رواية رحماء بينهم الفصل التاسع 9 - بقلم علياء شعبان
(رُحماءٌ بينهم)
"كمثلِ الأُترُجَّةِ".
الفصل التاسع
~•~•~•~•~•~•~•~•~•
"أشعر وكأنما قدومها إلى دُنياي؛ هو بالشيء الصعب والنادر الحدوث؛ كسقوط المطر في قلب الصحراء".
•~•~•~•~•~•~•~•~•~
تسمر في مكانه وتجمدت أطرافه ما أن لمسته راجيةً إياهُ أن يغيثها من أرقٍ يُنغض نومها الهادئ مذ أن تعرضت لتلك الحادثة؛ رجتهُ أن يجيبها على أيٍ من تلك التساؤلات لعل خفقات قلبها المُضطربة في تيه تهدأ وتجد السبيلَ!!!
تابع حركات شفتيها في شرود رغم أنه لم يفعل قاصدًا؛ ولكنه غاب وسرح في كُل لحظة جمعته بها في طفولتها وكُل لحظة راقبها فيها عن بُعد بمشاعرٍ قانطة مُتأذية، تحرك بعينيه في خفة بين تفاصيل وجهها المنطفئة والميدالية القابعة بين كفها إلى أن تدارك ملمس أناملها على جلدٍ كفه، تنحنح بخشونة وهو يسحب كفه بسرعة رهيبة ثم يجذب الميدالية ويقول بصوت أجشٍ:
-والدتك عملت منها لكُل أطفال العيلة وإحنا صغيرين.
لاحظت تشنجه المكتوم وهو يسحب كفه مستفيقًا من سُكره، عقبت بصوت هاديء غلفه الحيطة فردت:
-مش فاهمة، تقصد مين بالعيلة؟!!
تنشق الهواء داخله بإتزان، شبك أصابعه سوية وراح يضيف مبتسمًا في ثبات:
-إنتِ حقيقي مش عارفة أنا من عيلة مين؟!!!
مطت شفتيها بتوجسٍ وراحت تنفي بصوت خافتٍ:
-أنا معرفش غير إن اسم حضرتك (تليد سليمان)!!!.
أومأ هازًا رأسه ثم أكمل عباراتها بهدوءٍ:
-تليد سليمان السروجي.
-نعم؟؟؟؟
صاحت بذهولٍ كبيرٍ بدا في جحوظ عينيها وهي تنظر إليه، هز رأسه دون أن يتكلم؛ فتابعت بتلعثمٍ:
-إنتَ من عيلة عثمان السروجي!!!
رد مؤكدًا على سؤالها:
-يبقى عمي، أيه؟ مكنتيش تعرفي!!
أومأت سلبًا وقد سقطت في منطقة عميقة من الدهشة جعلتها تلتزم الصمت تفكر في كلامه الذي أذهلها، تنحنح بصوت هاديء وقال مُحاولًا توخي الحذر من السقوط في بئر تحقيقاتها التي لا تنتهي:
-معتقدش إن الموضوع يستاهل كُل الصدمة دي؟!!
ابتلعت "وَميض" ريقها على مضض ثم قالت:
-الموضوع جديد عليا مش أكتر، تمام فهمت إن أمي هي اللي عملت لك الميدالية بس أيه اللي جابها في جيب الچاكيت؟!!
قطب ما بين حاجبيه ثم إدعى جهله بأمر السترة فسألها يمثل الترقب والفضول:
-تاني الچاكيت!!، الميدالية دي ضايعة مني من سنين، معتقدش إنك لقيتيها في جيب الجاكيت وحتى لو، أنا أيه علاقتي بكُل دا؟!!!.
تنهدت "وَميض" تنهيدًا ممدودًا بعُمقٍ قبل أن تضرب كفًا بالآخر ثم تقول بلهجة حازمة:
-خلاص تمام، حضرتك مش الشخص اللي أنقذني وهفترض إن الميدالية كانت واقعة تحت سريري وموقعتش من جيب الچاكيت.
تليد بصوت هادئ يترقب ما يلي استسلامها السريع ذاك؛ فتتابع بصوت حاسمٍ:
-أنا قررت أقتنع بالمبررات دي ومش ناوية أعترض طريقك تاني ولكن بشرط!!!
رد مُستنكرًا في غيظ:
-إنتِ مش شايفة إنك بتتجاوزي حدودك ولا نسيتي إني مديرك؟؟؟
أردف بصوت جافٍ رغم اتقاد نيران عنادها وهي تقول بنبرة هادئة تجابهه بنظراتها المفترسة لكافة تعابير وجهه
-لا مش ناسية، ولو عايزني أحل عنك فعلًا هعمل دا ولكن بشرط!
