وغير مُستقرة في مكان واحد ودا المقصود برِجل طائر إن أحلامنا ورؤيانا غير مُستقرة كأنك بتحط حاجة على رِجل طائر فلمَّا هيطير!!!
الرجل بتذبذب:
-هتقع!!

الشيخ وهو يبتسم له بود:
-بالظبط، كدا إحنا مُتفقين في النص الأول من الحديث؟

أومأ الرجل في صمتٍ فيما التفت الشيخ إلى جيب سترته وهم أن يضع كفه في الجيب وسط نظرات الأخير المرتقبة لما يفعل، أخرج "سليمان" عُملة معدنية بقيمة جنيه ثم وضعها أمام مرأى الأخير وراح يقول بثبات:
-الرؤيا زيّ الجنيه دا بالظبط، بس قبل ما أشرح لك النقطة دي لازم تفهم إن في نوعين من الرؤى؛ رؤيا صريحة مفيش خلاف على تعبيرها وأخرى مرموزة؛ يعني عبارة عن رموز بنجمعها ونشبكها في بعض علشان نوصل لتعبير لها.

أكمل بوجه بشوش وصوت رزين:
-الرؤيا زيّ الجنيه يعني ليها وجهين؛ وجه يحتمل الخير ووجه يحتمل الشر، ومش شرط خالص إن أول تعبير للرؤيا من أول مُعَبِر يكون صح!!

قطب الرجل حاجبيه غير مُدركٍ للرسالة التي قيلت على فم الشيخ فقال بتردد:
-مش فاهم!!
الشيخ مؤمئًا في هدوء:
-يعني في شروط علشان الرؤيا تتحقق سواء بالخير أو الشر، خليني أسألك سؤال، هل الشخص اللي فسر لك الرؤيا دا شخص قريب أوي منك وبينكم وِد؟؟؟

أومأ الأخير سلبًا فباغته "سليمان" بسؤال آخرٍ:
-طيب راجل عالم أو قريب من ربنا أو صاحب رجاحة عقل أو رأي؟؟؟
الأخير بنفي يقول:
-لأ، دا زميلي في الشغل.
اِبتسم "سليمان" اِبتسامة هادئة ثم قال:
-"ولا تقصها إلا على وادّ أو ذي رأي".

سكت "سليمان" لبُرهة ثم أكمل:
-معنى الكلام دا إنك تختار شخص عنده رجاحة عقل أو لسانه كويس فاهم في آداب التعبير علشان تكون واثق إنه هيختار الوجه الحسن من الرؤيا طالما تحتمل الخيارين؛ فليه مقولش الوجه الخير منها!!.. اسمع خلاصة الكلام يابني، الرؤيا ليست لأول عابر يفسرها ولكن لأول عابر أصاب وجهها لو كانت رؤيا مرموزة!! فاهم حاجة؟!

أومأ إيجابًا ثم قال بهدوءٍ:
-قصدك إن الرؤيا الغير مُباشرة بتكون شبه الرموز وكل واحد بيفسرها على مزاجه بس الشخص الفاهم والمطلع والدارس للعلم دا هو بس اللي هيقدر يفسرها صح سواء كانت خير أو شر وفي الحالتين مش هيقول غير المنظور الخيّر منها؟!!!
رفع "سليمان" كفه ثم ربت على كتف الشاب وقال بصوت عذب:
-أحسنت، وفي بعض العلماء ربط الحديث دا بحديث البلاء موكل بالنطق به؛ فدائمًا تعبيرهم بيكون عن الوجه الخير للرؤيا بس؛ فمش كُل من هب ودب أو واحد ماشي في الشارع فسر لك رؤيا أو حلم تبقى صح، دا لازم يكون على علم ودراية. 

