رواية فراشة المقبرة الفصل السابع والعشرون 27 - بقلم اسماعيل موسى
عادت ميمي إلى غرفة زهرة بخطوات بطيئة، وكأن ثقل العالم فوق ظهرها الصغير.
لم تكن تلك القطة المرحة التي اعتادت زهرة على رؤيتها تتمدد بكسل في الشمس، أو تلك التي تتسلل إلى حجرتها ليلًا لتنام عند قدميها.
كانت مختلفة… شاردة، وكأنها فقدت جزءًا منها في مكان ما ولم تعد كما كانت.
أغلقت زهرة باب الغرفة بهدوء، ثم جلست على سريرها، تتأمل القطة التي قفزت إلى طرف السرير، جلست هناك، تلف ذيلها حول جسدها بإحكام، وعيناها التائهتان تحدقان في الفراغ.
— "ميمي؟" نادت زهرة بصوت خافت، لم تتحرك القطة.
لم تصدر حتى ذلك الخرير الناعم الذي اعتادت أن تردده عند سماع صوت زهرة.
زحفت زهرة قليلًا إلى الأمام، مدت يدها بحذر، تمرر أصابعها على فرو ميمي، لكنها لاحظت أن جسدها كان متوترًا، مشدودًا كما لو أنها ليست هنا، بل في مكان آخر بعيد جدًا.
— "في إيه يا ميمي؟ إنتي مش على بعضك من ساعة ما رجعتي."
لم يكن هناك رد،فقط صمت ثقيل.
كانت زهرة تحاول أن تخفي قلقها، لكن شيئًا ما كان يجعل صدرها ينقبض.
لم تعتد أن ترى ميمي بهذا الشكل،كانت دائمًا قوية، حتى في أشد الأوقات قسوة. أما الآن… فكان هناك شيء مكسور بداخلها.
أخذت نفسًا عميقًا، ثم قالت برفق:
— "ميمي، بصّيلي."
ببطء، رفعت القطة رأسها، نظرت إلى زهرة، وعندها… شعرت زهرة بقشعريرة باردة تسري في جسدها.
كانت ميمي تنظر إليها كما لم تفعل من قبل، نظرة تحمل شيئًا أكبر من الحزن، أكبر من الخوف… كانت نظرة شخص يتذكر شيئًا كان يجب ألا يتذكره أبدًا.
مرت لحظة ثقيلة بينهما، قبل أن تفتح ميمي فمها أخيرًا، بصوت بالكاد يسمع:
— "أنا كنت هناك."
شهقت زهرة، كأن الهواء خرج من رئتيها دفعة واحدة.
— "إيه؟!"
لم يكن عقلها مستعدًا لاستيعاب ما سمعته، لكنها رأت الصدق في عيني القطة، ذلك الصدق القاسي الذي يجعل المرء يصدق دون أن يحتاج إلى دليل.
— "أنا كنت هناك، زهرة… في النار، في الليلة اللي اتحرق فيها البيت."
ارتعشت يد زهرة، سحبتها ببطء، كأنها تخشى أن تلمس شيئًا قد يحرقها.
— "بي… بيت مين؟"
— "بيت أمِّك."
الهواء في الغرفة صار أثقل، وكأن الجدران اقتربت، وكأن العالم كله انكمش حول زهرة في لحظة واحدة.
— "إنتي بتقولي إيه؟"
لكنها عرفت.
عرفت أنها لم تكن تكذب.
عرفت أن هناك شيئًا في أعماقها، شيئًا كان مختبئًا، يطرق باب وعيها بقوة الآن.
كانت ذكريات مشوشة، أشلاء صور ممزقة، أصوات بعيدة، لكنه كان هناك… كان دائمًا هناك.
— "زهرة، إنتِ كنتِ هناك برضه."
أرادت أن تنكر، أرادت أن تضحك وتقول إنها مجرّد قطة، قطة لا تفهم ما تقول، لكن عقلها لم يستطع إنكار شيء لم تفهمه، لكنه شعر به بكل كيانه.
