رواية حب رحيم الفصل التاسع 9 - بقلم سمر عمر
” احتواء..”
وقفت أمام المرآة و وضعت البلورة عليها ثم ادارتها لتصدر صوت موسيقى هادئة وهي تستدير وحدها.. ثم ارتدت القلادة وتحسستها وهي شاردة في الفراق حقًا سيكون صعب على الأولاد أكثر مما سيكون صعب عليها ..لكن لن تتحمل كلمة زائدة من رحيم فكرامتها فوق كل شيء ..
هلكت من كثرة التفكير لترفع يديها تحيط بهما رأسها تضغط عليها بقوة متجه صوب الفراش لتلقي بجسدها عليه وحاولت جاهدة أن تخرج تلك الأفكار من رأسها..
دقت الساعة السابعة مساء وقد جهز الأولاد لتناول العشاء في الخارج اليوم برفقة عمهم ..وقفت أشرقت أمام غرفة ندى وقرعت الباب بيدها الصغيرة ولم تستقبل أي رد.. فرفعت جسدها قليلًا وادارت مقبض الباب ودخلت لتجد ندى نائمة.. صعدت على الفراش وبدأت تربت على ذراعها مناديه عليها :
-ندى اصحي ..ندى ..ندى
فتحت عيناها ببطء حتى نظرت إلى أشرقت فرفعت ظهرها عن الفراش وتساءلت بنعاس :
-أشرقت حصل حاجة ؟!
-لاء ..بس يلا علشان تخرجي معانا عمو مستني
تنهدت بهدوء واضعة ظهرها على الفراش ثانية وقالت بكسل :
-حبيبتي أنا مش هقدر اجي
لوت ثغرها الصغير بتذمر ثم مددت بجوارها واضعه ذراعها على ندى قائلة :
-خلاص مش هروح وهنام معاكِ
ابتسمت ندى وأخذتها في أحضانها وقبلت رأسها ثم قالت مضطرة :
-هـغير هدومي واحصلك
فرحت الصغيرة وقبلتها على وجنتها ثم خرجت مغلقة الباب خلفها ..نهضت ندى ودخلت الحمام لتضع وجهها أسفل الماء وبعد لحظات خرجت لتبدل ثيابها بـ تنورة تصل إلى قبل ساقيها بقليل لونها بني فاتح بحزام بذات اللون على الخصر ثم ارتدت سترة بيضاء بأكمام من الشيفون وقامت بوضعها داخل التنورة ..مشطت شعرها ثم انحنت بجذعها لترتدي حذاء بكعب عال ثم التقطت حقيبة يدها التي بلون التنورة وخرجت..
دخلت المطبخ لتخبر السيدة وفيه بخروجها مع الأطفال ومستر علاء ثم خرجت مغلقة الباب خلفها ..أخذ يفحصها كليًا بعينين جرأتين ثم فتح لها الباب الأمامي لتدخل السيارة متمتمه بالشكر ثم أغلق الباب وجلس أمام المقود مغادرًا بهم ..التفتت ندى برأسها لترى الأولاد يلعبون على الهاتف الخاص بالألعاب ثم نظرت إلى الأمام شاردة ..كان علاء ينظر إليها تارة وينتبه من الطريق تارةً أخرى أما هي فعقلها منشغل برحيم لدرجةٍ كبيرة ..لدرجة خطفت قلبها و روحها أيضًا وعندما تذكرت معاملته القاسية معها اليوم اجتمعت الدموع حول مقلتيها ولكن سرعان ما أخذت منديل ومسحت أسفل عيناها..
عند وصولهم أمام أفخم مطاعم البلدة صف السيارة فترجلت ندى وفتحت الباب الخلفي ليهبط ريان من السيارة بمساعدة ندى فيما ساعد علاء ابنة أخيه على الخروج من السيارة بواسطة الباب الثاني ثم ضغط على زر إغلاقها.. دخلوا المطعم وسحب المقعد لتجلس ندى وأشرقت على المقعد المجاور لها ..ثم حمل ريان واجلسه على المقعد المقابل لشقيقته ليجلس هو أمام ندى وطلب لهم العشاء ..
كانت ندى معهم جسد فقط لكن روحها وعقلها وقلبها مع رحيم ..لاحظ علاء شرودها فتساءل بفضول :
-مين اللي واخد عقلك يا ندى ؟!
