Ads by Google X

رواية فراشة المقبرة الفصل السادس والعشرون 26 - بقلم اسماعيل موسى

الصفحة الرئيسية

 رواية فراشة المقبرة الفصل السادس والعشرون 26 - بقلم اسماعيل موسى 

فراشة_المقبرة

كانت زهرة تجلس على العتبة الحجرية أمام الوحدة الصحية، تضع كوب الشاي الساخن بين يديها، تشعر بحرارته تخترق جلدها البارد.

كانت الشمس تتسلل بين أغصان الأشجار المتناثرة، تلقي بوهجها الذهبي على الأرض الرطبة، فيما كانت رائحة الحقول تعبق في الهواء، ممزوجة بنسيم الصباح النقي.


بالطو الأطباء الأبيض كان ما زال على كتفيها، مفتوحًا قليلًا، يتراقص مع النسمات الخفيفة.

 لم تكن في عجلة من أمرها، ولم يكن هناك مرضى بعد، فالساعات الأولى من النهار عادة ما تكون هادئة، خالية إلا من خطوات الفلاحين البعيدين وأصوات الطيور المتناثرة في السماء.


إلى جانبها، جلست الهرة ميمي، ملتفة على نفسها في كسل، كأنها تستمتع هي الأخرى بدفء الشمس.

كانت عيناها نصف مغمضتين، لكنها لم تكن نائمة تمامًا، فقط مسترخية في يقظة خفيفة.

كانت ترفع أذنًا وتخفض الأخرى، تراقب محيطها بحذر كسول، بينما ذيلها يتحرك ببطء فوق الأرضية الصخرية.


رشفت زهرة القليل من الشاي، ثم مررت أصابعها على فرو ميمي الناعم، شعرت بالدفء الذي ينبعث منها، وكأنها مخلوق صغير يحمل حرارة الحياة نفسها.


— " ميمي؟" همست زهره وهي تنظر إلى الأفق. "هو ممكن فيه حاجات تفضل تلاحقنا حتى لو احنا منعرفهاش ."

رفعت ميمى عينيها المتعبه، هذا كلام مجانين يا زهره

كل ما نشعر به به يكون له سبب ربما الان، ربما فى الماضى

لكنه موجود


اطرقت زهره تجاه الحقول الشاسعه، مش عارفه ليه حاسه انى كنت هنا من قبل، حاسه انى اعرف المكان بكل تفاصيله، 

حاجه جوايا بتغلى من غير توقف وبتمنعنى ابطل تفكير فى الشعور ده


لم تتحرك ميمي، لكنها أصدرت صوت خرير خافت، كأنها تفهم ما تقوله زهرة، أو على الأقل تشعر به.


عيناها، رغم استرخائهما، كانتا تراقبان شيئًا بعيدًا،كانت تتجه بنظرها نحو الحقول الممتدة على مرمى البصر، تلك الحقول التي يكسوها اللون الأخضر العميق، متمايلة مع النسيم كبحر ساكن.


وفجأة، بدون إنذار، قفزت ميمي.


تحركت بسرعة مفاجئة، قفزت من حجر زهرة بخفة، ثم انطلقت نحو الحقول كأن شيئًا استدعاها هناك.


— "ميمي!" نادت زهرة، لكن الهرة لم تتوقف 


رقبتها زهره وهي تختفي بين الزراعات العالية، كان ذيلها الأبيض آخر ما رأته قبل أن تبتلعها الخضرة تمامًا.


شعرت زهرة بانقباض في قلبها، إحساس غامض لم تفهمه، كأن ميمي لم تذهب لمطاردة عصفور أو اللعب في الطين، بل لسبب آخر... سبب أعمق، مجهول، وربما... مألوف بطريقة مخيفة.


**************


على أطراف القرية، حيث لم يعد أحد يمر إلا قليلًا، وقفت بقايا المنزل الذي التهمته النيران منذ سنوات طويلة.

 كان البناء قد فقد ملامحه، لم يبقَ منه سوى جدران سوداء، متفحمة كعظام محترقة، وسقف منهار لم يترك سوى بعض الأخشاب الملتوية، كأصابع ممدودة تطلب النجدة بعد فوات الأوان.


الأبواب اختفت، والنوافذ لم تعد سوى فتحات خاوية تنظر إلى الفراغ، كأنها عيون مفتوحة على الحزن الأبدي.

 كانت الأرضيات مغطاة بطبقة من الرماد القديم، ممزوجة بتربتها الأصلية، حتى صار من الصعب التفريق بين ما كان جزءًا من البيت، وما كان جزءًا من الأرض التي ابتلعته.


كانت الرياح تتسلل عبر الفتحات، تصدر أصواتًا كأنها أنين خافت، فيما العشب البري نبت بين الشقوق، يحاول أن يغطي آثار الخراب، لكنه لم ينجح في طمس الندوب التي تركها الحريق.


توقفت ميمي


كانت عيناها تتسعان ببطء، كأن شيئًا كان يعود إلى ذاكرتها، شيئًا لم تكن تريد تذكره.


تقدمت خطوة، ثم خطوة أخرى، كانت أقدامها الصغيرة تخطو فوق الرماد البارد، لكنها شعرت بحرارته تحرق جلدها كما لو أن النيران لم تنطفئ أبدًا.


هنا، في هذا المكان، كانت هناك صرخات.


هنا، كانت ألسنة اللهب تلتهم كل شيء، تسرق الهواء، وتغلق كل الممرات.


هنا، كانت أمها، بقفزاتها المرتبكة، تحاول الفرار، لكن الدخان كان أسرع.


وهنا، كانت هي، صغيرة جدًا، لا تفهم لماذا أصبح العالم كله نارًا، ولماذا تحول الدفء إلى موت.