— "أنا ما فاكراش أي حاجة عن ده."
هزّت ميمي رأسها، كأنها تعرف ذلك بالفعل، كأنها لم تتوقع غيره.
— "عشان عقلك حبسك برا الذكرى دي، زهرة، مش عشانها مش موجودة… لكن عشانها كانت كبيرة أوي، أكبر من اللي تستحميليه وقتها."
زهرة كانت تشعر أن رأسها سينفجر،قلبها كان ينبض بسرعة غير طبيعية، وأنفاسها أصبحت ضحلة، متسارعة.
— "إنتي بتتكلمي عن حاجات حصلت وأنا طفلة… حاجات أنا مش فاكرها أصلاً! إزاي ممكن تبقي متأكدة؟"
أمالت ميمي رأسها قليلًا، عيناها نصف مغمضتين، وكأنها ترى شيئًا خلف زهرة، خلف الحاضر نفسه.
— "لأن الحريق ده هو اللي فرقني عن أمي… زي ما فرقك عن أمِّك."
زهرة وضعت يديها على رأسها، شعرت بدوار مفاجئ، كان هناك شيء بداخله يتحرك، يصرخ، يحاول الخروج.
شيء ظل محبوسًا لسنوات طويلة.
ما كانت تمر به زهرة لم يكن غريبًا من الناحية الطبية، بل هو ظاهرة معروفة في علم النفس العصبي تُسمى "الكبت الصدمي" (Traumatic Repression) أو "فقدان الذاكرة التفارقي" (Dissociative Amnesia).
عندما يمر الإنسان بتجربة صادمة للغاية في سن مبكرة، فإن الدماغ—وخاصة الجهاز الحوفي (Limbic System)، المسؤول عن معالجة العواطف والذاكرة—يقوم بحماية النفس من الانهيار عبر إنشاء "حاجز ذهني" يمنع استرجاع تلك الذكرى.
المنطقة الرئيسية المسؤولة عن هذا الحاجز هي "اللوزة الدماغية" (Amygdala) و**"الحُصين"** (Hippocampus).
في اللحظات الأولى من الصدمة، ترتفع مستويات الكورتيزول والإبينفرين، وهما هرمونان يرتبطان بالاستجابة للخطر، ما يؤدي إلى تعطيل الحُصين جزئيًا، مما يجعل تكوين الذاكرة غير مكتمل أو مجزّأ.
إذا كانت الصدمة شديدة بما يكفي، فإن الدماغ قد يتعامل معها كـ"معلومات غير قابلة للوصول" بدلًا من تخزينها كذكرى طبيعية.
هذا يعني أن زهرة لم "تنسَ" الحريق بالطريقة العادية، بل إن دماغها قام بحماية نفسها من الألم عن طريق دفن الذكرى في اللاوعي.
لكن الذكريات المكبوتة لا تُمحى أبدًا.
تبقى هناك، كامنة، تنتظر المحفز المناسب لتطفو إلى السطح.
وفي حالة زهرة، كان المحفز هو "ميمي"… القطة التي كانت هناك في تلك الليلة.
شعرت زهرة بألم حاد خلف عينيها، كأن رأسها سينفجر، كأن شيئًا كان يحاول كسر الجدار الذي بناه عقلها لسنوات.
—
لكن الذكرى لم تعد تسأل عن إذنها.
وميض من نار.
صوت صراخ.
يد تمتد إليها وسط اللهب.
وجه لا تتذكره… لكنه محفور في أعماقها.
زهرة شهقت، وضعت يدها على فمها، عيناها اتسعتا بصدمة لم تعرف أنها كانت ممكنة.
كان الليل قد بدأ يزحف على القرية عندما خرجت زهرة من المنزل.
لم تكن تدري كيف حملتها قدماها إلى الخارج، لكنها وجدت نفسها تمشي بلا تفكير، وكأن قوة خفية كانت تقودها.