لتنظر إليه بعدم وعي قائلة :
-ها ..قلت حاجة
ضحك ضحكة خفيفة مستندًا بيديه إلى الطاولة وقال بمكر :
-واضح اللي واخد عقلك مكتفاش بيه واخد قلبك كمان
استعادت وعيها وأطرقت عيناها بحزن قائلة :
-أنا بس بفكر في بكره
بدأت عيناه تفحص ملامح وجهها بغزل وقال بصوت مبحوح :
-واحده جميلة زيك المفروض متشلش هم بكره
كانت أشرقت تتابع حديثهم وبمجرد أن انتهى علاء من حديثه قالت دون تردد :
-بابي هيتجوز ندى
لينظر علاء إليها مندهشًا فيما جحظت عيني ندى ناظرة إليها في دهشة وقد شعرت بالخجل الشديد من قولها وتساءل علاء بلؤم :
-وبابي هو اللي قالك ؟!
-لاء بس أنا قلتله اتجوز ندى
لتقول ندى بحنق :
-أشرقت ..عيب لما تتكلمي في حاجة زي كده
نظرت إليها تعتذر لها فيما قال ريان بهدوء :
-علشان متبعديش عننا يا ندي
نظرت إليه ومدت يدها لتمسك بيده الصغيرة وهي تتألم من الداخل وقالت مضطرة :
-مش هبعد ..بس بلاش نتكلم في الموضوع ده
استمعا إلى حديثها فتركت يده ونظرت إلى الفراغ ليتمعن علاء بالنظر إليها ليرى توترها و وجنتيها التي اصطبغت بحمرة الخجل فعلم أنها تميل إلى رحيم ..جاء النادل وضع أمام الصغار البيتزا و وضع أمام ندى شوربة الخضار التي طلبتها وأيضًا علاء الذي طلب مثلها مع وجبة عشاء.. أمسكت بالملعقة تقلب في طبق الشوربة في شرود فيما كان يتناول علاء الشوربة وعيناه مسلطة عليها ..
بعد لحظات من الصمت أخذ قطعة من اللحم بالشوكة ومد يده إلى ندى قائلًا :
-ندى كلي
لترفع رأسها إليه واومأت بالنفي على أنها لا تريد ولكن هو أصر فتناولت قطعة صغيرة ليبقى نصفها على الشوكة فوضعها داخل فاه مستمتعًا بأنه تشارك بها مع ندى ..ثم ترك الشوكة وأخذ الملعقة ليأخذ أرز بسمتي ومد يده إليها مصرًا على أن يطعمها فتناولت الأرز وبدأت تتناول الشوربة فقال ريان بتذمر :
-على فكرة ندى بتعرف تاكل لوحدها
ابتسمت ندى ناظرة إلى عيناه لترى الغضب داخلهما ..الغضب الذي يشبه غضب رحيم ولكن على شكل صغير فيما قال علاء بمرح :
-أنا بشجعها تاكل يا أستاذ ريان
***
في المنزل دقت الساعة العاشرة والربع مساءًا عاد رحيم من عمله ينظر حوله ليرى المنزل هادئ كغير عادته ..فكان دائمًا صوت ندى والأطفال في الإرجاء ..انتقل ببصره تجاه غرفتها و وجد نفسه يتقدم نحوها لأنه حقا أشتاق لرؤيتها لكن سيخترع أي حجة ليتحدث إليها ..وقف أمام الباب يدقه بقبضة يده وانتظر رد ولم يوجد فقام بفتح الباب وانتقل ببصره في جميع انحاء الغرفة لم يجدها ..فدخل مغلقًا الباب خلفه ورأى ثيابها التي كانت ترتديها على الفراش فأخذ كنزتها البيضاء وضعها على أنفه يستنشق عطرها الذي يخطف أنفاسه ويجعله يعشقها أكثر وأكثر ثم اتجه صوب المرآة و وقف ينظر إلى أغراضها بابتسامة ظهرت على عيناه قبل ثغرة ..وضع الكنزة على المقعد ليتناول عطرها يضمه إليه وحمل البلورة بيده الأخرى ينظر إليها عن قرب ثم وضعها كما كانت و وضع العطر أيضًا ثم قال وهو يلمس كل شيء يخصها :
-بحبك يا ندى
بعد دقائق أستمع إلى صوت سيارة فخرج من الغرفة متجه نحو الدرج وعيناه على الباب و وقف واضعًا قدمه اليسار على أول درجة ..بعد لحظات فتح علاء الباب لتدخل ندى فتحولت ملامح الاشتياق والحب إلى ملامح وحشيه قاتلة بفضل الغيرة التي سيطرت على عقلة وقلبه حتى أنفاسه التي تخرج تشبه شرارات الجحيم ..نظرت ندى إليه بحزن ثم هبطت بمقلتيها إلى قبضة يده الذي يعتصرها.. بينما دخل كلا من ريان وأشرقت وأغلق علاء الباب ثم التفت ليرى شقيقه والذي تحرك متجه نحوه ووقف على بُعد خطوتين منه متسائلًا بصوت عنيف :
-كنتم فين ؟!
