رواية فراشة المقبرة الفصل الخامس عشر 15 - بقلم اسماعيل موسى
فراشة المقبرة – 15
كانت كلية الطب حلمها منذ الطفولة، لكنها لم تكن تحلم بها كما يحلم بها الآخرون، لم يكن الدافع إنسانيًا بحتًا، ولا رغبة في إنقاذ الأرواح فقط. كان جزءًا من معركتها، جزءًا من رحلتها لفهم الجسد البشري، أسراره، نقاط ضعفه، وكيف يمكن توجيهه... أو كسره.
منذ يومها الأول في الكلية، لم تكن زهرة طالبة عادية. لم تكن تلك الفتاة المتحمسة التي تتعثر بين القاعات، تبحث عن قاعة المحاضرات أو تتهامس مع زميلاتها عن صعوبة المواد. كانت تعرف إلى أين تذهب، ماذا تفعل، ومن يجب أن تراقب.
كانت تسير في الممرات بثقة باردة، حقيبتها محكمة على كتفها، عيناها تتفحصان المكان كما لو كانت تقيّم أرض معركة جديدة.
وفي القاعات، لم تكن مجرد طالبة مجتهدة، بل كانت استثناءً. الأساتذة لاحظوها منذ البداية، ذكاؤها كان لافتًا، لكن ما جعلها مختلفة لم يكن مجرد ذكائها، بل هدوؤها الحاد، تركيزها المطلق، وكيف كانت تجيب على الأسئلة كما لو أنها تعرفها منذ الأزل، كأنها لم تحتج يومًا إلى المذاكرة، كأن المعلومات كانت جزءًا منها.
لم تكن تتكلم كثيرًا، لكنها حين تفعل، كانت كلماتها تصيب الهدف بدقة جراح يمسك بمشرط. لم تكن تحتاج إلى إثبات شيء، لأنها ببساطة كانت تعرف أنها الأفضل.
لكن الذكاء وحده لا يكفي في هذا العالم، والناس لا يحبون من يشعرون أنه أعلى منهم. بعض الزملاء احترموها، البعض تجنبها، والبعض حاول أن يختبر صبرها بأسئلة سخيفة وتعليقات غير ضرورية. لكن زهرة لم تكن تهتم. لم تكن هنا لتكون محبوبة، كانت هنا لتتعلم، لتصبح أقوى.
في أحد الأيام، وبينما كانت زهرة جالسة وحدها في المكتبة، منحنية فوق كتاب تشريح، ظهر أمامها كتاب آخر، وُضع بلطف على الطاولة. رفعت عينيها، لتجد شابًا يقف أمامها، طويل القامة، ذو نظرة عميقة لكنها غير مزعجة.
— "أعرف أنكِ لا تحبين المقاطعة، لكنني رأيتكِ تقرئين هذا، واعتقدت أن هذا قد يكون مفيدًا أيضًا."
نظرت إلى الكتاب، كان عن علم الأمراض، لم يكن ضمن مواد السنة الأولى، لكنه كان كتابًا متقدمًا ومثيرًا للاهتمام.
رفعت حاجبًا قليلًا، ثم عادت لتنظر إليه. لم يكن من النوع الذي يحاول لفت الانتباه، لم يكن يبتسم بتصنع أو يضع يديه في جيوبه ليبدو أكثر استرخاءً. كان هادئًا، لكن ليس خجولًا.
— "لم أكن بحاجة إليه، لكن شكرًا."
أومأ برأسه، ثم جلس بهدوء على الطرف الآخر من الطاولة، فتح كتابه وبدأ بالقراءة دون أن يقول شيئًا آخر.
كانت زهرة معتادة على نوعين من الناس: من يخشونها، ومن يحاولون إثبات أنفسهم أمامها. لكنه لم يكن أيًا منهما. لم يكن يحاول اختبارها، ولم يكن خائفًا منها.
لم تتحدث، لكنه بقي هناك، يقرأ، وكأنه لم يكن ينتظر منها رد فعل محددًا.
لأول مرة منذ وقت طويل، وجدت زهرة نفسها تراقبه، ليس بريبة، بل بفضول. من يكون؟ ولماذا لم يكن مثله مثل الآخرين؟
الأيام التالية أثبتت أنه لم يكن مجرد طالب عادي، لم يكن يحاول التقرب منها كما فعل الآخرون، بل كان يشاركها المساحة فقط، كما لو أن وجودهما في نفس المكان كان أمرًا طبيعيًا.
وكان هذا... مربكًا.
ولأول مرة منذ سنوات، وجدت زهرة نفسها تفكر في شخص لم يكن ضمن خططها.
لم تكن زهرة معتادة على أن يقترب منها أحد دون سبب واضح، وكانت أكثر حساسية تجاه من يحاول تجاوز المسافة التي رسمتها بين نفسها وبين الآخرين.
ذلك الشاب... لم يكن استثناءً.
في الأيام التالية، استمر في الظهور—ليس بطريقة مزعجة، بل بطريقة هادئة لا يمكن تسميتها "ملاحقة"، لكنها كانت أكثر مما تتحمله زهرة. لم يكن يحاول فرض نفسه عليها، لكنه كان موجودًا، يجلس على الطاولة المقابلة في المكتبة، يمر بجوارها في القاعات، وأحيانًا، يعلق بعبارة قصيرة بعد إحدى المحاضرات، وكأن حديثه معها كان أمرًا طبيعيًا.