لمع ضوء الأمل في عين الأخير فسأل بفرحة حذرة:
-يعني اللي قاله دا غلط؟؟
سليم بابتسامة داعمة:
-طول ما هو مش دارس ولا متفقه في التفسير يبقى ولا كأنك سمعت حاجة ونصيحة يابني لمَّا يراودك حلم أو رؤيا سيئة أو مضمونها سيء من وجهة نظرك فحاول تسرها في نفسك واستعيذ بالله ومفيش حاجة وقتها هتحصل، فهمتني؟؟؟
الرجل وهو يشكره بامتنان:
-أوامرك يا شيخنا.
سليمان وهو يزدري جملته بكلمات لينة:
-الأمر لله وحده يابني، يلا شوف حياتك وأكل عيشك.

شكرهُ الرجل مرة أخرى ثم غادر على الفور، نهض "سليمان" وخرج من الحجرة وهو يترقب وقع خطوات الشاب الذي كان على وشك أن يفقد الأمل من رحمة الله، شعر بسعادة كبيرة حينما أقنعه بالخير الآتي إليه وصحح له ما يعتقد فيه خطأ وتمكن من تبديل حاله إلى آخر مُطمئن، في تلك اللحظة، رأى "تليد" يقف في زاوية بعيدة ويتحدث عبر هاتفه فانتظر حتى فرغ وجاء إليه قائلًا بلهجة لينة:
-ها يا أبويا، تحب نتحرك إمتى؟!!

ابتسم "سليمان" ثم أجابه بهدوءٍ:
-دلوقتي.

••••••••••••••
(على الجانب الآخر)
ذهب "نوح" إليها بعد أن أخبره الولد بضرورة حضوره عاجلًا، خطت أقدامه عتبة الحظيرة وراح يبحث عنها بعينيه حتى وقعت عليها وهي تجلس وسط مجموعة من الأبقار وتصيح في العاملات من حولها بصوت مُتحشرجٍ مكروبٍ:
-هاتي شوية مية سخنة بسرعة، يلا!

أومأت العاملة منصاعةً وغادرت على الفور، سار بهدوءٍ نحوها ثم أردف يسألها ببرود لا يتناسب مع الموقف الواقعة فيه:
-خير يا مهغة؟؟ عايزاني في حاجة؟!

ابتلعت ريقها على مهل ثم أردفت بصوت متعجل ثابت:
-هو إنتَ مش دكتوغ!!!.. تعالى ساعد معايا.. تلت حالات ولادة في نفس الوقت.

حدق "نوح" فيها مصدومًا ثم أردف مُستنكرًا وهو يضع كلا كفيه في جيبي بنطاله:
-نعم؟؟ أنا بولد بني آدمين مليش أنا في الحيوانات خالص.
التوى شدقها ثم صاحت فيه بغيظ:
-الدكتوغ الشاطغ بينجح في كُل حاجة طالما عنده الأساسيات، يلا ساعدني!!!

أشاح بوجهه للجهة الأخرى وراح يرمقها بنظرة مختلسة من جانب عينيه لتضغط على أسنانها ثم تهتف مرة أخرى بغيظٍ أكبر:
-انجز يا نوح!!!
ابتلع ريقه بصورة مرتبكة فهو يعاني فوبيا الاقتراب من كُل شيء ليس بإنسان، حسم أمره بأن يبقى صامدًا كيلا تتزعزع صورته أمامها فتابع بعد أن تنهد مُستسلمًا:
-استعنى على الشقا بالله.

أسرع بالجلوس على الأرض وراح يشمر عن ساعديه وسط نظراتها المتعجبة فيه، رفع أحد حاجبيه ثم أردف بصوت عالٍ:
-إنتِ لسه هتبصي لي، أعمل أيه؟ انجزي!!
مُهرة وهي تجذب أطراف الجنين بهدوءٍ ورفق:
-طبطب عليها علشان تواسيها في ألمها.

نوح وهو يكور قبضته ثم يهتف بسخطٍ:
-إنتِ جايباني هنا علشان أطبطب عليها؟؟؟ 
مهرة وهي تبتسم بحذر ثم تقول:
-يبقى استلم البقغة التانية واتعامل وكأنك بتولد إنسانة عادي، بالتوفيق يا دكتوغ!