أجاب ببرود :
-كنت بخرج الأولاد أنا وندى
رمى ندى بنظرةٍ قاتلةٍ فأطرقت عيناها ليعود بالنظر إلى شقيقه وقال بنبرة حاده بدافع الغيرة :
-لو عايز تعمل سهرة تعارف يبقى متخدش الأولاد معاك
لتنظر ندى إليه بعينين لامعتين من الدموع وقالت بحنق :
-سهرة تعارف؟!
لينظر إليها بنظرات من الجحيم وصاح بعنف :
-أنتِ تخرسي خالص
خرجت السيدة وفيه من غرفتها على صوتهم فيما قالت ندى ببكاء هستيري :
-لاء مش هخرس ..ومش هستحمل الإهانة دي أكتر من كده
ثم ركضت إلى غرفتها فلحقت أشرقت بها وهي تناديها وأيضًا السيدة وفيه ..دخلت ندى الغرفة وألقت بجسدها على الفراش تبكي بحرقة.. فجلست أشرقت إلى جوارها تربت على كتفها فيما أغلقت وفيه الباب وحاولت تهدئة ندى..
أما في الخارج ركض ريان إلى الدرج ليصعد إلى غرفته وقال علاء بتذمر :
-ارتحت كده لما جرحتها قدامنا وزعلت ولادك
لينظر رحيم إليه بنظرة حادة كالصقر ثم تركه متجه نحو غرفة المكتب ودخل مغلقًا الباب خلفه عنوة.. حرك علاء رأسه في كلا الاتجاهين بأسف ثم صعد إلى غرفته..
بعد دقائق ليست قليلة خرجت السيدة وفيه من غرفة ندى متجه نحو المكتب وعند وصولها دقت الباب ثم فتحته ودخلت لتجده ممددًا على الأريكة واضعًا ذراعه على عيناه.. وقفت تنظر إليه بحزن فهي تعلم جيدًا أنه يعاني ويغضب ويعود يأنب نفسه ويندم على ما يفعله.. تساءلت بنبرة بكاء :
-أنت كويس يا بني ؟!
تنحنح بخفة وأجاب عليها بهدوء على عكس ما يشعر به من ألم :
-أنا بخير
ثم نهض عن الأريكة وتناول معطفه الذي ألقى به على المقعد وخرج من الغرفة متجه نحو الباب فلحقت به بخطوات سريعة وتساءلت بتوجس :
-على فين يا بني ؟!
اجاب بصوت مهلك :
-هبقى كويس متقلقيش
ثم خرج مغلقًا الباب خلفه واستقل سيارته بدون السائق ليغادر وأخذ يتجول في الشوارع دون أن يعلم إلى أين سيذهب ..لفت نظره محل ورد على وشك أن يغلق فصف سيارته جانبًا وعاد إلى المحل وطلب باقة ورد بيضاء وانتظر حتى انتهى وأخذها ليعطي له المال ثم استقل السيارة وغادر إلى حيث يعلم..
عند وصوله صف السيارة وتناول باقة الورد ثم ترجل ورفع رأسه ليقرأ اللافتة بعينيه ” مقابر عائلة النادي ” ثم أخرج من جيب سرواله المفاتيح وقام بفتح البوابة ثم دخل متجه نحو قبر والده ووقف أمامه ينظر إلى أسمه بعينين أصبحت حمراء بفضل الدموع التي اجتمعت حول مقلتيه وتذكر أخر لقاء بينهما..