في البداية، حاولت تجاهله. لم ترد على تعليقاته، لم تنظر حتى في اتجاهه، لكنها بدأت تشعر أن صبرها ينفد. لم تحبذ أن يعتقد أحد أنها قابلة للانشغال بشيء غير خططها.
وفي إحدى المرات، حين كانت تخرج من المكتبة، وجدته يسير بجوارها بهدوء، يضع يديه في جيبيه، وكأن ذلك كان أمرًا مألوفًا.
— "لم أسألكِ عن اسمكِ بعد." قال بصوت منخفض لكنه واضح.
لم تتوقف عن المشي، لم تلتفت إليه حتى.
— "لأنك لا تحتاج إلى معرفته." جاء ردها باردًا كالجليد.
لم يبدُ عليه الإحراج، بل ابتسم بخفة، وكأن إجابتها لم تكن مفاجأة.
— "معكِ حق. لكنني أراه في قائمة الطلاب، وأسمعه حين ينادونكِ للإجابة في المحاضرات. كنت أريد فقط أن أسمعه منكِ مباشرة."
توقفت فجأة، استدارت نحوه، وحدقت فيه بنظرة جعلت العديد من زملائها يتراجعون قبل حتى أن يفكروا في إكمال حديثهم معها.
— "وما الذي تريده مني بالضبط؟" سألت بصوت حاد.
ظل ثابتًا، لم يتحرك إلى الخلف، لكنه لم يكن متحديًا. فقط وقف هناك، ينظر إليها بهدوء.
— "لا شيء. فقط محادثة."
ضيقت عينيها قليلاً.
— "إن كنت تبحث عن التسلية، فابحث في مكان آخر. لست مهتمة."
ثم استدارت لتواصل طريقها، دون أن تنتظر ردًا.
لكن قبل أن تبتعد تمامًا، سمعته يقول بصوت منخفض، وكأنه يحدث نفسه أكثر مما يحدثها:
— "ليس كل من يقترب يريد شيئًا منكِ، زهرة."
توقفت للحظة، وكادت تلتفت، لكنها قررت ألا تفعل. لم يكن هناك داعٍ لذلك. لم يكن جزءًا من خططها، ولم يكن يجب أن يشغلها أكثر من هذا.
وهكذا، مضت في طريقها، غير مدركة أن تلك المواجهة لم تكن نهاية الأمر... بل بدايته.
لم يكن الأمر مجرد رفضٍ لمحاولاته، ولم يكن كبرياءً أو برودًا. كانت زهرة تعرف تمامًا لماذا لن تسمح لأحدٍ بالاقتراب.
لأنها رأت ما يحدث عندما تثق، عندما تمنح شخصًا ما مساحةً داخل عالمها. كانت تعرف أن التقارب ليس مجرد كلماتٍ عابرة، بل بابٌ يُفتح، وإن فُتح، فقد لا تستطيع إغلاقه مجددًا.
وكانت تعرف أيضًا أن جسدها ليس كأجساد الآخرين.
عندما كانت تقف أمام المرآة، لم تكن ترى الفتاة التي يراها الجميع—الفتاة الذكية التي تثير الإعجاب بعبقريتها، أو الطالبة المجتهدة التي يهابها الآخرون لصمتها الحاد. كانت ترى الندوب... الآثار التي لن تمحى، الخطوط القاسية التي حفرتها النيران والجراح القديمة في بشرتها.
كانت ترى ما يحاول عقلها الهروب منه كل يوم، لكنها كانت تعرف الحقيقة.
لم يكن بإمكانها أن تسمح لأحدٍ بأن يراها كما هي، أن يلمس الجلد الذي لم يعد كما كان، أن يشعر بتلك الأخاديد العميقة التي تروي قصة الألم الذي لم تخبر به أحدًا.
ولهذا، لم يكن الرفض خيارًا، بل كان ضرورة.
ليست فقط المسافة التي تحافظ عليها مع الآخرين، بل الجدار الذي شيّدته حول نفسها، حجارةً فوق حجارة، حتى لا يكون هناك أحد.
لكن المشكلة لم تكن فيهم فقط.
المشكلة كانت في عقلها.
لم يكن عقلها كعقول الآخرين، لم يكن منظمًا، واضحًا، بسيطًا. كان متاهةً معقدة، متشابكة، مليئة بالغرف المغلقة، بالظلال التي تتحرك في الظلام، بالذكريات التي تتسرب إلى أفكارها حين لا تنتبه.
أحيانًا، كانت تستيقظ في منتصف الليل، عرقها باردٌ على جبينها، وقلبها يخفق بجنون، وصورٌ مشوهةٌ تتراقص خلف جفونها. الأصوات، الصرخات، الحرارة التي التصقت بجلدها ذات يوم.
أحيانًا، كانت تشعر أن كل شيء مجرد وهم، أن هذا الجسد ليس جسدها، أن هذه الحياة ليست حياتها، وأنها لو أغمضت عينيها بما يكفي، فقد تجد نفسها تعيش حياةً أخرى، في جسدٍ آخر، بدون ندوب، بدون ماضٍ، بدون تلك الأفكار التي تنهشها كل يوم.
لكنها حين تفتح عينيها، يكون الواقع هناك، حاضرًا بكل قسوته.
ولهذا، لم يكن هناك مكانٌ لأحدٍ بجانبها.
ولن يكون.
•تابع الفصل التالي "رواية فراشة المقبرة" اضغط على اسم الرواية