Ads by Google X

رواية فراشة المقبرة الفصل السادس عشر 16 - بقلم اسماعيل موسى

الصفحة الرئيسية
الحجم

 رواية فراشة المقبرة الفصل السادس عشر 16 - بقلم اسماعيل موسى 

فراشة المقبرة – 16

لم تكن زهرة مجرد طالبة طب متفوقة، كانت حالة استثنائية. لم يكن شغفها بالمجال وليد اللحظة أو بدافع الحلم الطفولي المعتاد بإنقاذ الأرواح. كان شيئًا أعمق، أشبه ببحثٍ مهووس عن المعرفة، عن فك ألغاز الجسد البشري، عن فهمه ليس فقط ككيان حي، بل كآلة يمكن تفكيكها، تحليلها، وحتى إعادة تشكيلها.

منذ سنتها الأولى، لم تكتفِ بالمقررات الدراسية. بينما كان زملاؤها يلهثون خلف الدرجات، كانت هي تلهث خلف الفهم. لم يكن الطب مجرد دراسة بالنسبة لها، كان سلاحًا، أداة لفهم القوة والسيطرة على الجسد... وعلى الحياة نفسها.

لم تكن زهرة تقرأ فقط المراجع الحديثة، بل تعمقت في الكتب التي لم يعد أحد يلتفت إليها. كان لديها هوس بالمخطوطات الطبية القديمة، تلك التي كُتبت في عصور كان الطب فيها أقرب إلى السحر والتشريح أقرب إلى طقوسٍ سرية.

بدأت مع "القانون في الطب" لابن سينا، حيث درست نظرياته عن الأخلاط الأربعة وتأثيرها على الصحة والمرض، لكنها لم تتوقف هناك. انتقلت إلى "التصريف لمن عجز عن التأليف" للزهراوي، وأذهلتها دقته في وصف العمليات الجراحية، حتى أنها حفظت بعض رسومه التشريحية عن ظهر قلب.

ثم وجدت ضالتها في كتبٍ لم يكن معظم زملائها يعرفون حتى بوجودها، مثل "كتاب الأسرار في الطب" الذي نسب لبعض الأطباء العرب المجهولين، ومخطوطات التشريح الأولى التي كتبها أندرياس فيزاليوس، الرجل الذي تحدى عقيدة جالينوس وغير فهم البشرية للجسد.

 كانت تبحث عن التطبيق العملي في كل فرصة. بينما كان زملاؤها يدرسون فقط من أجل الامتحانات، كانت هي تقضي ساعاتٍ في مختبرات التشريح، تتأمل الجثث، تدرس العضلات، الأنسجة، وتعيد في ذهنها كل ما قرأته عن كيفية تفكيك الجسد وإعادته إلى عناصره الأساسية.

كانت تملك مهارةً في التشريح لم تكن طبيعية لطالبةٍ في سنتها الأولى. يداها لم ترتجفا قط وهي تمسك بالمشرط، نظراتها لم ترتبك عند رؤية الدم، بل كانت تراقب كل شيء بتركيزٍ جراحيٍّ حاد، كما لو أن كل شريحة من الجلد كانت سطرًا في كتابٍ كانت تحفظه عن ظهر قلب.

بينما كان الآخرون يدرسون وفق المناهج المحددة، كانت زهرة تسأل أسئلةً لا يطرحها أحد:

لماذا ينهار بعض الأشخاص من الألم بينما يتحمله آخرون؟

كيف يمكن تغيير استجابة الجسد للخوف، للألم، للموت؟

هل هناك أسرار في الجسد لم تُكتشف بعد، أم أن كل شيء أصبح مكشوفًا بالفعل؟

بدأت تلاحظ أن بعض الأعضاء البشرية ليست ثابتة في جميع الأجساد. درست حالاتٍ نادرة، قرأت عن ظواهر غامضة في التشريح، وبدأت بوضع نظرياتها الخاصة حول العلاقة بين البنية الجسدية والحالة النفسية.

لم تكن زهرة تبحث عن المعرفة فقط، كانت تحاول فهم نفسها أيضًا. جسدها الذي حمل آثار الماضي كان مختبرًا صامتًا، وكل ندبةٍ فيه كانت دليلًا على أن الألم يمكن أن يُعاد تشكيله، يمكن أن يتحول إلى شيء آخر.