ابتسم خلسةً ثم رد بجمودٍ:
-شرط؟؟ عظيم، قوليه
هي تعقد ذراعيها أمام صدرها ثم تضيف بتحدٍ:
-أروح معاك بيتك دلوقتي وأدخل أوضتك وأفتح دلولابك، بس كدا، خطوات سهلة وبسيطة!.
انبسطت عقدة حاجبيه فقال مذهولًا:
-فعلًا سهلة؟!
هزت رأسها بمكرٍ وراحت تتحرك برشاقة تاركةً مقعدها ثم مالت نحوه وهي تتسند على مرفقيها وتقول بصوت متوعد ماكرٍ:
-دا شرطي الوحيد وإلا قسمًا بالله ما هسكت لحظة عن حل اللغز دا واللي أنا متأكدة إنك الشخصية الرئيسية فيه.
مازال يجلس شامخًا على كرسيه ولكنه أطرق بأنامله على سطح مكتبه ثم تساءل بصوت جافٍ صلبٍ:
-ويا ترى بقى ناوية تعملي أيه؟!
اقتنصت عينيه في نظرات جريئة منها تضاهي تمامًا شخصيتها القوية التي تتميز بالجرأة ولا تخشى في الحق لومة لائمًا، ابتسمت باستخفاف ثم صرحت:
-تخيل تقوم كُل يومٍ من نومك تلاقي كُل اللي بنيته بيتهد زيّ إن مثلًا "الداعية الإسلامي الكبير تليد سليمان شخص كاذب ومراوغ!!!".. ومش عايزة أقول لك إني عندي كتير يتقال!
سكتت لثوانٍ ثم أضافت باستمتاع هادىء:
-ولا أيه رأيك في مُتحرش! أشيك من مراوغ، مش كدا؟
ابتسم بهدوءٍ أشعل نيران استفزازها، أردف بصوت غليظٍ يأمرها من خلاله مشيرًا بنظراته إلى مقعدها:
-اقعدي مكانك!
بادلته ابتسامة مثيلة يختلجها رائحة التحدي، لم تسمع ما قاله فقربت أناملها ولمست كفه مرة أخرى، تأجج غضبًا في الحال ودون أدنى وعي منه التقط أناملها وراح يضغطهم بقوة مردفًا وهو يكز على أسنانه بعد أن نفد صبره:
-اقعددددددي مكااااااانك!!!
برقت بعينيها في صدمة من تحوله ثم أخرجت تأوهًا مخنوقًا وهي تجلس على كرسيها مرة ثانية بفعل دفعته لها، همَّت أن تبدي سخطها من فظاظة تصرفه إلا أنه قال بصوت أجش أرعبها:
-اسمعي، أنا معنديش حل لألغازك ومش أنا الشخص اللي بتدوري عليه وأتمنى تكوني رزينة أكتر من كدا ومن غير تجاوز لأني مش هقبل بلعب العيال دا في الشغل!!!
ضغطت على أسنانها بانفعال طفيف ثم أردفت:
-إنتَ قبلتني ليه في الشغل!!
افتر ثغره عن ابتسامة عبثية ثم قال:
-مش أنا اللي قبلتك أصلًا وكنت شايف إنك غير لائقة ولكن القرارات اللي زيّ دي مش باخدها لوحدي، بالتشارك مع صاحب الشركة وطبعًا هو شايف أن خبرتك بترجح كفتك.
رمقتهُ بنظرة جامدة ثم أردفت بلهجة مُسترخيةً:
-كويس إن ملكش أفضال عليا.
تليد موجزًا بصوت هاديء:
-تمام، مع السلامة.
انتابها الحرج من كلماته الحاسمة، تنهدت بضيق قبل أن أن تنهض من مكانها ثم ترمقهُ بعدوانية وتقول بنوايا واضحة:
-أنا همشي ومتأكدة إننا هنتقابل تاني وبإرادتك!!
في نفس الوقت، وقف "نوح" بجوار النافذة يختلس النظرات داخل الغرفة وقد سمع جل الحديث الذي دار بينهما، حمد ربه أنه أدرك وجودها في مكتب صديقه قبل الدخول ووقتها السر الخفي سوف ينجلي!!!.. فحينما أدرك وجودها قرر أن يبقى مُتربصًا بجوار النافذة وما أن رأى عزمها على الذهاب حتى أسرع بالاختباء إلى أن غادرت بخطوات ثائرة ومشاعر مشتعلة من ردود صديقه المُفحمة.