عض شفتيه بغيظٍ ثم قرر أن يخوض هذه التجربة الحماسية للمرة الأولى فاتجه إلى البقرة التي ترقد على الأرض في إعياء ثم بدأ في التعامل مع حالتها بشكل دقيقٍ يحيطه الكثير من الدقة والحذر، كانت تختلس النظرات إليه بين الفينة والأخرى فتجده منكبًا على عمله بكُل تركيز ودون قصد منها أمعنت النظر في كُل حركة وتفصيلة تصدر عنه حتى طال تأملها به لتفيق على صوته وهو يقول بمزاحه المعهود منه:
-بصي على قدك!

تنحنحت بإحراج ثم التفتت إلى عملها مرة أخرى لتجده يردف بحماسٍ مُتقدٍ:
-شكلي هعملها ولا أيه؟!!

ابتسمت في هدوءٍ ولم يمر لحظات على حديثه وكان الجنين يتزحلق خارج جوف والدته إلى الأرض بعد أن عاونها بشكل كبيرٍ على لفظ جنينها بصورة مريحة وكأنما يتعامل مع حالة إنسانية ويخشى عليها أن تتألم أو تعاصر ساعة عصيبة لا تُطاق!
-اللهم صلي على النبي.

صاح "نوح" بانبهار وهو يتابع خروج الجنين كاملًا من جوف أمه، ضحكت "مُهرة" بسعادة ثم تابعت بصوت متهلل في حماسٍ:
-ما شاء الله، ولادتها كانت سغيعة أوي، إنتَ أحلى نوح في الدنيا كلها.

تهللت أسارير وجهه وهو يستمع إلى كلماتها التي قالتها بنية صافية لا تحمل معنى سوى التلقائية في بوحها إلا أنه سعد كثيرًا بهذه الكلمات التي جعلته يُطالعها بملامح هائمة ترجو الاستزادة من فيض نعومة حديثها الذي يبعث على نفسه شعورًا بالتحليق عاليًا معها ورغبة مُلحة في تحويل كلماتها التلقائية إلى كلمات خاصة به وحده وخاصة جدًا ولا تقال إلى في عالمهما سوية!!

أطرق برأسه في شرود ثم تنهد بضيق متوارٍ يتذكر تحديدًا عمله طوال الليل والنهار من أجل تجميع ثمن شقة يملكها في يوم من الأيام كي يكون قادرًا على أن يطرق بابها بقلب متينٍ دون أن تُغلق أبوابها في وجهه وكي يصون حقوقها عليه من توفير حياة كريمة حتى لو كانت بأقل الإمكانيات لا سيما وجود عش زوجية يمتلكه يشعر فيه بالاطمئنان عليها!
••••••••••••

جلست إلى الطاولة الموجودة على أحد شواطىء النيل بعد أن التقت به بعد غياب أسبوعين، تهللت أسارير وجهها من أن رأته وكأنما وجدت مكمن أسرارها الكبيرة، ابتسم "وسام" في هدوءٍ ثم قال مُحاولًا استنتاج أو تخمين بعض الأمور معها:
-يمكن هو فعلًا ومش حابب الخير اللي عمله يتعرف!

مطت شفتيها حيرةً ولكن معالم وجهها تغيرت إلى أخرى حانقة ثم صاحت باستنكار:
-بس أمي قالت عكس دا؟؟؟
وِسام وهو يرد بلهجة ثابتة:
-إنتِ عارفة إن الست الوالدة بتهري، الراجل دا لو كان مُتصنع زيّ ما بتقول مكانش ربنا كرمه بحب الناس دي كلها.

تنهدت "وَميض" بحيرة ثم أردفت بنبرة سادرة:
-طيب إنتَ مصدقني؟!
وِسَام باقتناع كبيرٍ:
-مصدقك، بس التفسير الوحيد لموقفه إنه مش عايز شوشرة والخير اللي بيعمله بيرميه في البحر.

توترت نفسها قليلًا فقامت بقضم أظافرها الواحد يليه الآخر ثم قالت بصوت يائس مُضطرب:
-وبالنسبة للميدالية؟

رفع كتفيه ثم أنزلها في جهل من إجابة هذه السؤال بالتحديد، ضيق عينيه يفكر للحظات ولكنه صرح في النهاية بغموض هذا الأمر بصورة كبيرة:
-أهو موضوع الميدالية دا تحديدًا مش قادر افترض له أي فروض خالص وشايف إن إجابته عند والدتك!

