Ads by Google X

رواية فراشة المقبرة الفصل الخامس والعشرون 25 - بقلم اسماعيل موسى

الصفحة الرئيسية

 رواية فراشة المقبرة الفصل الخامس والعشرون 25 - بقلم اسماعيل موسى 


     ٢٥


خرجت زهرة من بيت العمدة بخطوات ثقيلة، كأنها تخوض في وحل غير مرئي.

الهواء البارد لفح وجهها، لكنه لم يكن كافيًا ليوقظها من الشرود الذي غرقت فيه.


كان الشارع هادئًا، لكنها شعرت بعيون تراقبها من الظلال، من خلف النوافذ، من زوايا الأزقة الضيقة. لم يكن أحد قد قال شيئًا، لكن الصمت كان أكثر صخبًا من أي كلمات.


حين وصلت إلى الوحدة الصحية، وجدت بعض النساء الجالسات عند المدخل، يتهامسن بصوت منخفض، وحين رأينها، تلاشى همسهن، واستبدلنه بنظرات حادة، ثقيلة، كأنها تحمل اتهامًا خفيًا.

اتهامآ يخاف المرء التصريح به حتى لا يناله عقاب الجلاد 


"إيه اللي وداها هناك؟"


كلمات متناثرة كانت تصل اذنيها مثل الحصى، لم تلتفت، لم ترد، فقط واصلت سيرها، لكنها شعرت بشيء يتحرك داخلها، شيء لم تشعر به منذ زمن طويل.



عندما دخلت غرفتها، خلعت معطفها الطبي وألقت به على الكرسي، اقتربت من المرآة، نظرت إلى نفسها، لكن ما رأته لم يكن مجرد انعكاس وجهها.


بل كان وجهه.


تلك العيون.


تلك النظرة.


تلك النبضات الغامضة التي ارتجفت تحت جلدها حين لمست معصمه.


أين رأته من قبل؟


لم يكن مجرد عمدة قرية، لم يكن مجرد رجل صاحب سلطة، لم يكن حتى مجرد مريض يحتاج إلى الكشف. كان شيئًا آخر... كان ظلًا من الماضي، منسيًا لكنه لم يمت، مختبئًا لكنه لم يختفِ تمامًا.


وضعت يدها على صدرها، تحاول تهدئة دقات قلبها المتسارعة. لم يكن هذا مجرد شعور بالانجذاب، لم يكن خوفًا، لم يكن ارتباكًا عاديًا.


بل كان شيئًا أعمق.


شيئًا يشبه الذكرى.


لكنه لم يكن ذكرى.


كان شيئًا آخر... شيئًا مجهولًا، لكنه مألوف بطريقة تخيفها.


™™™


في المساء، وبينما كانت زهرة جالسة في غرفتها تحاول التركيز على قراءة بعض الأوراق الطبية، جاءها صوت طرق خفيف على الباب، لم تكن تتوقع أحدًا، فمنذ أن قررت الرحيل عن القرية، لم تعد تختلط بأحد.


قامت متثاقلة وفتحت الباب، لتفاجأ بوالدتها، نرجس، واقفة هناك بملامح متعبة لكن عينيها تلمعان بقلق أمومي مألوف.


— "إيه المفاجأة دي، ماما؟"


لم ترد نرجس مباشرة، فقط حدقت في وجه ابنتها، كأنها كانت تحاول فك شفرة مشاعرها، ثم ابتسمت نصف ابتسامة وقالت:


— "مش هتدخّلينى ولا إيه؟"


تنحت زهرة جانبًا، وسمحت لها بالدخول، لكن قبل أن تغلق الباب، شعرت بشيء يندس بين قدميها ويدخل مسرعًا إلى الداخل.


الهرة ميمي.


تلك القطة المشاغبة التي كانت زهرة قد تركتها في بيت والدتها قبل شهور، ظنًا منها أنها لن تعود رؤيتها، لكن ميمي كانت لديها خطط أخرى،ورغم عجزها  فقد قفزت على السرير وكأنها تعلن بوضوح أنها لن تغادر.



— همست نرجس "أنا ما جبتهاش، هي اللي جت! فضلت تلحقني لحد ما ركبت الميكروباص، ولما وصلت هنا، نطّت من الشنطة كأنها بتقوللي خلاص، أنا هفضل هنا."


