رواية لِبچَشان الفصل التاسع 9 - بقلم عفاف العريشي
) بدر)
اسمى بدر، أبلغ من العمر ثمانية وعشرين عاماً، ولدتُ بلازورد الشمالية،
أبي هو الطبيب زاهر مساعد كبير الأطباء الطبيب نصر، نصر الذى اختفى فجأة ولسبب مبهم، أمي هى ( ميلاف) الوصيفة الأولى للملكة ليل ورثت عن أمي الجمال والهيئة.
توفى الملك راكان منذ أعوام وأصبح ابنه الأمير هو الملك الآن متزوج من الملكة ناديرا التي أحبتني كثيراً عندما رأتني ذات مرة بصحبة أمي أتجول بأرجاء القصر ومنذ ذلك الحين وأنا وصيفتها،
تعرفتُ على وليد ابن الطبيب نصر أصبح صديقي والآن حبيبي اتفقنا على الهرب بعدما أعلن الملك عن زواجه من الأميرة عنود، كانت الخطة تسير على ما يرام إلى أن أمسك بنا الجنود برئاسة الملك الذى أمرهم بوضعنا في سجن القصر إلى صباح الغد حتى نُعرض للمحاكمة.
مرت ساعة تلو الأخرى وأنا أجلس في إحدى أركان تلك الغرفة المظلمة ذات الرائحة العطنة أبكى وأنا أتذكر وليد وأبى وأمي اللذان سيعاقبان ولا ذنب لهما فالذنب كله علىّ الذنب كله ذنبي أنا ولم يكن سوى أنى أحببتُ بصدق،
تمر الساعات ببطء شديد إلى أن فتحت جفوني بتثاقل وأنا أنظر إلى تلك النافذة الصغيرة في الغرفة والتي لاحظتها لتوي نتيجة لضوء الشمس المنبعث منها،
وقفتُ بخوف وأنا أرى أحد الضباط المعنيين بإمساكي، قال وهو يمسك معصمي:
_هيا يا خائنة سُتعرضين للمحاكمة الآن مع ذلك الخائن رفيقك.
أردفتُ بقوة:
_كيف تفعل هذا؟.. كيف؟
نظر لعينايّ ولم ينبث ببنت شفه سحبني للخارج إلى ساحة لازورد بعربة خشبية تجرها الخيول، كانت الساحة مليئة بالأفواد والمنصة يتوسطها الملك والوزراء والملكة ناديرا التي تنظر إلىّ بحزن ووليد المكبل اليدين والقدمين وبعض الجنود الأقوياء المتراصين بثبات.
قال الملك بحزم:
_أنتما الأثنان خائنان ومن يخون العائلة الملكية تعرفان مصيره بكل تأكيد.
أشار إلى الجندي الذى يُمسكني أولاً وقال:
_هذه الخائنة سُتجلد أولاً مائة جلدة يليها الخائن الآخر ويُحبسان ريثما تنتهى مراسم الزفاف، الأميرة عنود ورئيس الحرس يعقوب بداية الأسبوع القادم وبعد يومين من الآن عند تعامد الشمس سيتم الإعدام هنا في الساحة أمام الملأ لتكونا عبرة لأمثالكما،
رأيتُ تلك النظرة بعيني وليد وهو يناظر عيني الملك هذه المرة الأولى التي أرى بها هذه النظرة خذلان، انكسار وحزن لن أنساها أبد الدهر.
أشار الملك للجندي لكى يبدأ،
جلدني بلا رحمة أمام والديّ ووليد الذى يصرخ بهم لكى يتركوني، صرختُ كثيراً عندما هوى السوط على ظهري وهكذا استمر صراخي إلى أن أنتهى الجندي وأنا طريحة الأرض لا أقوى على الحراك بعدما خارت قواي من كثرة الضرب.
****
) يونس)
أغلقتُ المذكرات بألم لا أستطيع إكمال القراءة وكأن خنجراً بين طيات المجلد كلما قرأتُ أكثر زاد انغماسه داخل قلبي، لقد عانا كثيراً لكى يكونا سوياً،
أمسكتُ ببعض الحصوات وقذفتها تباعاً للبحيرة أمامي، بحيرة خالية من الحياة هى بحيرة الموتى هنا يتم الإلقاء بالمعاقبين بالإعدام غرقاً بداخل تابوت خشبي مثقوب من جهات مختلفة، ساكنة تكاد مياهها تغلب السواد الغير مرئي لا أرى سوى السكون واللون الأزرق يكسوها.