نبشت غرة رأسها بطرف أناملها ثم تابعت بأنفاس مُثقلة من كثرة التفكير:
-أنا هفترض معاك إن تليد سليمان مش هو خالص اللي أنقذني وكمان إني كنت بتخيله وأنا بنازع الموت مع إنه عمره ما جه في بالي قبل كدا؛ ولكن وجود ميدالية عليها أول حرف من اسمه في جيب الجاكيت اللي صاحبه أنقذني، صُدفة؟؟؟؟ ميدالية تعتبر الشِق التاني من ميدالية معايا من طفولتي، صُدفة بردو؟؟؟

رمقها "وسام" بنظرات متحيرة وقال باستنكار:
-تقصدي إنه له معرفة سابقة بيكِ مش بس أنقذك!

التوى شدقها ثم أردفت بصوت مخنوقٍ:
-هتصدقني لو قولت لك أيوة هو دا اللي أقصده؟!!

وسام وهو يقهقه بضحكة ساخرة ويقول بنبرة مثيلة:
-ناقص تقولي إنه ابن خالتك ثم إن يا ناصحة لو كان على معرفة سابقة بأهلك ووالدتك هي اللي عملت له الميدالية دي، أيه اللي مش هيخليها تصارحك بالحقيقة!!!

أطرقت برأسها تحاول تقليب ما يقوله في رأسها، ورغم اقتناعها بحديثه إلا أنها لا تعلم من أين جاءت هذه الميدالية وكيف لا تتذكرها والدتها؟؟.. رفعت بصرها إليه مرة ثانية ثم أردفت بصوت خافتٍ:
-طيب وبالنسبة لقرار بابا، هعمل أيه فيه؟!
وِسام وهو يبتسم مُضيفًا بثقة:
-سهلة خالص وحلها بسيط.

رمقتهُ بنظرات فضولية حذرة دون أن تنبس ببنت شفةٍ فأضاف بهدوءٍ:
-هتكملي في الجورنال ولكن باسم مُستعار!

جحظت عيناها مصدومةً من فكرته الجهنمية التي صدمتها؛ ولكن ليس جديدًا عليه أن يجد لمشاكلها حلولًا سريعة المفعول أيضًا؛ فتجمعهما صداقة قوية منذ أن كانت بالمرحلة الثانوية وتوحدت وقتها أحلامهما التي ارتبطت بنفس الكلية ورغم اختلاف تخصص كُلًا منهما إلا أن الحياة لم تنجح في تفريقهما فيعملان في نفس الجريدة ويأخدان بأيدي بعضهما على مواجهة الشدائد.
-فكرة جهنمية، كانت رايحة عن بالي فين!

ابتسم "وسام" ابتسامة واسعة ثم تظاهر بترتيب ياقة قميصه وقال بثقة وعنجهية كبيرة:
-لأ دا إنتِ تطلبي لي عصير مانجا بقى!!!
أجابتهُ بمرحٍ ونبرة تجدد الأمل فيها:
-احلى شوب مانجا لأحلى سيمو.

قطع صوتها المرح صوت رنين هاتفها، التقطته على الفور وكانت تتوقع اتصالًا من والدتها تستعجلها فيه على الحضور إلى المنزل قبل عودة والدها؛ ولكنها وجدته رقمًا خاصًا ربما ينتمي لإحدى الشركات، أطالت النظر إلى شاشة الهاتف ثم حسمت أمرها بالإجابة وما أن ردت حتى تلقت سؤالًا جعلها تقول بصوت خافتٍ:
-أيوة أنا!!!
المتصل على الجهة الأخرى:
-تم قبول طلب عملك في شركة (آل زهران)، في انتظارك بدايةً من بكرا إن شاء الله.
وَميض تجيب بصوت هاديء غلفه الذهول:
-أكيد، إن شاء الله، مع السلامة.