كان ينتظره في الخارج وعندما خرج والده احتضنه رحيم فبادله بالعناق الأبوي وقال رحيم مداعبًا :
-أنا مكنتش عايزك تخرج النهاردة علشان صحتك ..لكن هسمحلك النهاردة بس
أبتسم وضربه على كتفه من الخلف بخفة ثم تنهد وقال :
-متقلقش عليا يا حبيبي
ابتعد عنه وقبل يداه ثم فتح له الباب الخلفي من السيارة ليجلس على المقعد ثم أغلق الباب و أدخل يده من نافذة السيارة ليمسح على كتف والده و قال مبتسمًا :
-هروح الشركة وارجع الاقيك في البيت
أمسك بيد ابنه وقبلها بحنان فقبل يداه هو الأخير ثم طلب من السائق أن يغادر ويبقى معه وبعد أن غادرت السيارة وضع يده على قلبه مباشرةً وظهرت علامات القلق على جميع ملامح وجهه ..وفي المساء عاد وهو مريض وينفث أنفاسه الأخيرة..
فاق من ذكرياته المؤلمة وسقط على ركبتيه واضعًا يده على أسمه قاطبًا جبينه محاولًا ألا يبكي ولكن خانته دموعه التي سقطت بغزارة على وجنتيه لتختبئ داخل لحيته وقال بقهر :
-لو كنت أعرف أن ده الحضن الأخير مكنتش سبتك أبدًا..
ثم وضع باقة الورد بجوار جميع باقات الورود الذي قد جلبها له ثم طبع قبله على أسمه.. وبعدها رفع يديه يقرأ له الفاتحة وبعض السور القصيرة والكبيرة ثم بدأ يدعو له حتى شعر بالإرهاق فوضع رأسه على قبر والده ليشعر باحتضانه له ..فهو مثل الطفل الصغير الأن يحتاج إلى والده وبشدة..
غلبه النوم واستيقظ على صوت أذان الفجر بوجه عابس فنظر حوله قاطبًا حاجبيه وشعر بألم في ظهره ثم مسح على قبر والده ونهض ليغادر وأغلق البوابة بالقفل ثم استقل السيارة واتجه إلى أقرب مسجد وصلى الفجر جماعة بعد أن توضأ..
عقب انتهائه عاد إلى المنزل ودخل إلى غرفة المكتب مباشرةً ..خلع معطفه ألقى به على المقعد ثم أراح جسده على الأريكة ليذهب إلى النوم بأريحية..
” في الصباح..”
استيقظت ندى لتجد أشرقت بجوارها فقبلتها على رأسها لتفتح عينيها.. فمسحت على أنفها بسبابتها وقالت بمزاح :
-الحلو يبطل كسل ويلا على المدرسة
اومأت موافقة ثم ذهبت إلى غرفتها لتجهز نفسها فيما نهضت ندى و وقفت أمام المرآة لترى كنزتها فحملتها وانتقلت ببصرها بين الفراش والمقعد وهي تتذكر أنها وضعتها على الفراش..ثم وضعتها كما كانت وبدأت تحضر نفسها وحضرت لهم الفطار وكل شيء يخصهم.. كان ريان يبدو عليه الحزن وحاولت ندى أن تعلم ما به ولكن لا يود أن يتحدث فتركته يذهب إلى المدرسة ..ثم عادت حبيسة غرفتها تفكر أن تترك المنزل وتغادر لكونها حقًا تشعر بالإهانة..
دق الباب فأذنت بالدخول عندما علمت بأنها السيدة وفيه.. دخلت حاملة صينية الفطار وضعتها على الفراش ثم عادت لتغلق الباب وعادت إلى ندى لتجلس أمامها قائلة :
-افطري يا ندى بقى متتعبيش قلبي
بدأت تتناول الطعام وتشاركها السيدة وفيه لتشجيعها ..بعد دقائق من الصمت كسرت حاجز الصمت بقولها المفاجئ :
-أنا لازم امشي
توقفت عن تناول الطعام وقالت بحزن :
-لاء يا ندى ..افهمي رحيم يا بنتي عصبي بس حنين أوي ..دا خرج ومرجعش غير الفجر ونايم في المكتب..
أطرقت رأسها بحزن وشعرت بالحنين له فيما تابعت وفيه :
-دا حامل مسؤولية اتقل من الجبال ..شركته والمصنع ويخلص شغل الشركة يروح المصنع ويخلص من المصنع يرجع لشركة وقبل ما تيجي ..كان لازم يجي بدري علشان يشوف ولاده ويرجع تاني وهكذا
فكرت للحظات طويلة حتى وصلت إلى فكرة وقالت فورًا:
-طيب النهاردة بس ..همشي وأشوف أنا هستحمل فراق الأولاد ولا لاء
قالت بمكر :
-و رحيم ..