-تليد!!!
أدار "نوح" مقبض الباب ثم دخل على الفور فوجد "تليد" يسترخي برأسه إلى مسند الكرسي ويتنهد تناهيد مُتكررة مملؤة بالكثير الذي أوشك على أن يفيض على جانبيه:
-نعم؟!!
رد بصوت مخنوقٍ ومازال على حالته، فأسرع "نوح" بالجلوس أمامه ثم قال بفضولٍ متفاقم:
-نفسي أفهم بتكابر نفسك ليه؟! ما تقول لها إنك الشخص اللي أنقذها وتريحها ولا إنتَ عاجبك لفلفتها حوليك!!!
-كنت ناوي أقول.. صدقني كنت ناوي يا نوح.
صاح بصوت جهوري مخنوق يطل الانفعال من بين حروف كلماته، زفر زفرة طويلة وأعقبها صوته المتحشرج في ندمٍ:
-لو مكانتش سبقتني وقالت لي بموضوع الميدالية كنت قولت لها إني أنقذتها وخلصت، بس لساني اتلجم بمجرد ما شوفت الميدالية معاها.
نوح وهو يردف بعد ملء من التفكير:
-بس إنتَ قولت لها إن الميدالية دي ضايعة منك من سنين.
تليد بصوت هادئ:
-وهي مقتنعتش، دي عايزة تروح البيت تدور بنفسها في الدولاب!!!
قهقه "نوح" عاليًا وراح يضرب كفًا بالآخر ثم قال مبديًا إعجابه بذكائها:
-بصراحة ذكائها عاجبني، دي أول ما هتفتح الدولاب هتلاقي البنطالون الكحلي منور لوحده.
ابتسم "تليد" غُلبًا لقد كان بمثابة المغلوب على حقه بعد أن سُلب منه قهرًا؛ فقد خرجت عن بؤرة اهتمامه وحمايته مذ أن غادرت بيته القديم والآن يحاول أن يُدخلها إلى تلك البؤرة في الخفاء ولو لم يُقهر في سلبها منه عنوةً لكان اليوم يتغنى بحبها جهرًا وعلانيةً ولم تكن نبتته الناعمة الطيبة على هذه الحالة الآن؛ جريئة بصورة تدفعها نحو المتاعب!!!
-تليد!
تكلم "نوح" بنبرة هادئة جعلت الأخير يستفيق من شروده فيها ويرد بصوت خافتٍ:
-نعمين؟
نوح وهو يترفق بحال صديقه المشتاق في لوعة:
-ليه متقولهاش ببساطة كدا عن ماضيكم سوى وإنك بتحبها وتتجوزوا وقلبك يرتاح بقربها بقى!!
أومأ برأسه في ثبات يجاريه في حديثه البسيط الذي يخلو من الحواجز والعقبات بينما يمتلأ في الحقيقة بهما، أردف "تليد" بصوت رخيمٍ:
-لأسباب كتير، عِد كدا معايا!!
رفع "تليد" كفه أمام وجه الأخير وراح يضغط على أحد أصابعه ثم يقول باستكمال:
-أول سبب؛ إنها تعرف ماضينا سوى معناه إنها تعرف ماضيها هي!! ودا هينتج عنه انتكاسة واضحة في شخصيتها واحتمال حياتها تتقلب رأسًا على عقب ودا مش هنبسط بيه لو حصل!
انتقل بأنامله العلوية إلى الأصبع المجاور ثم دقق النظر في عيني نوح وتابع بثبات:
-تاني سبب؛ أُترُج في شخص في حياتها، الحقيقة مش عارف هو بالنسبة لها أيه، بس فرضًا اعترفت لها بالماضي هتجري عليا وتاخدني بالحضن وتنسى حياتها والناس اللي فيها!! فلازم أعرف الأول الشخص دا موقعه أيه من الإعراب في حياتها!
انتقل إلى ثالثهما ثم صرح بعد أن ابتلع غِصَّة مريرة في حلقه:
-التالت والأهم؛ أنا أكبر منها بعشر سنين يا نوح؛ أيه اللي يجبرها تميل وتحب واحد أكبر منها بالفرق الشاسع دا؛ أكيد أحلام بنت زيها إنها تتجوز شاب قدها وتفكيرهم يشبه بعضه!