في النهاية، لم يكن الطب مجرد علمٍ بالنسبة لها. كان سلاحًا، وكان طريقها لفهم الحياة... والسيطرة عليها.

في منزل زهرة، لم يكن هناك شيء يُترك للصدفة، خاصة عندما يتعلق الأمر بدراستها. منذ أن كانت طفلة، تعلمت أن المعرفة ليست شيئًا يُكتسب بسهولة، بل معركة تُخاض بإرادة حديدية. ولهذا، عندما دخلت كلية الطب، لم يكن الأمر مجرد التزام دراسي، بل طقس يومي صارم لا يمكن الإخلال به.

غرفة الدراسة: معبد العلم والانعزال

كانت زهرة تملك زاويتها الخاصة في المنزل، غرفة صغيرة لكنها مرتبة بدقة جراح يهيئ غرفة العمليات. لم يكن هناك شيء زائد، لا زينة ولا فوضى، فقط مكتب خشبي داكن، مكتبة تحتل جدارًا كاملًا، ولوحة بيضاء تملأ الجدار المقابل، حيث كانت تخط عليها النظريات، الخرائط الذهنية، والرسوم التشريحية التي تحفظها عن ظهر قلب.

كانت الدراسة بالنسبة لها ليست مجرد قراءة، بل طقس صارم يبدأ عند غروب الشمس، حيث تسدل الستائر لتمنع أي تشتت، تضع دفتر ملاحظاتها على المكتب، وتبدأ في تكرار المعلومات بصوت منخفض كما لو كانت تعيد برمجة عقلها. لم تكن تكتب ملاحظات عشوائية، بل تعيد صياغة المعلومات بطريقتها الخاصة، تبتكر طرقًا جديدة لحفظها، وتقارن بين النظريات القديمة والحديثة لتصل إلى فهم أعمق.

على الرغم من صرامة زهرة واستقلاليتها، لم يكن والداها بعيدين عن عالمها. كانا يعرفان أن ابنتهما ليست كأي فتاة أخرى، ولهذا لم يحاولا التدخل فيما لا ترغب فيه، لكن دعمهما كان حاضرًا بأسلوب غير مباشر.

كان والدها يتأكد من أن لديها كل ما تحتاجه: الكتب، الأوراق، وحتى المعدات الصغيرة التي تساعدها في دراستها. كان يعرف أنها لن تطلب شيئًا بنفسها، لذا كان يبحث عن أحدث المراجع الطبية ويتركها على مكتبها دون تعليق، وكأنه يضع أمامها وقودًا جديدًا لرحلتها دون أن يفرض نفسه.

أما والدتها، فكانت تقدم الدعم بطريقة أخرى. لم تكن تجيد الحديث عن التشريح والطب، لكنها كانت تفهم أن زهرة تحتاج إلى نظام غذائي دقيق وطاقة كافية لتحمل ساعات الدراسة الطويلة. كانت تعد لها الشاي بالأعشاب الذي يساعدها على التركيز، وتترك لها طبقًا من الطعام على مكتبها، حتى إن لم تلمسه زهرة إلا بعد ساعات.

ورغم أن والديها لم يفهما تمامًا لماذا كانت زهرة تنعزل بهذه الطريقة، إلا أنهما لم يسألاها أبدًا: "لماذا تدرسين بهذه الجدية؟" كانا يعرفان أن ابنتهما ليست فتاة تبحث عن التفوق فقط، بل عن شيء أعمق... شيء لم يكن من السهل البوح به.

لم تكن زهرة تدرس في النهار إلا إن اضطرت لذلك. كانت تفضل الليل، حين يصبح العالم أكثر هدوءًا، حين لا يكون هناك أحد يسألها أسئلة غير ضرورية، وحين يمكنها الغوص في بحر الكتب دون مقاطعة.

كانت تبدأ ليلها بمراجعة ما درسته خلال اليوم، ثم تغوص في بحثها الخاص، تقرأ في التشريح، في علم الأمراض، وحتى في الفلسفة الطبية. لم تكن تقبل بالمعلومات كما هي، بل كانت تشكك فيها، تعيد تحليلها، وتحاول فهم ما وراءها.

وعندما يقترب الفجر، كانت تنهض، تغلق كتبها، وتتأمل اللوحة البيضاء على الجدار، كما لو كانت تستعد ليوم آخر من المعركة. لم تكن دراستها مجرد التزام أكاديمي، بل كانت جزءًا من هويتها، من صراعها مع ذاتها ومع العالم الذي لم يكن مستعدًا بعد لفهم فتاة مثلها.