وضعتُ الدفتر بالحقيبة وامتطيتُ جوادي لأحظى بجولة استكشاف إضافية بلازورد،
السوق كما هو عندما رأيته لأول مرة ملئ بالتجار وكذلك الجنود تذكرتُ صديق وموفق، التقيتُ بالأثنين هنا، تنهدتُ لا أريد الآن سوى الاختلاء بذاتي والتفكير مليا في هذه المعضلة،
عدتُ أدراجي إلى القصر وسألت أحد الجنود عن مكان غرفة أمي دلتني إحدى الخادمات، دلفتُ بهدوء كانت الغرفة هادئة للغاية ومظلمة أغلقتُ الباب بإحكام بعدما فتحته بالقلادة السحرية،
وجدتُ الخزانة فتحتها، مليئة بالثياب، الفساتين، التقطتُ واحداً وجلستُ على الفراش قربته من أنفى، رائحة أمي التي لا تفارق ذاكرتي هى ذاتها، تمددتُ على الفراش خاصتها محتضناً ثوبها بشدة، غفيت بموضعي لا أعلم إلى متى ولكن حالما استيقظت كان الظلام الدامس يكسو المكان.
خرجت بهدوء عائداً إلى غرفتي، أبدلت ثيابي وجلست أعاود القراءة لكى أصل لنهاية هذه القصة، قبلاً حاولت فتح المذكرات بلا جدوى نظرا لحاجتها للقلادة.
****
) بدر)
لم أعلم ما حدث لوليد ولكنني أيقنت أنهم جلدوه بقسوة بالغة لا تضاهى خاصتي.
جلست بثيابي المهترئة أحاول تضميد جروحي أتى أبي لزيارتي خلسة،
قال بقلق:
_بدر ابنتي لما فعلتي هذا بنفسك؟
أجبته بإعياء شديد:
_أبى لقد أحببته حقاً، كنا سنتزوج ولكن هناك من أخبر الملك بكل شيء.
أردف أبى وهو يخرج بعض الأدوية وقماش أبيض نظيف:
_أستديرِ لكى أضمد جروحك يا ابنتي.
جلستُ متألمة وقال:
_والدتك منذ أن علمت بالأمر وهى طريحة الفراش.
_أبى أرجوك لا تُثقل الأمر علىّ، أخبر أمي أننى على ما يرام، بالتأكيد وليد سيجد حلاً.
أردف بحزم:
_كفى بدر!. هو السبب بهذه الحالة التي أنتِ عليها الآن.
_ليس هو بل أنا، أنا لا أستطيع تركه البته يا أبى.
_ولكن حبك هذا أودى بكِ إلى الهاوية.
ثم صمت لهنية من الوقت وأردف:
_منذ متى والفتيات تقررن ممن يتزوجن، لقد فعلتي خطيئة كبرى، سنعاقب جميعاً فبالنهاية ما يقترفه الأبناء يعاقب عليه الآباء وأنت لم تفكري لوهلة بأمر والديكي ألهذه الدرجة أعماكِ حبه لدرجة نسيان والديكي أنت يا صغيرتي تفعلين هذا بنا، لا أقلق حيال نفسي ما يقلقني حقاً هى ميلاف وأنتِ ماذا سيحل بكما!
صمتُ أبكي لا كلمات لألفظها دفاعاً فأبي محق، لا أشعر سوى بعبراتي الدافئة التي تغرق وجنتايّ لم ألحظ مغادرته حتى، لقد تركني وله كل الحق فأنا مخطئة بحقه هو وأمي.
أتى الصباح سمعت إثنين من الجنود يتحدثون بأمر الاحتفال بالزواج خلال الأيام المقبلة كانا يتحدثان عن يعقوب يقولون أنه محظوظ بزواجه من الأميرة عنود أصبح فرداً من العائلة الملكية، لقد أصبح بمكانة وليد الآن رئيس الحرس.