انتقل إلى الأصبع الرابع وصوته المخنوق يشتد مع كُل سببٍ:
-السبب الرابع يا نوح، إن أُترُج اتربيت على عادات متشبهلناش، لبسها وجرأتها مخليني بفكر طول الوقت؛ هل هتقبل التغيير اللي أتمنى أشوفها عليه؟ تستغنى عن طريقة لبسها وطريقة حجابها الغريبة دي وتحسن كُل المفاهيم المغلوطة عندها علشاني!! لمجرد بس إنها عرفت إني أنقذتها في طفولتها وشاركتها في جزء من حياتها وبحبها!!!
همَّ "تليد" أن يتابع جبل أسبابه الذي يحول دون التقائهما؛ فيصف تقاطع طرقهما كالمطرٍ الذي يسقط في الصحراء بنُدرة وصعوبة!!!!
أوقفهُ "نوح" مُضيفًا بلهجة مُستسلمة:
-بسسسس، كفاية أسباب، شيلتني الهم معاك، بس إحنا بردو لازم نلاقي حل!!!!!
•~•~•~•~•~•~•~•~•~
كانت تنام على فراشها قريرة العين بعد أن استيقظت تعاون زوجها على التجهز للذهاب إلى العمل ثم خلدت للنوم عقب ذهابه؛ ورغم محاولاته المُستميتة ألا يزعجها وأن يفرغ من تقضية حاجاته بنفسه إلا أنها تُصر على الاستيقاظ ومساعدته ولو بالقليل ثم إعداد كوب الشاي مع بعض الشطائر والتي لا تحبذ أن يصنعها له غيرها.
كان يُحب إصرارها على تلبية احتياجاته بنفسها دون أن يحتاج إلى أحدٍ؛ ولكنه يثقل عليه تحميلها فوق طاقتها فكان أحيانًا ينزل عن الفراش بتوجسٍ ثم يتسحب على أطراف أصابعه كما الريشة التي لا يمكنك الشعور بها ولكنها تفاجئه بوعيها لكُل ما يفعل فتبوء محاولاته جميعها بالفشل.
كانت تغط في سكينة حتى وصل مسامعها صوت طرق عنيف على بابٍ غرفتها فظنته هجومًا مُسلحًا يهم على الفتك بها!.. انتفضت من نومتها جالسةً وراحت تصيح بصوت مُرتجفٍ يخرج بالكاد:
-مين؟؟؟
ردت الأخيرة بحزم:
-افتحي.
ارتخت جفونها ببعض الطمأنينة رغم توجسها من صوت الأخيرة الذي لا يُنبىء بالخير البتة، مسحت على وجهها بأرق قبل أن تتدلى من الفراش ثم تتجه إلى الباب وتفتحه لتجد "تماضر" ترميها بنظرات شزراء ثم تصيح مُمتعضةً:
-نايمة على ودنك ولا أية يا شروق هانم!!!
شروق تجيبها بتلقائية:
-أيوة، أمال هنام على أيه!!!
أسرعت "تماضر" بمحاصرة ذراعها ثم همت تجذبها منه وهي تقول بصوت حادٍ:
-طيب قدامي يا أم لسانين!
زوت "شروق" ما بين عينيها ثم أردفت بتوجسٍ:
-على فين يا ماما!!!
تماضر بنفاد صبرٍ:
-على البراندة، مش هخطفك يعني!
شروق وهي تتحسس رأسها ثم تضيف بامتعاض:
-طيب لحظة أغسل وشي وألبس الطرحة حتى!!!
سحبتها "تماضر" عنوةً دون أن تأبه لاعتراضها وراحت تقول بلهجة حازمة:
-مفيش داعي للطرحة، البراندة كلها حريم، تعالي.
نزلت "شروق" بعينيها إلى كف الأخيرة المُحكم على ذراعها ثم استسلمت تسير معها في صمت إلى أن دخلت ردهة المنزل ورأت مجموعة من السيدات يجلسن في حلقة مفرغة بعد أن نزعن أُغطية الأرضية ويضعن في منتصفها وعاءً معدنيًا به بعض الأقمشة المحشوة بشيء ما جعلها مُنتفخة بصورة واضحة ثم رُبطت جيدًا، صحبتها "تماضر" إليهن ثم صاحت بصوت جافٍ:
-تعالى علشان تخطي.
التوى شدقها وراحت تستفسر متوجسةً خيفةً:
-أخطي أيه مش فاهمة؟!!
تماضر وهي تضع كفيها على بعضهما ثم تتابع بثبات:
-اسمعي، دي عادة عندنا بنعملها للستات اللي بتتأخر في الخلفة.