بقيت نرجس يومين مع زهرة، لم تسألها مباشرة عما يضايقها، لكنها كانت تراقبها بعين الأم التي ترى ما لا يُقال.

حاولت زهرة أن تبدو طبيعية، أن تخفي اضطرابها، لكنها لم تستطع خداع والدتها.


في صباح اليوم الثالث، قررت نرجس الرحيل، وقفت عند الباب، تمسح على شعر ابنتها بحنان، وقالت:


— "أنا ماشية، بس إنتِ عارفة إنك تقدري تكلميني في أي وقت، صح؟"


— "عارفة، ماما."


— "أنا مش مطمنة عليكي، زهرة. فيه حاجة مضايقاكي، وأنتِ مش عايزة تقولي."


ابتسمت زهرة ابتسامة واهية، وقبلت يد والدتها.


— "أنا كويسة، متقلقيش."


لكن نرجس لم تصدقها، رغم أنها لم تلحّ بالسؤال، تركت ابنتها على باب الوحدة الصحية، بينما الهرة ميمي جلست عند قدمي زهرة معلنه قرارها النهائي البقاء مع زهره 



في مساء ذلك اليوم، وبينما كانت زهرة ترتب بعض الملفات في مكتب غرفة الكشف ، سمعت صوت خطوات ثقيلة عند الباب، رفعت رأسها، لتجد العمدة علي النزاوي واقفًا هناك، يملأ حضوره المكان كعادته.


 كانت نظراته مختلفة هذه المرة... أكثر عمقًا، أكثر بطئًا، كأنه كان يراها بطريقة لم يرها بها من قبل.


— "مشغولة يا دكتورة؟"


أغلقت الملف بهدوء، وقالت دون أن تتوتر:


— "لأ، تحت أمرك."


تقدم بخطواته الواثقة، ثم جلس على الكرسي المقابل لها، استرخى في جلسته لكنه لم يرفع نظره عنها.


— "أنا جاي النهارده مش علشان أكشف، أنا جاي علشان أفهم."


قطبت زهره  حاجبيها قليلًا، لم تقل شيئًا، فواصل هو، بنبرة هادئة لكنها مشحونة بشيء لم تستطع فهمه تمامًا:


— "إنتِ عارفة إنك مش طبيعية، صح؟"


اتسعت عيناها قليلًا، فابتسم هو ابتسامة خافتة، كأنه استمتع بمفاجأتها.


— "ما تفتكريش إني واحد بسيط، يا دكتورة، أنا راجل بيعرف يشوف اللي الناس مش بتشوفه،وعارف إنك من يوم ما حطيتي إيدك عليا، وأنتِ مشغولة بحاجة... ومش قادرة تهربي منها."


شعرت زهرة بانقباض في صدرها، لكنها تماسكت، وقالت بثبات:


— "أنا دكتورة، ولمست المرضى شيء طبيعي في شغلي."

وقفت الهره ميمى بحذر تحدق بعلى النزاوى وشيء داخلها يرجف بقوة 

بينما ضحك العمدة ضحكة قصيرة، ثم انحنى للأمام، ليقول بصوت خفيض لكنه عميق وهو يبرم شاربه 


— "لمساتك دي... خلت قلبي يمرض."


تسارعت أنفاسها دون أن تدرك، بينما كانت نظراته تزداد ثباتًا، كأنه لم يقل مجرد كلمات، بل ألقى شيئًا في الهواء، شيء ثقيل، شيء لن تستطيع التظاهر بأنها لم تسمعه


لكنه لم يعطها فرصة للرد، وقف بهدوء، ثم قال قبل أن يغادر:


— "سلام يا دكتورة."


وغادر، تاركًا خلفه صمتًا ثقيلًا... وإحساسًا عميقًا لم تستطع تسميته


اطلت نظره غريبه من عين الهره ميمى قبل أن تقول رجل شرير

لكن كان هناك شيء اخر داخل ميمى شيء أعمق من مجرد الاحساس، شيء يخبرها انها تعرف هذا الرجل وربما رأته قبل ذلك.


 •تابع الفصل التالي "رواية فراشة المقبرة" اضغط على اسم الرواية 

google-playkhamsatmostaqltradent