أغلقت المكالمة ثم نظرت إليه وراح تقول بعينين مُتسعتين في صدمة:
-دا قبلني بعد كُل اللي حصل؟!!
وسام يرد بأسلوب منطقي:
-إنتِ عايزاه يتغاضى عن شطارتك وخبراتك علشان شوية كلام أهبل قولتيه!!!
وَميض وهي ترفع أحد حاجبيها ثم تقول بقلق:
-تفتكر!!!
•••••••••••••••

اُصطفت السيارتان خلف بعضهما، تجمع أفراد عائلة "عثمان السروجي" خارج القصر كي يبدؤون في صعود السيارات بالترتيب بعد أن وقف "عثمان" بينهم ثم أردف بصوت أجش صارمٍ:
-خلوا بالكم إننا هنتقابل زيّ عادة كُل سنة ومش عايز احتكاك أو تعامل من أي نوع، بالمختصر المُفيد ولا كأننا نعرفهم!!

أومأ الجميع متفقين فركب عثمان أولًا وجاورته زوجته بينما كان "عُمر" يجلس في السيارة الثانية فركبت "سكون" بجواره وانطلقت السيارتان بسرعة، تنهدت "سكون" بضيقٍ واضحٍ جراء حديث والدها الذي لا يتغير كُل عامٍ في هذا الموعد بالتحديد والذي يوافق يوم وفاة جدها فتم تخصيص هذا اليوم لزيارة مدافن العائلة والترحم على موتاهم جميعًا بدايةً من جدتها وعمها الذي مات في سن صغيرة وحتى موت جدها الذي لا تعرفه سوى من خلال صوره المُعلقة في غرفة والدها.

لاحظ عُمر تجهم معالم وجهها فسألها بترقبٍ وفضول:
-مالك؟!
تنهدت بحُزن دفين وقالت بصوت مخنوقٍ:
-إحنا لحد إمتى هنفضل مقاطعين عمي وملناش حد نروح له أو يسأل عننا!
رفع "عُمر" أحد حاجبيه ثم أردف بصوت ساخرٍ:
-غريبة، دا مكانش كلامك لمَّا كنت بسألك نفس السؤال، وكنتِ شايفة إن رضا بابا أهم من صلة الرحم والود اللي كان ضروري مينقطعش!
نكست "سكون" رأسها ثم أردفت بلهجة نادمة:
-كُنت غلطانة، أنا حاسة بفراغ بيقتلني كُل يوم وإحساس بالذنب ناحية عمي ومش عارفة السبب؟!

عُمر بابتسامة باردة يقول:
-يمكن علشان حارمينه هو وابنه من ميراثهم مثلًا ولا تهديدات أبوكِ المستمرة ليهم؟؟
سكون وهي تصيح بغضب متوارٍ ونبرة تشي ببوادر بكاء:
-وإحنا ذنبنا أيه؟! يعني لو وقفنا في وش بابا هيديهم حقهم؟!!

عُمر يومىء سلبًا ثم يقول باستسلام:
-مظنش، بس تعرفي عمي سليمان وحشني وكان نفسي يزورني ولو مرة بعد الحادثة، كلامه كان هيفرق جدًا معايا.

سكون وهي تبتسم ابتسامة باهتة يغمرها بعض الحنين:
-تليد كمان وحشني، من سنين مشوفتوش أو علشان أكون دقيقة متقابلناش على أرض الواقع، يادوب بشوف حلقاته مع نفسي كدا قبل ما أنام.

عُمر وهو يعبر عن حنينه لتلك الأيام:
-فاكرة لمَّا شروق كانت بتاخدك لبيت عمي من ورا بابا وماما وكنت بهددكم يا إما أروح معاكم أو أقول على السر دا؟! لمَّا عمي كان بيديني فاكهة كتير ولازم أخلصها كلها قبل ما أوصل البيت ويسألوني جبتها منين!!