همَّت "شروق" أن تستدير مُحاولةً التملص من بين كفها إلا أن الأخيرة صرخت فيها بصوت هادرٍ:
-رايحة فين؟!!
شروق ترد بصوت مخنوقٍ:
-أنا مستحيل أعمل الهبل دا.
تماضر وهي تضغط على ذراعها أكثر ثم تقول بحدة:
-دا مش هبل دا كلام نتيجته هتشوفيها بعد شهر أو اتنين بالكتير.
رمقتها "شروق" بقلقٍ وراحت تتنقل ببصرها بين اللوح المعدني وبين النسوة وقد خفق قلبها جراء كلمات الأخيرة وخشيت أن يصبنها بأذى، لم تتركها "تماضر" تقع في منطقة عميقة من تفكيرها لتسحبها إلى منتصف الحلقة ثم تُشعل إحدى السيدات إناءً من الفخار يخرج البخور من ثقوبه، ارتجفت ساقيها بوجلٍ إلى أن صاحت "تماضر" بها وهي تقول بصوت صارمٍ:
-يا بنتي إنتِ مكبوسة ومفيش غير التخطية هي اللي هتحل لك عقدة تأخرك عن الحمل.
شروق وهي تهتف بامتعاض:
-يعني أيه مكبوسة؟!!
زفرت "تماضر" بغيظٍ ثم صاحت فيها:
-مكبوسة يعني أرضك بور، خطي يا بنتي متغلبيناش!!
عضت "شروق" شفتيها ذعرًا ولكنها لم تجد مفرًا من تنفيذ رغبات تلك، تمشت إلى اللوح على مضض فوجدت إحدى السيدات تقول بهدوءٍ:
-خطي تلت مرات يا بنتي!
فعلت "شروق" ما أُمرت به فخطت الأولى فالثانية فالثالثة ولكنها تفاجأت بإحدى العاملات بالمنزل تدخل عليهن ومعها ضأنًا وفي الكف الآخر ساطورًا؛ ارتجفت "شروق" بصدعٍ وراحت تتراجع للوراء بخوف، تناولت نفس السيدة التي طلبت منها التخطي الضأنَ من العاملة ثم وضعته بجوار اللوح وبحركة مُباغتة جريئة قامت بذبحه على الفور فسالت الدماء الساخنة تُغرق الأرضية وهنا صاحت السيدة تأمرها بصوت مُتعجلٍ صارمٍ:
-خطي من على الدم تلاتة، بسرعة قبل ما يبرد ويجلد!
زجرتها "تماضر" بنظرات قوية حادة، تحاملت على نفسها بالكاد وراحت تجر ساقيها إلى أن نفذت ما طُلب منها ثم تراجعت بجسد مُرتجفٍ حتى لم تعد قدماها تحملانها فغشت في الحال ساقطة على الأرض لترتطم رأسها بقوة.
•~•~•~•~•~•~•~•~
-عُمر!
فتحت "سكون" البابَ بحرص وراحت تنادي عليه بعد أن أطلت برأسها من وراء الباب قليلًا فوجدته يجلس بكرسيه داخل الشرفة ويتأمل المكان من حوله، ابتسمت بهدوء ثم تسحبت رويدًا حتى وقفت خلفه فانحنت إليه ثم لثمت خده في قبلة سريعة وأردفت:
-سرحان في أيه يا كازانوڤا!!
ابتسم ابتسامة ساخرة ظهرت على جانب شفتيه وقال متذمرًا جراء سخريتها به:
-كازانوڤا بردو؟!! العاجز منين هيبقى كازانوڤا، الكلام دا كان زمان وأنا بصحتي.
رفعت "سكون" أحد حاجبيها ثم أضافت بمكرٍ وفكاهة:
-طيب أيه رأيك إن الدليل على كلامي مستنيك تحت!
عُمر يضيق عينيه ثم يقول متوجسًا:
-دليل أيه؟!
سكون بابتسامة ودودة تتابع:
-في بنوتة زي القمر سألت عنك وقاعدة في أوضة الضيوف مستنياك.
اندهش يسأل بفضول يجتاح كيانه كُله:
-بنت وبتسأل عليا أنا؟!
خفق قلبه بوجلٍ أن تكون (هي) ويُكشف هذا الأمر الآن، نبش غُرة رأسه قبل أن يسأل شقيقته بحذر:
-متعرفيش اسمها أيه؟!
مطت شفتيها ثم نفت بتوجسٍ:
-معرفش، مالك اتوترت كدا ليه؟!