شردتُ لوقت طويل أفقتّ على صوت فتح الباب المدوي ليظهر أحد الجنود، يقول:
_هيا سيتم تنفيذ الحكم بالساحة بعد قليل.
وقفتُ بإعياء، وجهي يتقلص إثر آلامي التي لم تشفى بعد لكزني بقسوة أمامه.
وصلت إلى الساحة من جديد، وليد أمامي ينظر أمامه بغضب وقسوة لانت ملامحه حالما رآني، هناك أمر مريب نظر إلي نظرة لم أفهمها وهو يشير بعينيه إلى الحشد الهائل نظرت ولكن لم ألحظ أي شيء، جذبني الحارس لكى أقف بجواره.
بعد عدة دقائق أمر الملك ببدأ مراسم الإعدام، ليصمت الجميع، ولكن صدر صوت شخص فجأة هاتفاً:
_فلتحيا لِبچَشان.
بعدها رأيت شيء يلمع بشدة بجانبي ولم تكن سوى يد وليد اليمنى، ابتسم بشدة وقال:
_سنذهب سوياً بعيداً عن هؤلاء، هل تقبلين بي زوجا لكى يا أميرتي؟
_بالطبع، هل تمزح؟
أمسك بيدي بشدة وبعدها لم أشعر بشيء سوى حرق شديد بيدي الممسكة بيده وألم رأسي الشديد، آخر ما رأيته هى فتاة ترتدى وشاح أسود طويل بمنتصف الحشد بموضع خروج الصوت لم أرى سوى ابتسامتها أسفل الوشاح.
بعد عدة ثواني سقطنا سوياً على أرض ملساء، كانت حجرة صغيرة مربعة بيضاء عليها في جدارها الأيمن من جهة الداخل نفس القلادة التي أبغضها بشدة.
) قلادة الملك راكان الأول البوتو العظيم العائدة لعهد ريديس).
****
) يونس)
أصبحت الصفحات الموالية كالحجارة لا أستطيع تقليبها أبداً، يبدو أنها لعبة أخرى هنا،
تأففتُ بضيق وارتديتُ ملابس للتدريب متجاهلاً أمر جرحى ذاهباً إلى الساحة الخلفية لم أتدرب كثيراً سمعت صراخ لونار مجدداً،
أمسكتُ المصباح الزيتي والسيف وهبطت الدرج بهدوء،
أرهفت السمع على بعد خطوات من الباب الموصد، كان صوت ذلك الرجل يحدثها بصرامة إن لم تصارحهم بمكان مكوث الهاربان سيقتلها، لم أستطع سماع أي كلمة من الحديث بعد ذلك ولكن بعد عدة ثواني كانت صرخات لونار هى الجواب تقدمت بحرص إلى أن نظرت من ثقب الباب كانت بمفردها، فتحتُ الباب ودلفت لم ترفع ناظريها لترى من، أظن أنها اعتادت على مثل هذه الأمور من تعذيب وقهر وقسوة.
كانت ساكنة لا تتحرك قيد أنملة، ثوبها أضحى ملطخاً بالدماء بعدما عُذبت كالمعتاد من قبل الحراس، حقاً هذا الأمر بشع ولكن لا أعلم ما الذنب الذى اقترفته لكى يؤدى بها إلى هنا،
قاطع شرودي صوتها الواهن الواثق:
_أمممم، هل جئت لتكمل تعذيبي؟
_لا
_إذن ما الذى أتى بك إلى هنا؟
_أتيتُ كي أطمن على حالتك هل أنتِ بخير؟
_وهل هذه الحالة الميؤوسة تستحق عناء الدلوف خلسة إلى هنا؟
_ما الذى اقترفته لكى يجزوا بكى للسجن هكذا؟
_تريد جواباً؟
_بالطبع.
_ساعدتُ صديقتي
_ومن هى؟
_بدر، أو الهاربة كما تنعتونها هذه الأيام.
_أمي صديقتك أنتِ؟
وأخيراً رفعت عينيها إليّ، عينيها زرقاء سماوية يبدو أنها من عامة الشعب وقالت بدهشة:
_أم من يا أحمق؟!. بدر لازالت بمقتبل العمر!