قهقهت "سكون" باشتياق حقيقي وكذلك "عُمر" ودار بينهما حديث طويلٍ من ذكريات الماضي إلى أن وصلا أمام بوابة المدفن، قطب "عثمان" ما بين عينيه وهو يشير للحارس أن يأتي في الحال، رحب الحارس به فسأله "عثمان" بصوت حادٍ:
-مين جوا؟!
-الشيخ سليمان وابنه الشيخ تليد.

كان يعلم الإجابة قبل أن يفصح بها الحارس، أشار له أن يذهب من أمامه ففعل الأخير فورًا، استدار بنظراته إلى زوجته بملامح مُكفهرة غاضبة فيما أردفت "نبيلة" بصوت هاديء تقول:
-هنعتبر إنهم مش موجودين، وأعتقد إنك جاي هنا وعارف إنك بكُل تأكيد هتقابلهم.
تنشق الهواء داخله بعُمقٍ ثم زفره بقوة قبل أن يقول بلهجة حازمة:
-تمام.

تأففت "سكون" بضيقٍ تنتظر ترجل والدها من سيارته والسماح لهما باتباعه ولكنه لم يفعل بعد، توجهت بعينيها إلى بوابة المدفن ووجدتها مفتوحةً فصاب قلبها السرور والفرح بعد أن تأكدت من وجود عمها وابنه بالمكان، لحظات وترجل والدها الذي أمرها أن تنزل من السيارة، بدأ السائق يعاون "عُمر" على الترجل وذلك بمساعدة "سكون" بعد أن أسنداه حتى جلس على كرسيه وبدأت هي تدفع الكرسي أمامها حتى وصلت إلى البوابة، دخل "عثمان" أولًا وتبعته زوجته ثم سكون وعُمر اللذان استقبلا صوت تلاوة القرآن براحة كبيرة خاصةً إن كان القارىء عمهما الطيب!!!

كان "سليمان" يجلس أمام لحد والده يقرأ ما تيسر له من القرآن فيما بدأ تليد ينثر قطرات الماء على اللحد بعد أن وزع مجموعة من زهور المشتل حوله، كان "سليمان" خاشعًا في تلاوته ولم يلحظ مجىء أحدٍ؛ ولكن "تليد" رأى خيالهم المعكوس على الأرض بفعل أشعة الشمس يسبقهم إلى اللحد، رفع بصره رويدًا يُطالعهم بنظرات باردة ثم استمر في تنفيذ عمله ولم يعبأ بقدومهم.

تقدم "عثمان" من اللحد ثم وقف بجوار شقيقه الذي يتلو القرآن متناسيًا غير شاعرٍ بما يحدث حوله، انتصب "تليد" في وقفته مُستقيمًا يضع كفه فوق الآخر ينصت إلى قراءة والده فيما وقفت تراقبه من بعيد ومشاعر مختلطة من الحزن والاشتياق تسيطر عليها وخاصةً أنه لم يبالٍ بحضورهم ولم يحفل بهم!!

-"صدق الله العظيم".

-إزيك يا سليمان؟!!.
تلقى هذا السؤال ما أن فرغ من القراءة، ابتسم باستخفاف من الصراعات التي نختلقها في هذه الدنيا التي هي فانية وفي موعد لا يعلمه إلا الله نكون أسفل الثرى مع هؤلاء الطيبون الذين يتمنون ساعة واحدة فى هذه الدنيا مرة أخرى كي يصيحون في الجميع إنها فانية وأن استقيموا!!.. تنهد بثبات ثم استند على ساعده وهم أن يقف إلا أن "تليد" هرع إليه ثم تناول ذراعه وعاونه على النهوض، استدار بوجهه إلى شقيقه ثم قال بصوت راضٍ مُطمئنٍ:
-نحمد الله دومًا.

أجابه موجزًا الحديث معه ثم هم أن يبتعد من أمامه فتابع "عثمان" مرة أخرى يتحدث فيها إلى ذي الوجه الصارم الذي ينبض بالكبرياء:
-أخبارك أيه يا تليد؟!!!
تليد وهو يتنهد بقوة ثم يقول بصوت خشن:
-أحسن منك أكيد!!!