عُمر يرد بقنوط:
-إنتِ عارفة كويس أوي إني مش جاهز للمواجهة دي خالص.
سكون وهي تصيح فيه بتذمر كي يقوى على كُل شيء يخنق أنفاسه:
-لحد إمتى يا عُمر؟! ومتقوليش مش عارف، إنت لازم تعرف ولازم تستعد لمواجهة أي حد في أي وقت، إنتَ مش معيوب بحاجة لا سمح الله علشان تستخبى وتِنِخ!
سكتت هنيهة ثم صاحت فيه بانفعال خفيف:
-ولعلمك إنتَ لو منزلتش معايا تواجهها بالحقيقة، صدقني يا عُمر إني عمري ما هسامحك أبدًا والصداقة اللي ما بينا هتخسرها.
عُمر وهو يرمقها بقوة ثم يرد بصوت مخنوقٍ:
-متلويش دراعي يا سكون.
سكون بصوت ثابت:
-أنا برفع لك راسك بس إنتَ اللي مش عايز تشوف دا.
انسحبت من أمامه وهي تخطو خطوات مندفعة نحو الباب إلى أن وجدته يصيح فيها بصوتٍ ثابت:
-خديني معاكِ!
تهللت أسارير وجهها وهي تلتفت إليه مرة ثانية ثم تذهب نحوه وتدفع كرسيه أمامها وهي تقول بنبرة مُنتصرة أصابت مرادها:
-خليك قوي، مش ست اللي تهزك، تمام؟!.
عُمر بابتسامة خفيفة يجيبها:
-تمام يا قدري!
دفعت الكرسي أمامها بشماختها المعهودة حتى سارت به إلى باب الغرفة، لاحظت توتره وتشنج عضلات وجهه كلما تذكر ما فعلته به بدم باردٍ، قامت "سكون" بالربت على كتفه تحثه على الثبات والشموخ وبدوره تنشق الهواء داخله مُستعدًا لكُل حدثٍ سيلقاه بعد تجاوز عتبة هذا الباب!!
طلب منها أن تتابع دفع كرسيه للداخل وما أن تجاوز الباب حتى وجد "رويدا" تنهض في مكانها بسرعة وهي تزوي ما بين عينيها ثم تقول:
-إزيك؟ أنا رويدا، فاكرني؟!!
أومأ دون أن ينبس ببنت شفةٍ؛ فأضافت وهي تتلفت حولها:
-أمال فين عمر!!
تنهد بجرأة ثم أطلق لسانه يقول:
-رويدا عايز أقول لك على حاجة مهمة أوي، أنا …
قطعت حديثه وهي تقول بصوت مخنوقٍ:
-عُمر.. إنتَ عُمر!
رمقها بنظرة جامدة ثم قال بجمود:
-أه عُمر.. اللي رفضتي تشوفيه عاجز أو تدي فرصة لنفسك إنها تحتار في أيهما؟!.. اخترتي بعين التمني، مش كدا؟!.
لم تكُن تبدي قيد أُنملة من الدهشة حتى فتعجب لذلك ولكنه لم يُعلق، تنهدت بمثابرة ثم أفصحت:
-اخترت بعين الوجع يا عُمر، لمَّا قلبي يقول لي (هو) وأنكر دا مش علشان عاجز علشان متخيلتكش كداب، العجز مش وصمة يا عُمر، بس الكذب في حد ذاته عجز عن تقبل إرادة ربنا.
صرحت بكُل ما ملأ نفسها المهمومة وتحدثت فيه بطلاقة تنفس عن نفسها وقلبها المُتأذٍ من صاحبه، كادت أن تبكي لولا أن انسحبت من أمامهما وهي تغادر على الفور، فيما أطرق "عُمر" شاعرًا بالخزي والألم وهو يُفكر في كُل كلمة لفظتها في انزعاج وأذى منه!!!!
•~•~•~•~•~•~•~•~•~•
-ويا ترى مين دي اللي طلبت تشوف عُمر!!!
أردف بصوت رخيمٍ أثناء تركيز بصره بين صفحات الجريدة جالسًا في حديقة القصر بصحبة زوجته، ابتسمت "نبيلة" بهدوءٍ ثم أجابته:
-بتقول إنها زميلته وسُهير خدتها لأوضة الضيوف ومكملتش ربع ساعة ومشيت!