عضت على شفاها السفلى بخجل فابتسمت وقالت بتأكيد :
-بتحبيه يا ندى ..بلاش تكبري
اومأت موافقة ثم قالت :
-طيب أنا هحاول أبعد ..يعني هجرب النهاردة بس وبالمرة أشوف جدتي
-زي ما تحبي يا ندى المهم متبعديش
استيقظ رحيم على صوت رنة الهاتف بوجه عابس ورفع ظهره عن الأريكة وهو يخرج الهاتف من جيب سرواله لينظر إلى شاشته التي تضيء باسم والدة زوجته السابقة فزفر بسأم واجاب عليها بعدم قبول وبعد تبادل السلام قالت :
-أنا هعدي على مدرسة الأولاد اخدهم يقضوا معايا اليوم النهاردة.. ياريت تبلغ المديرة إنك موافق
وافق على حديثها وانهى معها المكالمة ثم نظر إلى ساعة يده التي تدق العاشرة والنصف فنهض وخرج من الغرفة متجه نحو المطبخ وطلب فنجان قهوة من السيدة وفيه ثم صعد إلى غرفته.. من ثم دلف إلى المرحاض ليضع بدنه أسفل الماء مستندًا بيديه على الحائط المقابل له ينظر إلى الأرض والمياه تسقط من بين خصل شعره ..شعر بألم داخل قلبه عندما تذكر صوت بكائها ونظرات العتاب الموجه له كالخناجر التي تصيب هدفها جيدًا وهو الصدر قبل القلب..
انتهى من الاستحمام وخرج بعد أن ارتدى ثيابه تاركًا صدره عاري ورأى السيدة وفيه تجلس على الأريكة في انتظاره ..جلس على المقعد المجاور للأريكة يمسح على شعره من الأمام للخلف فنظرت إليه بحزن واضح وقالت :
-ندى مشيت
لينظر إليها بلهفة وقد شعر بغصة في قلبه وقال بهدوء على عكس الحزن الذي يؤلمه :
-براحتها
-براحتها أي بس ..يا بني أنت أهنت البنت
قال بنفاذ صبر :
-أنا مش عايز اتكلم ..أنا تعبان لو سمحتي سبيني دلوقت
نهضت عن الأريكة وتركته وذهبت فاستند بظهره إلى المقعد يعصر جبينه وهو يقول بعتاب :
-ليه كده يا ندى
***
” المدرسة.. ”
كانت الجدة تجلس داخل مكتب المديرة وريان وأشرقت لتأخذهم معها ..رفض ريان بشدة وعاد إلى صفه بعد أن سمحت له مديرة المدرسة وغادرت الجدة مع أشرقت ..دخل الفصل وجلس على مقعده مستند بوجنته على قبضة يده الصغيرة ويبدو عليه الحزن الشديد ..رن جرس نهاية الحصة الأخيرة فحمل حقيبته وغادر وهو شاردًا حتى لم ينتبه من الدرج وفلتت قدمه ليسقط من عليه تأوه بألم ثم اغشيا عليه فركض زملاءه إليه وبعضهم ذهب ليخبر المعلمين..
***
وضعت صينية العصير أعلى المنضدة الصغيرة وحملت كوب مدت يدها به إلى جدتها لتأخذ منها ثم جلست ندى على الأريكة تنظر إلى الفراغ بشرود بفضل اشتياقها إلى رحيم ..تساءلت جدتها بتوجس :
-مالك يا ندى ؟؟
لتنظر إليها ببطء وشبه ابتسامة على ثغرها قائلة :
-مفيش يا نانا
-على فكرة والدك سألني كذا مرة على مكان شغلك..
الحمد لله إنك مقلتليش على مكانه بدل ما يحرمك منه زي كل مرة
اومأت برأسها ثم قالت بحزن :
-نفسي بابا يفهم أنا قد أي بحب شغلي ده ..شيء حلو اوي يا نانا لما اعوض اطفال عن والدتهم
قالت بفخر :
-وأنا فخورة بيكِ عشان بتعملي اللي يسعدك ..وسعيدة جدًا أن الأطفال بيحبوكي..
ثم رفعت حاجبها اليسار بمكر متسائلة :
-قوليلي بقى مالك ؟! ..