في تلك الفترة، هتف "عُمر" يقول بصوت مُتهدجٍ من فرط اللوعة والاشتياق:
-عمي سليمان، وحشتني أوي!
التفت "سليمان" له، ابتسم بصدقٍ وحنانٍ وطلب من ابنه أن يسنده إلى مقعد الفتى، سار إليه ثم مال عليه وقبل جبينه قائلًا بود عظيمٍ:
-كُلي شوق ليك إنتَ وأخواتك، أبقى أسأل عني يا عُمر!!

قال كلماته وهو ينظر إلى "عُمر" تارة وأخرى إلى "سكون" الساكنة في صمتٍ خلف المقعد، اهتزت جدران قلبها بصدعٍ جراء حديثه، أرادت أن ترتمي بين أحضانه بشوق مثيلٍ ولكن خوفها من أن يحزن والدها جعلها تقف كالصنم أمامه دون أن تنظر إلى عينيه حتى؛ ولكنه أجبرها أن تنظر وهو يتحدث إليها بصوت دافىء:
-إزيك يا سَكَن!!!.

لم تكُن هذه الكلمة تصطف في صالح موقفها المتجمد، فهي تعشق هذه الكلمة منه والذي ينفرد بها وحده، خفق قلبها خفقات عنيفة وهي ترفع نظراتها نحوه ثم تبتسم بهدوءٍ وقبل أن تجيبه اختلست نظرة سريعة نحو والدها كي تقرأ ما يظهر على وجهه، ابتسم "سليمان" بثبات وهو يفهم ما يروع نفسها المُطمئنة حينما ردت بنبرة مُتلعثمة:
-بـ ببـ بخير، شكرًا لحضرتك.
-مش يلا بقى يا حاج!!!

توجهت بنظراتها إلى الأخير، رمقتهُ باشتياقٍ قاتلٍ بينما لم يحفل بأيًا منهم وسار مُبتعدًا خارج المدفن وهو لا يطيق البقاء معهم في مكان واحدٍ.
••••••••••••••
-الحقي يا ماما، دا خلص طبق البطاطس كله!!!

هتفت "مُهرة" بصوت حانقٍ وهي تخرج له طرف لسانها، فضغط على أسنانه بغيظٍ فيما أجابتها "رابعة" بصوت هاديء مرحٍ:
-بألف هنا وشفا على قلبه، نعمل غيرها، لسه الشيخ سليمان في الطريق.

انشكح بسعادة كبيرة وراح يحرك حاجبيه في استمتاع هادىء من استفزازها وهو يتناول الطبق كُله بعد تصريح والدتها الواضح، تناول القليل من الطبق ثم قال بتذكر:
-صحيح، متعمليش حساب تليد لأنه هيتغدا في موقع التصوير النهاردة علشان عنده حلقة.

أومأت "رابعة" مُتفهمةً ثم التفتت إلى ابنتها وقالت بصوت حانقٍ:
-بردو مردتيش عليا في موضوعنا يا مُهرة!!!

رمقتها "مُهرة" بنظرات مندهشة وراحت تزجرها في تخفي كيلا تتحدث في هذا الموضوع أمام أحدٍ، لم تحفل "رابعة" بها وراحت تلتفت إلى"نوح" ثم تقول بنبرة مخنوقة:
-اشهد يا أستاذ نوح على اللي بنتي بتعمله فيا!

قطب ما بين حاجبيه ثم قال بفضول:
-ما يرضينيش أبدًا، عملت أيه اللادغة دي؟!
رابعة وهي تردف مُستطردةً في الكلام:
-ابن خالتها أتقدم لها وهو مُدرس قد الدنيا ومش موافقة بيه، يرضيك؟!!
تنحنح "نوح" بتوترٍ عجل بإخفائه ثم تمتم بصوت هامسٍ:
-يرضيني.. ميرضينيش ليه بس!

كان من الصعب عليها التقاط ما تمتم به فقالت بفضول:
-بتقول أيه؟!!
ابتلع ريقه على مهلٍ ثم استدار بنظراته نحوها وقال بصوت هادئ:
-أكيد مُهرة عندها سبب للرفض!!