لم يكن التفوق وحده كافيًا في كلية الطب. في عالم تحكمه الألقاب والخبرة، لم يكن الجميع مستعدًا لتقبل طالبة تسير بثقة وكأنها لا تحتاج إلى أحد، تطرح الأسئلة كما لو أنها تحاول كشف زيف ما يُدرَّس، وتناقش النظريات القديمة وكأنها تملك الحق في التشكيك فيها.

وكان هناك دائمًا ذلك النوع من الأساتذة... النوع الذي يرى في مثل هذه العقول تهديدًا.

منذ المحاضرة الأولى، لاحظت زهرة أن الدكتور نادر لم يكن ينظر إليها كما ينظر إلى باقي الطلاب. كان أستاذًا لمادة علم الأنسجة، رجلًا في منتصف الخمسينيات، ذو نظرات حادة وصوت منخفض لكنه قاطع. لم يكن يحب الطلاب الذين يطرحون أسئلة كثيرة، بل يفضل من يستمعون بصمت ويكتبون ما يُملى عليهم.

أما زهرة، فلم تكن من هذا النوع.

في إحدى المحاضرات، حين كان يشرح تركيب الخلايا الطلائية في الأمعاء، رفعت يدها وسألته بصوت ثابت:

— "لكن أليس هناك دراسات حديثة تشير إلى أن تركيب هذه الخلايا قد يكون أكثر تعقيدًا مما كان يُعتقد؟ هناك أبحاث عن دور النسيج الضام المحيط بها في الاستجابة المناعية، ألا يجب أن نناقش ذلك أيضًا؟"

ساد الصمت للحظات، ثم نظر إليها الدكتور نادر بنظرة باردة قبل أن يجيب:

— "نحن هنا لنناقش ما هو مثبت، وليس تكهنات بحثية غير مؤكدة."

لم تعترض، لكنها لم تتراجع أيضًا. كانت تعرف أنه قرأ تلك الأبحاث، وأنه ببساطة لا يريد لطالبة أن تطرح أمورًا قد تحرجه أمام القاعة.

لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد.

حين صدرت نتائج أول اختبار عملي، شعرت زهرة بشيء غير طبيعي. كانت متأكدة من إجابتها، بل راجعت الكتب لاحقًا ولم تجد خطأ فيما كتبت. لكنها حصلت على درجة أقل مما توقعت. لم تكن الرسوب، لكنها لم تكن الدرجة التي تعكس إجاباتها.

قررت ألا تتحدث في البداية، لكن حين تكرر الأمر في الاختبار التالي، لم تستطع أن تتجاهله.

ذهبت إلى مكتب الدكتور نادر، طرقت الباب، ثم دخلت حين أذن لها. كان جالسًا خلف مكتبه، ينظر إلى الأوراق كما لو أنه لم يكن مهتمًا برؤيتها.

— "أريد أن أناقش درجتي في الاختبار، أعتقد أن هناك خطأ ما."

رفع عينيه إليها ببطء، ثم أسند ظهره إلى الكرسي.

— "الدرجات تعكس مستوى الطالب، ولا أعتقد أن هناك خطأ في التقييم."

وضعت زهرة الورقة أمامه، وأشارت إلى إجاباتها:

— "هذه الإجابة مطابقة لما في الكتاب الذي أوصيتم به، فلماذا اعتُبرت غير كاملة؟"

ابتسم ابتسامة خفيفة، لكنها لم تكن ودودة.

— "لأن الإجابة ليست فقط ما يُكتب، بل كيف يُكتب. أسلوبكِ فيه ثقة زائدة، وكأنكِ تعلمين كل شيء. العلم يحتاج إلى تواضع."

شعرت زهرة للحظة وكأنها تلقت صفعة غير مرئية. لم يكن الأمر متعلقًا بإجابتها، بل بشخصيتها. كان يرى فيها تحديًا، وكان يريد كسره.

لكنها لم تكن من النوع الذي يُكسر بسهولة.

خرجت من مكتبه وهي تعلم أنها لن تحصل على حقها منه، لكنها لم تكن مستعدة للسكوت. لم يكن الأمر مجرد درجات، بل معركة على مبدأ: لا أحد يملك الحق في تقليلها فقط لأنها لا تتبع القواعد التي وضعها الآخرون.