_أعلم ولكن أنا حقاً ابنها هى ووليد نصر ألا تعرفينه؟
نظرت أمامها بامتعاض وقالت:
_بلى، ولكن قصتك الحمقاء هذه يستحيل أن أصدقها.
_لا بأس سأثبت لكِ، منذ يومين كانت مراسم إعدام والدايّ واختفيا قبل الإعدام وكان الفارق بضعة دقائق، أليس كذلك؟
رفعت حاجبها الأيمن وقالت:
_أجل وشعب لِبچَشان يعلم هذه القصة برمتها.
_وتعلمين أن أبى وأمي اتفقا على الهرب؟
لم ترد بل مازالت رافعة لحاجبها ونظرة الامتعاض ذاتها تأبى ترك ملامحها، زفرتُ بحنق يبدو أن أمر إقناعها متعب.
أخرجتُ الخاتم ونظرت لها بلامبالاة لكنها صرخت فجأة،
_من أين لك بهذا الخاتم أيها اللص، لا والأدهى أنكم تنعتون العبيد باللصوص ولا لصوص غيركم يا أوغاد.
_أتعلمين قصة هذا الخاتم؟
_أجل إنه خاتم الطبيب نصر وأعطاه لذلك الغليظ المدعو وليد قبل ذهابه بأيام ولكن من أين لك به؟
_هذا الخاتم يعود لأبي، أنا يونس وليد نصر وجئتُ بحثاً عنه.
_حقا ولكن كيف؟
_اسمعي إذن.
_كلى آذان صاغية يا بنى.
ضحكت بخفوت حقاً هذه الفتاة قوية وعنيدة، بحالتها هذه تمزح.
انتهيت من سرد قصة والدايّ، قالت بعدما صمتت هنيهة من الوقت:
_أممم، هذا يعنى أنك ابن صديقتي، يا الله لقد كبرت كثيراً.
_الرحمة يا الله أنا أشكو لكِ همى وأنت تمزحين يا لونار!
_حسناً لا عليك والآن أين بدر؟
_لا أعلم حقاً، لا أعلم.
_يا عزيزي هذه هى الحياة الآباء يسلمون الراية للأبناء وأنت شاب يافع ما شاء الله.
ثم بصقت هواءً على يمينها قائلة:
_فليحفظك الرب دائماً يا بنى.
_أشكرك يا جدتي.
_لا علـ... جدتك؟
زفرتُ بضيق ما هذا كنت أحسبها عاقلة ولكنني دائماً ما أنخدع بسهولة.
_حسناً ما يهم الآن، هو كيفية إخراجك من هنا.
تحدثت بجدية هذه المرة:
_وكيف ستخرجني؟، وإلى أين سأذهب بالأساس؟
نظرت أمامي باسماً وقلت:
_هذه لعبتي.
فككتُ أسرها سريعاً وأعطيتها خنجر ولكن الأصفاد التي بقدميها كانت ثقيلة للغاية، تركتها مطمئناً وخرجتّ لكى أبدأ بمهمتي الأولى.
كان القصر هادئاً في مثل هذا التوقيت وبالطبع لا يخلو من الجواري والخدم.
دلفتُ إلى غرفتي وقمتُ بإخراج المذكرات والكتاب في محاولة للقراءة ولكن لا يوجد سوى نهاية المذكرات ورسالة بالنهاية مفادها:
) يطالب المحيط بالحرية من آلامه ولكن لا ينفك الأسر من جليد الوحدة سوى بشيء واحد، نصف نجمه)
ألغاز غريبة لا أعلم كنهها، فتحت الكتاب ولكن حالما رفعت الغلاف تقلبت الصفحات تباعا دون مجهود إلى أن توقفت على إحدى الصفحات.
بها بعض الجمل بلغة غريبة رددتها رغما عنى ثم انطفئت الأضواء، حل الظلام بجميع أركان الغرفة برغم الشمس الوهاجة بالخارج، ظهرت الأعين الزرقاء مرة أخرى، تنهدتُ بحيرة وأنا أناظرها يبدو أننى فقدتُ جزئا من خوفي هذه المرة.
****
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية لِبچَشان) اسم الرواية