أومأت "مُهرة" إيجابًا ثم صاحت بنبرة مُمتعضة:
-طبعًا عندي سبب وهو إني مش بحبه، دا مش كفاية!!! 

نوح بصوت خافتٍ يدعم رأيها:
-كفاية!
رابعة وهي ترد باحتجاج:
-بس أنا نفسي أفرح بيها زيّ باقي البنات اللي في سنها!!!

حك "نوح" غُرة رأسه ثم تحول بنظراته إلى ساعة يده ليقول بصوت مُتحشرجٍ:
-بصوا إحنا نأجل الكلام في الموضوع دا لوقت تاني، لازم أروح لتليد دلوقتي، إنتوا عارفين مش بيكون تمام من غيري.

نهض على الفور ثم ودعهما وغادر بنفس مُجهدةً من ازدياد الضغوط عليه وهو الذي يقف في منتصف الساحة وحيدًا منذ مفارقة والديه له حتى أنه لا يقبل الدعم المالي أو خلافة من أحدٍ.
•••••••••••••
أدخل سيارته إلى المرآب المُلحق بمبنى الإذاعة والتلفزيون، توجه إلى الدرج يصعدهُ بعد أن أوصل والده إلى البيت وطلب من صديقه أن يلحق به إلى موقع التصوير.

سلم على كُل شخصٍ يُقابله حتى وصل إلى الممر الذي تقبع غرفته به فوجد أحد الموظفين ينادي عليه ثم يقول بصوت هادئ:
-في واحدة مستنياك في الأوضة يا أستاذ تليد.

تعجب من كلامه فصاح باستغراب:
-واحدة؟!! عايزاني أنا؟
أومأ الموظف إيجابًا ثم رد بإيجاز:
-قالت إنك مديها ميعاد!!!

حاول "تليد" في هذه اللحظة تخمين ماهية هذه السيدة لتقفز صورتها سريعًا إلى عقله ولكنه انبهر بشجاعتها أو بالأحرى شخصيتها المجنونة التي تصعد فوق المصائب وتحلق بنفس خفيفة مُتألقة، أومأ بهدوء ثم سار نحو الغرفة وقبل أن يصل إلى بابها اختلس نظرة سريعة إلى النافذة ليصدق تخمينه على الفور، ابتسم بهدوءٍ ثم حاول أن يرسم الجدية على ملامحه وراح يطرق الباب ثم يدخل بسرعة.

استدارت إليه فوجدته يرمقها بنظرات باردة جعلتها تتوتر في قلقٍ ولكنها أشاحت عنه وظلت صامتةً، تحرك نحو مكتبه ثم جلس إليه وراح يسألها ببرود:
-خير يا آنسة وَميض؟!

رفعت "وَميض" أحد حاجبيها ثم تحولت ببصرها إلى حقيبتها وراحت تلتقط الميدالية منها ثم تضعها أمامه على المكتب وتقول بنبرة باردة:
-الميدالية دي تخصك؟!!!

سكتت هنيهة ثم أكملت بصوت مخنوق في انفعالٍ:
-بعد إذنك جاوبني بكُل صراحة، راعي إنك شيخ وحد قريب من ربنا يعني ماينفعش في كل حال من الأحوال إنك تكذب!!!

سقطت عَبرة حارة من عينيها ثم تابعت باستجداءٍ وتوسلٍ وهي تُفاجئه بلمس كفه الموضوع على المكتب:
-أرجوك!!!

لم يقوى على سحب كفه وظل مُتصلبًا، نزل بعينيه إلى الميدالية التي تحمل أول حرف من اسمه والتي تجمع الكثير من ذكرياتهما معًا، شعر ببوادر تجمع قطرات الدمع داخل بؤبؤ عينيه، تنهد بهدوءٍ وهو يتلمس الميدالية في اشتياقٍ ثم صرح بصوت خفيضٍ:
-أيوة الميدالية دي بتاعتي
!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
يتبع

 •تابع الفصل التالي "رواية رحماء بينهم" اضغط على اسم الرواية 

google-playkhamsatmostaqltradent