أطرقت عيناها تعض على شفاها السفلى من الداخل فقالت جدتها بتأكيد :
-أنا أكتر واحده فهماكِ يا ندى ..أنتِ بنت بنتي الغالية ..وطالما سبتي شغلك اللي بتحبيه وجيتي يبقى حصل حاجة
نظرت إليها بابتسامة لتعلم أن كل شيء بخير وقالت :
-وحشتيني يا نانا قلت اجي أقعد معاكِ النهاردة واطمن عليكِ
-متقلقيش عليا خالاتك يوميًا هنا معايا وولاد خالك بيسهروا معايا يوميًا
نظرت إلى الأمام وهي تومئ بخفة فيما رن هاتفها المحمول فقامت بفتح الحقيبة لتأخذ الهاتف ورأت اسم وفيه فأجابت فورًا لتخبرها بحادثة ريان ومكان المستشفى ..فزعت ندى وارتدت الحقيبة وهي تخبر جدتها عن حادثة الطفل ثم ركضت إلى الباب وخرجت من الشقة بل من العمارة بأكملها واستقلت السيارة متجه نحو المستشفى ..
***
عند وصولها ترجلت راكضة إلى الداخل وتساءلت عن ريان في الاستقبال لتخبرها بأنه مازال في العمليات.. فاستقلت المصعد الكهربائي إلى الطابق المطلوب.. ثم خرجت راكضة إلى غرفة العمليات حتى وصلت وتوقفت عن الركض تلتقط أنفاسها بصوت مسموع.. وعيناها مسلطة على رحيم الواقف أمام الغرفة مستند برأسه إلى الحائط عاقدًا ذراعيه أمام صدره ..تقدمت ندى نحوه وكلما اقتربت كلما وضحت ملامحه الشاحبة والحزينة على وجهه ..وقفت إلى جواره تنظر إليه بحزن ولمعت عيناها من الدموع فنظر إليها بعينيه أولًا ثم ادار رأسه إليها فأطرقت رأسها فيما تساءل بصوت مبحوح :
-جيتي ليه يا ندى ؟! ..مش كنتِ مشيتي
أجابت عليه بنبرة بكاء :
-رجعت علشان ريان ..وعلشان لازم اكون جنبك في وقت زي ده ..بنختلف أحيانًا لكن وقت الجد لازم ننسى الخلاف..
هبطت دموعها على وجنتيها ورفعت يدها لتضعها على مرفقه وتابعت :
-متقلقش هيبقى كويس
نظر إلى الأمام وهو يومئ برأسه هامسًا :
-يا رب ..يا رب
جلست على أحد المقاعد تنظر إلى الأرض في صمت وبعد نصف ساعة تقريبًا كانت قد استندت بظهرها إلى الحائط.. نظرت إلى رحيم الذي يستند برأسه إلى الحائط مغمض العينين فنهضت متجه نحوه و وقفت أمامه تنظر إليه للحظات ثم أشاحت بوجهها بعيدا وقالت :
-اقعد شوية استريح
ليفتح عيناه وينظر إليها بإرهاق مشيرًا بكف يده إلى غرفة العمليات متسائلًا :
-ابني في أوضة العمليات وعايزاني استريح ؟!
تنهدت بحزن وأمسكت بيده وكادت أن تتحدث ألا أن خرج الطبيب فنظروا إليه بلهفة واقترب رحيم منه و وقف يتساءل بلهفة :
-طمني يا دكتور
-في جرح في دماغة بسيط أخد غرزتين و كسر في رجله جبستها
-احتاج شرايح ومسامير؟!
-لاء الحمدلله اطمن
-طيب عايز أشوفه
-هو واخد بنج هيطول معاه شوية ..بس متقلقش هو بخير
ثم ربت على كتفه وغادر فجلس رحيم على إحدى المقاعد وخلع مع طفه وضعه على معصمه ..جلست ندى بجواره ورفعت يدها تضعها على كتفه فرمقها بنظرةٍ سريعة ..وبعد دقائق تساءلت عن أشرقت ليخبرها بأنها عند جدتها وستبقى هناك حتى الغد..وهذا قراراه بعد حادث ريان حتى لا تتأثر بحادث شقيقها..
