رواية فراشة المقبرة الفصل الثالث والعشرون 23 - بقلم اسماعيل موسى
فراشة_المقبرة
٢٣
في اليوم التالي للدفن، عندما هدأت الأصوات وانطفأت المشاعل، ظلت الأرملة الشابة جالسة أمام بيتها، تحضن طفلها الرضيع بينما ينام الآخر على حجرها،لم تكن تبكي، لم يتبقَ في عينيها دموع. فقط نظرة خاوية، كأن روحها غادرت مع زوجها إلى القبر.
مع شروق الشمس، انتشر في القرية خبر لم يتوقعه أحد: علي النزاوي يريدها هي وأبناءها في بيته.
لم يكن أحد يجرؤ على عصيان أوامر علي النزاوي، عمدة القرية وصاحب النفوذ فيها. كان رجلاً لا يعرف الرحمة، لا يُعرف إن كان عادلًا أم ظالمًا، فقط يُعرف أن كلمته تُنفذ، سواء أراد الناس ذلك أم لا.
أرسلت خادمة من خدمه إلى بيت الأرملة، وقفت عند الباب وقالت بصوت حازم:
— "الحاج عايزك دلوقتي."
رفعت المرأة رأسها، حدقت في الخادمة، لم تقل شيئًا، فقط شدّت الطفلين إلى صدرها كأنها تستعد لعاصفة أخرى.
لكنها وقفت في النهاية، وسارت معها، وسط أنظار أهل القرية الذين تظاهروا بعدم رؤيتها، وكأنهم لم يسمعوا بالخبر، وكأن الأمر لا يعنيهم.
حين وصلت إلى بيت النزاوي الكبير، كان الرجال قد اجتمعوا في الساحة أمامه. وقف علي النزاوي في المنتصف، بملامحه الجامدة التي يصعب فهمها، عيناه تتفحصان المرأة التي وقفت أمامه بشجاعة مستمدة من الألم، لا من القوة.
نظر إلى الطفلين، ثم رفع صوته قائلًا أمام الجميع:
— "العيال دول ولادنا، ، من النهارده تحت حمايتي وانا هتكفل بيهم
ساد الصمت، كان ذلك إعلانًا رسميًا، أمرًا غير قابل للنقاش
لم تنطق المرأة بكلمة، لم تشكر ولم تعترض، فقط نظرت إلى الرجل العجوز بعينين ساكنتين، ثم إلى الجمع من حولها. كانوا يراقبون، بعضهم بفضول، بعضهم بارتياح لأنهم لم يعودوا مضطرين إلى التفكير في مصيرها.
أما علي النزاوي، فاكتفى بتلك النظرة، وأمر خدمه:
— "خدوهم جوا حضرولهم اوضه وخليهم ياكلو
________
في تلك الليلة، جلست زهرة وحدها في غرفتها الصغيرة داخل الوحدة الصحية. كان المصباح الخافت يبعث ضوءًا أصفر شاحبًا، يكاد لا يبدد العتمة من حولها. الهواء ثقيل، والجدران تضيق عليها أكثر مما هي ضيقة بالفعل.
يدها ما زالت تحمل آثار دم الرجل الذي مات أمامها، رغم أنها غسلتها مرات ومرات. كانت تشعر أن الدم التصق بأناملها، تسلل تحت جلدها، ولن يزول أبدًا.
لم تستطع أن تمنع عقلها من إعادة المشهد، مرة بعد مرة. كيف كان مستلقيًا على الطاولة، كيف تلاشت الحياة من عينيه بينما كانت تحاول يائسة أن تبقيه حيًا. كيف كان يمسك بيدها في لحظاته الأخيرة، كأنه يستجدي منها شيئًا لا تستطيع منحه.
لكنها كانت تعرف الحقيقة.
لو لم تتدخل أمام العمدة… لو لم تصر على حقه في الكشف… لو لم تجبره على الوقوف في وجه من لا يُقف أمامه… ربما كان سيظل حيًا الآن.
شعرت بغصة تخنقها، كأن يديها هما من ضغطتا على عنقه وخنقتاه، وليس اليد التي أمسكت بالسكين وطعنته في الظلام.
"أنا السبب."
كان صوتًا يهمس داخل رأسها، لا يتوقف.
"أنا السبب."
وضعت رأسها بين يديها، تحاول أن تدفع الأفكار بعيدًا، لكن كيف يمكنها أن تفعل ذلك؟ كيف يمكنها أن تغفر لنفسها؟
لقد جاءت إلى هذه القرية لتكون طبيبة، لتساعد الناس، لتمنحهم حياة أفضل، لكنها في النهاية، تسببت في موت أحدهم.
ابتلعت غصتها، لكنها لم تستطع منع الدموع التي تجمعت في عينيها.
"كان يجب أن أسكت."
"كان يجب أن أتركه وشأنه."
لكنها لم تسكت. والآن، هناك طفلان صغيران بدون أب، وامرأة مكسورة بلا زوج، وعينان أخيرتان انطفأتا إلى الأبد لأنها أرادت أن تكون شجاعة.
شعرت برغبة في الصراخ، في تكسير كل شيء حولها، في الركض بعيدًا عن هذه القرية وعن كل شيء فيها. لكنها لم تفعل.
فقط جلست هناك، في العتمة، مع الذنب الذي التصق بها مثل ظل لا يمكن الهروب منه.
____________
في بيت العمدة علي النزاوي، كانت الأرملة تتحرك كالشبح، لا صوت، لا اعتراض، فقط خطوات حذرة بين جدران لم تعتدها، وأشغال لم تخترها.
كان البيت كبيرًا، أكبر مما تخيلت، لكنه لم يكن دافئًا. كان باردًا رغم حرارة الصيف، جدرانه تخنق أكثر مما تحمي، وأروقته الطويلة تبعث شعورًا غريبًا بعدم الأمان.
منذ اليوم الأول، فهِمت ما هو مطلوب منها، العمل، الخدمة، ألا تُرى ولا تُسمع،كانت تغسل الصحون، تمسح الأرض، تطهو، تفعل كل ما يُطلب منها، دون أن ترفع رأسها.
لكن العمدة كان يراها.
في كل مرة دخلت الغرفة لتضع الطعام، في كل مرة انحنت لترفع آنية، كان يراقب، لم يكن يتحدث كثيرًا، فقط يجلس في مقعده الجلدي الكبير، صامتًا، لكن عيناه تتبعانها أينما تحركت.
لم تكن بحاجة لأن تنظر إليه لتعرف ذلك، كانت تشعر به. كانت نظراته تثقل خطواتها، تجعل أنفاسها مضطربة، كأن الهواء في الغرفة أصبح أكثر كثافة.
في بعض الأحيان، حين تمر بجواره، تلمح ابتسامة خفيفة، بالكاد مرئية، لكن معناها واضح.
لم يكن ينظر إليها كخادمة. كان ينظر إليها كشيء يخصه. شيء سيناله، عاجلًا أم آجلًا.
وفي الليل، حين يخلو البيت من ضوضاء النهار، حين ينام الجميع، كانت تعلم أن نظراته ما زالت هناك، تنتظر.
•تابع الفصل التالي "رواية فراشة المقبرة" اضغط على اسم الرواية