أومأ يتظاهر غير مبالٍ بنزوات ابنه الذي تعرض لحادث جعله أقل ثقةً بالنفس خاصةً بعد تصريحات الأطباء بفقدان الأمل في حالته حتى لو ذهب به لآخر العالم من أجل علاجه فقد أُصيب بشلل تام في ساقيه حتى أنه دخل في غياهب غيبوبة طالت لشهرين ونصف الشهر واستيقظ بعدها وقد أكلت الغيبوبة جُزءًا من ذكرياته وعانى كي يتذكر الجُزء الآخر منها.
تنحنحت "نبيلة" بحذر قبل أن تقول بخفوت:
-عثمان! إنتَ مش ناوي تكلم شروق؟!
رمقها بنظرة جامدة من وراء نظارته الخاصة بالقراءة، فتلجلجت وهي تقول مُتلعثمة:
-يا عثمان دي بنتنا مهما حصل!!!
عثمان بصوت حادٍ يسأل:
-إنتِ بتتكلمي معاها؟!
حاولت أن تبدو ثابتةً ولا تتزعزع إثر سؤاله، أومأت بنفي قاطعٍ أذهب عنها الشك؛ ولكنها تابعت بنبرة مُتلهفة يغلفها لوعة الفراق:
-لأ مبتكلمش، بس لو الموضوع طوَّل عن كدا أنا مضمنش نفسي، أنا بنتي وحشتني يا عثمان!!
عثمان وهو يهدر فيه بلهجة صارمة:
-وإنتِ عايزاني أروح أترجاها تيجي تزورنا وتسأل على أبوها وأمها؟!!!
نبيلة وهي تتنهد بحزن ثم تقول:
-أكيد لأ، بس أنتَ سمعت سليمان بنفسك لمَّا قال لك اسأل عن شروق ودا معناه إنها متأذية من فراقها لينا.
عثمان وهو يشيح ببصره للناحية الأخرى ثم يرد بصوت أجشٍ:
-لو متأذية كانت رجعت لبيت أبوها، مكانتش استغنت بجوزها عننا كلنا، أنا مش عايز كلام في الموضوع دا تاني، سامعة!!!
ابتلعت ريقها بالكاد وهي تنتفض إثر نبرة صوته الهادر ثم تُقرر التزام الصمت لحين استكمال الحديث في وقت لاحق يكون فيه في مزاج جيد لسماع كلمات الشوق واللوعة التي تكنها لابنتها الغائبة.
•~•~•~•~•~•~•~•~•
صر بقوة على أسنانه ووجهه مُحتقنًا بدماءٍ الغضب الذي بلغ مبلغه منه، جلس على طرف الفراش ثم أمسك بخرقة مبللة بالماء وراح يمسح بها جبهة زوجته المُصابة بندوب واضحة تسيل منهم خيوط من الدماء رفيعة للغاية وقد ورمت بصورة كبيرة جعلته يثور في كُل شخصٍ يراه أو يتحدث إليه، كظم غيظه لبعض الوقت؛ ولكنه لم يقدر على كبته أكثر من ذلك فأول ما رأى والدته تأتي إلى غرفتهما حتى صاح بصوت جهوري:
-ممكن أعرف أيه اللي إنتِ عملتيه دا يا أمي؟!
أشاحت "تماضر" بوجهها بعيدًا عنه ثم قالت بصوت ثابت:
-عملت أيه؟ مراتك مكبوسة وكان لازم لها فك.
رفع "عِمران" أحد حاجبيه ثم التفت إلى زوجته وراح يتفحصها قليلًا قبل أن يقول بلهجة تجهل مقصد والدته ولكنه اجتهد في أن يصل لمعنى من هذه العبارة:
-مكبوسة إزاي يعني؟! مربربة؟؟ مقلوظة؟!! دي حتى شروق خفيفة يعني!
تماضر بغيظٍ من استخفافه:
-مكبوسة يعني متأخرة في الخلفة من غير سبب ودا علاجه بيكون التخطية.
عِمران وهو يترك الخرقة على جبهة "شروق" ثم يلتفت إلى والدته ويصيح بصوت عالٍ قانطٍ:
-يا ستي هو أنا كُنت قولت لك عالجيها؟!!
سكت لبُرهة ثم أضاف مستنكرًا:
-وبعدين تخطية أيه دي اللي مخلياها مبتنطقش من ساعة ما فاقت!!!
تماضر ترد بامتعاض:
-مراتك طرية وخِرعة يا عِمران، وقعت من طولها لمَّا شافت الخروف بيتدبح.
عمران وهو ينهض من مكانه ثم يمشي إليها مُضيفًا بصدمة:
-اللهم صلي على حضرة النبي، إنتِ دبحتي خروف قدام شروق مراتي؟!!