في الأيام التالية، بدأت تقرأ أكثر عن الأبحاث الحديثة، لم تعد تكتفي بالمناهج المقررة، بل قررت أن تعرف أكثر مما يعرفه الدكتور نادر نفسه.

أرادت زهره ان تمنحة تفوق لا يمكن تزيفه او التلاعب به 
لم تكن زهرة ممن يرفعون أصواتهم للمطالبة بحقوقهم، لكنها أيضًا لم تكن ممن يرضخون للظلم. أدركت منذ مواجهتها مع الدكتور نادر أن بعض الحروب لا تُكسب بالصوت العالي، بل بالذكاء والإصرار.

ولهذا، بدلًا من الجدال، قررت أن ترد عليه حيث لا يمكنه إنكار تفوقها: في قاعات الدراسة، في الاختبارات، وفي البحوث العلمية.

حين جاء موعد الاختبار النهائي في مادة علم الأنسجة، كان الطلاب متوترين، بعضهم يخشى الأسئلة المعقدة، والبعض الآخر يخشى دكتور نادر نفسه. لكن زهرة لم تكن خائفة. كانت تعرف أن الاختبار ليس سوى ساحة معركة أخرى، وأنها مستعدة لها.

في يوم إعلان النتائج، دخل الدكتور نادر القاعة، وبدأ بتوزيع الأوراق، لكن هذه المرة كان صوته يحمل شيئًا مختلفًا—شيئًا أقرب إلى الضيق المكتوم.

— "زهرة... حصلتِ على الدرجة الكاملة."

لم يكن الأمر مفاجئًا لها، لكنها لاحظت النظرات التي تبادلها الطلاب. لم يكن الحصول على الدرجة الكاملة أمرًا معتادًا في مادته. كان معروفًا عنه أنه لا يمنح الدرجات الكاملة بسهولة، بل كان يجد دائمًا شيئًا لينقص منه.

لكن هذه المرة، لم يجد.

رفعت عينيها إليه، فرأت في نظراته اعترافًا غير مباشر، وإن كان مغلفًا بالبرود. لم يكن يستطيع إنكار تفوقها، حتى لو أراد ذلك.

لم تكتفِ زهرة بالتفوق الأكاديمي التقليدي، بل قررت أن تترك بصمتها حيث لا يستطيع أحد التقليل منها. بدأت تبحث في مجال التشريح المرضي، وركزت على نظرية جديدة تربط بين تلف بعض أنواع الأنسجة وتطور أمراض المناعة الذاتية.

كانت تقضي ليالي طويلة تقرأ الأبحاث الطبية القديمة، تتبع الملاحظات التي تجاهلها الآخرون، تربط النقاط التي لم يربطها أحد. وبعد شهور من العمل، قدمت بحثًا متكاملًا، لم يكن مجرد تلخيصٍ لمعلومات سابقة، بل كان يحمل أفكارًا جديدة وتفسيرات غير مطروقة من قبل.

عندما استعرضت نتائج بحثها أمام اللجنة الأكاديمية، جلس الأساتذة، ومن بينهم الدكتور نادر، يستمعون بصمت. وحين أنهت عرضها، لم يكن هناك تعليقٌ سوى كلمات أحد كبار الأساتذة:

— "هذا البحث... يجب نشره."

لم يكن مجرد إطراء، بل كان اعترافًا بقيمته العلمية.

الضربة الثالثة: حين طلب منها الدكتور نادر المساعدة

بعد أشهر، وبينما كانت زهرة منهمكة في أحد مشاريعها، طرق أحدهم باب المختبر. رفعت رأسها، فتفاجأت بالدكتور نادر واقفًا هناك، وعلى وجهه تعبير لم تره من قبل.

— "أود مناقشة بحثكِ الأخير. هناك نقطة أثارت اهتمامي."

تأملته للحظة، ثم أشارت إلى المقعد المقابل. لم تقل شيئًا، لكنها كانت تعلم أن هذه اللحظة... كانت انتصارها الحقيقي.

كانت أبحاث الدكتور نادر عن الانسجه الميته وكيف يمكن زرعها او إعادة احيائها الشئ الذى كانت زهره ترغب فيه تحديدا

 •تابع الفصل التالي "رواية فراشة المقبرة" اضغط على اسم الرواية 

google-playkhamsatmostaqltradent