ذهب النهار ليأتي الليل ودقت الساعة العاشرة والنصف مساءً وكانت ندى جالسة على مقعد مجاور لفراش ريان وأمسكت بيده لتهون عليه الألم الذي يشعر به في رأسه وقدمه وذهب رحيم إلى الطبيب ليأتي معه و أعطى له مسكن وكلما تأوه كان قلب رحيم ينتفض بألم ..أخبره الطبيب بأنه سينام بفضل المسكن ثم انتقل ببصره بينه وبين ندى قائلًا :
-مفيش داعي لوجودكم هنا ..الزيارة بتنتهي من الساعة خمسة والساعة بقت عشرة و نص
قال رحيم بحده :
-أنا مش هسيب ابني امال لو ماكنتش مستشفى خاص
-أنا مقدر اللي أنت فيه ..بس صدقني دا نظام المستشفى وهو في ايد أمينه متقلقش عليه
نظر إلى ابنه الذي غط في نوم عميق وانتظر الدكتور رده بالموافقة ولكن طال انتظاره ولم يجيب عليه فنظر إلى ندى قائلًا :
-يا مدام بعد اذنك اتكلمي معاه
لينظر رحيم إلى ندى فقد راقت له كلمة ” مدام ” فيما توترت ندى ونهضت واقفة وكادت أن تتحدث ألا أن غادر الطبيب ..فأطرقت رأسها وقالت بهدوء :
-الدكتور عنده حق
أقترب نحو ريان و وقف إلى جوار الفراش ووضع يده على شعره مخللا أصابعه بين خصلاته ثم قبله على وجنته وأيضًا يده ثم همس بنبرة ألم :
-أسف يا روحي
ثم استقام ظهره مستعدًا للذهاب فاقتربت ندى من ريان وقبلت يده فيما دخلت الممرضة بوجه بشوش لينظر رحيم إليها ثم أخرج محفظته من جيب سرواله وأخذ الكثير من الأموال واقترب منها ووقف يمد يده بهم فرفضت أن تأخذهم ولكن أصر وهو يقول بجدية :
-خدي بالك منه أرجوكِ
أخذت الأموال وهي تومئ بالموافقة تمتم بالشكر ثم مد يده إلى ندى فأمسكت بيده وغادرت معه ..وهو يشعر وكأن قلبه مع ابنه المريض الذي تركه وغادر ..عند خروجهم أعطى مفتاح سيارة ندى إلى السائق وطلب منه أن يعود بها لينفذ رغبته فورًا ثم أعطى مفتاح سيارته إلى ندى طالبًا منها أن تقود فأخذت المفتاح وجلست أمام المقود وهو اتجه نحو الباب الثاني ليجلس بجوارها ثم غادرت..
ضغط على زر مجاور للمقعد جعل ظهره ينحني قليلا ليريح ظهره ناظرًا إلى ندى بحب ليتذكر حديثها عندما جاءت إلى المستشفى رغم إهانته لها جاءت و وقفت بجواره ..مد يده ليمسك بيدها ليضعها على شفتيه فعقدت حاجبيها منتبها إلى الطريق جيدًا وهي متحكمة بمحرك السيارة بيدها الأخرى ..قبلها على راحة يدها برقة عدة مرات ثم وضعها بين راحتي يديه ومازالت عيناه مثبته عليها وحرك شفتيه فقط بكلمة :
-بحبك
سحبت يدها من بين يديه لتضعها على المحرك وشعرت بالتوتر ولكن تماسكت وزفرت بهدوء ..عند وصولها صفت السيارة أمام باب الفيلا وترجلت واعطت المفتاح إلى السائق الذي كان ينتظرهم بينما ترجل رحيم متجه نحو الباب وقام بفتحه لتدخل ندى ثم دخل مغلقًا الباب خلفه ..نهضت السيدة وفيه راكضة إليهم و وقفت أمام ندى تساءل عن ريان فطمئنها رحيم واضعًا يده على كتفها وطلب منها أن تستريح في غرفتها ثم اتجه نحو غرفة المكتب ودخل مغلقًا الباب خلفه …وقفت تتحدث مع ندى للحظات عن ريان ثم عادت إلى غرفتها و وقفت ندى تنظر إلى باب غرفة المكتب للحظات..
ثم تقدمت نحوه و وقفت تدق الباب ثم دخلت مغلقةً إياه خلفها لتجده جالسًا على الأريكة واضعًا رأسه بين يديه ..فجلست إلى جواره وأمسكت بمعصم يده وقالت بصوت مبحوح :
-هيبقى كويس ..متقلقش
ترك رأسه ليدفن وجهه في كفيه وقال بنبرة مهلكه :
-أنا قلبي و عقلي في المستشفى يا ندى ..مش طايق البيت
تجمعت الدموع حول مقلتيها قائلة :
-أنت أب حنين أوي يا رحيم
ادار رأسه ناحيتها ونظر إليها ليرى الدموع في عيناها ولكن سرعان ما أطرقت رأسها فأمسك بذقنها وقال بجدية ممزوجة بالحب :
-وأنتِ مفيش أحن من قلبك يا ندى..