تذكرت كيف دفعتها والدتها إلى ثغرة صغيرة بين الجدران، كيف ضغطت بجسدها النحيل حتى خرجت إلى الهواء البارد، بينما بقيت الأم هناك... خلف الجدار، بين النيران، لم تخرج أبدًا.


لم يكن هناك وقت للبكاء حينها، كان هناك فقط الجري، الجري بعيدًا، حتى لم تعد الرائحة تلتصق بأنفها، حتى لم تعد عيناها تحترقان من الدخان.


والآن، بعد كل تلك السنوات، عادت إلى هنا.


عادت، وكأن شيئًا ما ناداها.


رفعت رأسها ببطء، نظرت إلى الظلال المتراكمة داخل الأطلال، إلى الفراغ الذي خلفته النيران، ثم إلى السماء التي كانت صافية بشكل مخيف تتذكر شريط حياتها الطويل 


حينها انطلقت ميمي من بين أنقاض المنزل المحترق، لم تكن تملك وجهة، فقط غريزة البقاء كانت تدفعها للأمام.

 كانت صغيرة جدًا، بالكاد تفطم عن أمها، والبرد كان قاسيًا، لكن شيئًا آخر كان أقسى... الوحدة.


في الأيام الأولى، اختبأت بين الأحراش القريبة، في حفر صغيرة تحت جذور الأشجار، تتحرك فقط حين يجنّ الليل، تبحث عن أي شيء يبقيها على قيد الحياة.

 لم تكن تعرف الصيد بعد، ولم تكن هناك أم تعلمها، فاضطرت إلى التقاط الفتات، تتسلل إلى البيوت البعيدة، تسرق لقيمات من بقايا الطعام الملقى.


لكن الحياة في البرية لم تكن سهلة، كانت هناك كلاب تتربص، وأعين بشرية تلمحها من بعيد فتقذفها بالحجارة.

وكانت هناك ليالٍ طويلة بلا طعام، حيث لم يكن في المعدة سوى الهواء، ولم يكن في القلب سوى الخوف.


مرت الأيام، تحولت إلى أسابيع، والأسابيع إلى شهور.


كبرت ميمي بسرعة، لكنها لم تفقد نحافتها، ظل جسدها صغيرًا، هشًا، كأن النار لم تكتفِ بحرق منزلها بل سرقت منها فرصة أن تكبر كغيرها من القطط.

 ومع ذلك، تعلمت كيف تخفي نفسها، كيف تستمع للأصوات قبل أن تقترب، كيف تقرأ النوايا في العيون قبل أن تضع قدمها في أي مكان.


وفي أحد الأيام، وجدت نفسها عند حدود منزل لم يكن كباقي البيوت.

عندما وصلت ميمي إلى ذلك المنزل، كانت قد قضت سنوات تتنقل من مكان إلى آخر، تبحث عن ملجأ، عن زاوية دافئة تأويها من البرد والجوع والذكريات التي لم تفارقها.

 لم يكن في نيتها البقاء، لم يكن هناك مكان آمن في هذا العالم، لكنها كانت متعبة، وشيء ما في هذا البيت جعلها تتوقف.


كانت الشمس تميل نحو الغروب، ترسم خطوطًا ذهبية على الأرض، والحديقة تفوح منها رائحة الأرض الرطبة.

 الأشجار هنا لم تكن موحشة، والأصوات القادمة من الداخل لم تكن مزعجة، لم يكن هناك صراخ، ولا تهديدات، فقط هدوء نادر، يشبه حلمًا خافتًا وسط ضوضاء العالم.


ثم رأت الطفلة.


كانت زهرة في السابعة من عمرها، تجلس على العشب، ساقاها مطويتان تحتها، ويديها تعبثان بورقة شجر ذابلة.

 لم تكن تغني، لم تكن تتحدث مع أحد، فقط كانت هناك، في عالمها الخاص، ترسم على التراب بأطراف أصابعها.


توقفت ميمي عند حافة الحديقة، تتأملها بحذر، كانت قد تعلمت أن البشر لا يحبون الغرباء، أن الأيدي التي تمتد للقطط الشريدة تحمل في الغالب حجارة أو ضربات، لكنها لم ترَ ذلك في عيون الطفلة.


زهرة رفعت رأسها ببطء، نظرت نحوها، لم تقل شيئًا.


كان هناك صمت بينهما، لكنه لم يكن جافًا، لم يكن عدائيًا.


بل كان نوعًا من الفهم.


مدّت زهرة يدها الصغيرة، لم تحاول النداء عليها، لم تحاول إجبارها على الاقتراب، فقط تركت يدها مفتوحة، كأنها تقول: "إذا أردتِ، يمكنكِ أن تأتي."


ميمي لم تتحرك فورًا، كانت لا تزال تشعر بالريبة، بالحذر الذي لم يفارقها منذ تلك الليلة، ليلة الحريق، ليلة الفقد.

لكنها كانت مرهقة... مرهقة من الركض، من الاختباء، من الوحدة.

فى اول مره هربت ميمى، اختفت يومين كاملين لكن بعد ذلك لم تستطع مقاومة الرغبه حين تكرر الأمر 

بخطوة بطيئة، ثم أخرى، تقدمت.


حين لمست يد زهرة فروها لأول مرة، لم تشعر بالخوف.

لم يكن في اللمسة قوة، ولا محاولة امتلاك، فقط دفء، هدوء، إحساس بأن هناك أخيرًا مكانًا قد تستطيع أن تنتمي إليه

وشعور اخر انها رأت تلك الفتاه الصغيره فى مكان آخر لا تتذكره.

 •تابع الفصل التالي "رواية فراشة المقبرة" اضغط على اسم الرواية 

google-playkhamsatmostaqltradent