تماضر تقف شامخةً ثم تقول بجمود:
-أيوة
رفع "عمران" كفيه على رأسه ثم أردف بصوت مهزومٍ حانقٍ:
-طبيعي تفقد النطق، طبيعي!
•~•~•~•~•~•~•~•
-خير يا سيد، في حاجة ولا أيه؟!
تساءل "عثمان" بهدوءٍ أثناء جلوسه بالحديقة حينما رأى حارس البوابة يسير إلى البوابة الداخلية للقصر، أجابه الأخير بصوت هادئ:
-أستاذة وَميض، طلبت مني أنادي الست سهير ومش راضية تدخل القصر.
رفع "عثمان" أحد حاجبيه ثم قام واقفًا في مكانه وراح يقول بلهجة حازمة:
-روح إنتَ على شغلك ومتسيبش البوابة لأي سبب أو علشان أي حد.
أومأ الأخير مُطيعًا وهرع عائدًا إلى البوابة، تحرك "عثمان" خلفهُ بحركات ثابتة فتعجبت "سكون" وأسرعت تقول بتوجسٍ:
-رايح فين يا بابا؟!!!
لم يجيب على سؤالها وتوجه نحو البوابة فوجدها تقف على جنب تنتظر خروج والدتها إليها.
-حالفة على القصر ولا أيه؟!.
اقشعر جسدها حينما تفاجأت به يتحدث بالقرب منها، استدارت تواجهه ثم أردفت بصوت هادئ:
-عايزة أمي في موضوع مهم وماشية على طول.
عثمان وهو يعقد ذراعيه أمام صدره ثم يقول بلهجة مزدرية لشخصها:
-وتمشي ليه! القصر دا مكانك الطبيعي للخدمة، إنتِ ناسية إن أبوكِ وأمكِ بيخدموا هنا ولا هتتبرأي منهم؟!!
وَميض وهي تعقد ذراعيها مثلما فعل ثم ترد بصوت جافٍ:
-لا عاش ولا كان اللي يخليني أجحد فضل أبويا وأمي عليا، وتصحيحًا للغلط اللي قولته فأبويا وأمي مدبرين مش خدامين، مدبرين لأمور بيتك اللي من غيرهم مكانتش هتمشي لأن حضرتك طبعًا مشغول في حاجات تانية!!
عثمان بصوت أجشٍ يقول:
-إذا أنتَ أكرمت الكريم ملكته وإن أكرمت اللئيمَ تمردا!!
وَميض بلهجة حادة تسأله مُتهكمةً:
-أكرمتني بأيه؟! أو ليك فضل عليا في أيه؟! وأيه سر عداوتك ليا؟ دا أنا حتى نفذت لك كُل اللي طلبته مني زمان!، معقول الثورة دي كلها علشان سربت خبر حقيقي عن واحد مُجرم!! انتفاضة حضرتك علشانه معناها حاجة واحدة بس!
ضيق "عثمان" عينيه فوجدها تُضيف بنبرة كريهة تنال منه:
-إلا إذا كُنت شريكه في نفس الجُرم!!!
في تلك اللحظة داهم خدها صفعة قوية أفقدتها التزامها حيث رفع ذراعه بأقصى طاقة وقوة لديه ثم نزل بملء قوته على وجهها، صرخت متأوهةً فيما هرعت "سكون" إليها ثم أردفت بصوت مخنوقٍ يحفه الدهشة:
-بابا!! ليه كدا؟
عثمان وهو يصيح عاليًا في غضب جامحٍ:
-دي بنت قليلة رباية وطالما علام وسهير فشلوا في تربيتها فأنا اللي هقوم بيها.
انهى حديثه ثم أحكم قبضته على غطاء رأسها وراح يدفعها بقوة للداخل، صرخت "وَميض" فيه عاليًا شاعرة بالسخط والغضب على ما يفعله بها؛ وكذلك ترجته "سكون" وهي تهرول خلفهما أن يتركها ولكن دون فائدة.
ثمة أعين تتربص بهما من البداية وما أن تأججت نيران الخصومة بينهما واشتد لهيب النزاع حتى أسرع الرجل بإجراء اتصاله العاجل وما أن سمع صوت الأخير حتى تابع بنبرة متعجلة:
-الحق يا أستاذ تليد، آنسة وميض راحت قصر عثمان بيه وقامت خناقة كبيرة بينهم وضربها!!!!!
يتبع.
•تابع الفصل التالي "رواية رحماء بينهم" اضغط على اسم الرواية