ثم طلب منها أن تجلس عند مقدمة الأريكة فنهضت لتجلس كما طلب منها ليضع رأسه على قدميها واضعًا ظهره على الأريكة يثني قدمه اليسار وقدمه الأخرى على الأرض.. نظرت ندى إلى الأمام ودقات قلبها تدق في صدرها واصطبغا وجهها بحمرة الخجل.. وبعد لحظات أمسك بيدها ليضعها على شعره وبدأ يحرك يدها قائلًا :
-اثبتي على كده.. حاليًا حاسس اني طفل
ثم ترك يدها تحركها على شعره ذهابًا وإيابًا وهي تنظر إلى الأمام بينما هو ينظر إليها يتفحص ملامحها بحب ثم رفع يده نحو وجنتها ليمسح عليها بالإبهام وأخذ يمرره حتى وصل إلى شفتيها ليفرق بينهما.. فابتلعت لعابها بصوت مسموع وأشاحت بوجهها بعيدًا وصدرها يعلو ويهبط بتوتر شديد.. رفع يده ليمسح على شعرها للحظات ثم وضع يده على صدره ليغمض عيناه وكأن حركة يدها على شعره بنج جعله يذهب إلى نوم عميق.. نظرت ندى إليه وزفرت بهدوء ثم استندت برأسها إلى الأريكة لتذهب إلى النوم..
……ذهب الليل سريعًا ليأتي النهار وفتحت ندى عيناها ببطء واضعه يدها حول عنقها الذي يؤلمها ثم نظرت إلى رحيم الذي مازال نائما ويده معلقة على الهواء.. فأمسكت بذراعه وضعته على صدره ثم نظرت إليه بحب واضعة يدها على وجنته وتدريجيًا وجدت نفسها تمسح على لحيته.. ثم انحنت وطبعت قبلة حانية على جبينه ليفتح عيناه بنعاس واغلقهما ثانية فيما ابتعدت هي وبدأت تمرر أصابع يدها بين خصل شعره وباليد الأخرى تبعث في لحيته تتمعن بالنظر إليه..
فتح عيناه فأبعدت يديها عنه وأشاحت بوجهها بعيدًا.. فقطب حاجبيه بتذمر وقال بنعاس :
-لاء كملي ..يا رتني ما فتحت
علمت بأنه كان مستيقظًا ويشعر بلمسات يدها وقبلتها له أيضًا ..أمسك بيدها وضعها على شعره يطالب بالمزيد فمسحت عليه وأمسك بيدها الأخرى واضعها على شفتيه يقبلها برقه ثم وضعها على وجنته وقال بجدية الحب :
-وجودك مطمن قلبي
تنهدت بعمق وهي تومئ برأسها دون أن تتحدث وبعد لحظات استغلت أنه يعاملها بهدوء ولطف وأصرت على أن تستفهم منه لماذا رفض أن يتحدث معها البارحة ..فقالت بتوتر :
-عايزة …أ أسـ أسألك على حاجة
حرك يدها أسفل يده على وجنته حتى وضعها على شفتيه ليطبع قبلة أخرى ثم قال :
-أسالي يا ندى
أخذت نفسًا عميقًا وزفرته بهدوء ثم تساءلت :
-امبارح أنت طلبت مني لما ترجع من الشغل هنتكلم ليه اتغيرت معايا ؟!
عقد بين حاجبية بقوة عندما تذكر والدها و والده واهانته لها أيضًا فالكثير من المشاعر اختلطت ببعضها ليشعر بالغضب الشديد ونهض عن الأريكة متجه نحو نافذة المكتب وهو يخرج علبة السجائر من جيب سرواله واشعل واحده وقام بفتح الستائر ليفتح النافذة كي ينظر إلى الخارج من خلالها وهو يدخن سيجارته بعصبية ..شعرت بالحزن وكررت سؤالها عله يجيب عليها ولكن نفث دخان سيجارته قابضا قبضته وتمالك اعصابه وقال بحده :
-ندى اقفلي الموضوع ده
نهضت واقفة وهي تقول بضيق :
-من حقي أعرف أنت اتغيرت معايا ليه
جز أسنانه ثم نظر إليها بحده وقال بعصبية :
-ندى قلتلك متفتحيش الموضوع ده ..مفهوم ولا لاء
حدقت به وقد تجمعت الدموع داخل مقلتيها وارتعشت شفتيها فرخى أعصابه وتحولت نظراته إلى الهدوء و…..
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية حب رحيم) اسم الرواية