الهواء البارد لفح وجهها، لكن الدفء المتبقي في جلدها لم يكن بسبب الطقس، بل بسبب النار التي بدأت تحترق داخلها… النار التي لم تكن تعلم بوجودها حتى تلك اللحظة.
كان الطريق وعراً تحت قدميها، لكنها لم تشعر بشيء.
لا بالأحجار الصغيرة التي كانت تتسلل إلى نعليها، ولا بأغصان الأشجار المتشابكة التي امتدت كالأصابع لتحاول إيقافها.
لم تكن ترى شيئًا سوى هدفها الوحيد.
البيت.
البيت الذي احترق.
البيت الذي مات فيه الجميع.
❋ ❋ ❋
وقفت أمامه، قدماها مغروستان في الأرض كأنهما جذور شجرة، وعيناها متسعتان أمام الأنقاض المتفحمة.
لم يكن هناك سوى الجدران المهدمة، آثار الدخان الأسود الذي ما زال مطبوعًا على الحجارة، وبعض الأخشاب المحترقة التي لم يبتلعها الزمن تمامًا.
لكن زهرة لم تكن ترى هذا فقط.
كانت ترى الماضي.
كانت ترى ألسنة اللهب وهي تبتلع المنزل، تلعق الجدران، تلتهم الأثاث، تتصاعد إلى السماء كأنها غضب من الجحيم نفسه.
كانت ترى نفسها… طفلة صغيرة، قدماها عاريتان، ترتجف في زاوية الغرفة بينما النار تزمجر حولها.
ثم… جاء الرصاص.
❋ ❋ ❋
ضربت الذكرى عقلها كصاعقة، جعلتها تتراجع خطوة إلى الوراء، تلهث وكأن الأكسجين قد هرب من رئتيها.
كان هناك رجال.
رجال بملابس سوداء، يحملون أسلحة، يصرخون بلغة لم تفهمها وقتها.
كان والدها يقف أمامهم، عاري الصدر، يفتح ذراعيه كأنما يحاول حمايتهم جميعًا بجسده،كانت والدتها تمسك بالصغيرين، تحتضنهما، تحاول أن تغطيهم بجسدها.
ثم…
انطلقت الطلقة الأولى.
شهقت زهرة، وضعت يديها على أذنيها وكأنها تحاول إيقاف الصوت، لكنه كان قد اخترقها بالفعل.
ثم الثانية.
الثالثة.
الرابعة.
صرخة أمها كانت أقوى من الرصاص.
ثم سقطت.
سقطوا جميعًا.
❋ ❋ ❋
شهقت زهرة وهي تترنح إلى الخلف، قلبها يخفق بجنون.
لم تكن قادرة على التنفس، على التفكير، على استيعاب ما تراه. كانت دموعها تسيل على وجنتيها دون أن تدرك حتى أنها تبكي.
"لا… لا… ما ينفعش… ده مش حقيقي… مش حقيقي!"
لكن عقلها كان قد استيقظ.
كان يرفض العودة إلى النوم.
❋ ❋ ❋
ثم جاءت اللحظة التي لا تزال محفورة في وعيها. اللحظة التي سقط فيها جسدها الصغير على الأرض، بين الجثث، بين الدخان والدم، والبرد يزحف إلى عظامها
زحفها تحت السرير، اليد التى جذبتها من قدمها ثم لا شيء اخر
توقفت الذكريات عند هذا الحد سقطت الدكتوره زهره على الأرض فاقده للوعى
❋ ❋ ❋
عندما فتحت عينيها، كانت في مكان آخر.
كانت تشعر بخشونة الملاءة تحت جسدها، بالدفء الذي لم يكن موجودًا في تلك الليلة.
سقف خشبي داكن امتد فوقها، وعلى الجدران كانت هناك ظلال نار هادئة، تراقصت بفعل ضوء المصابيح الزيتية.
لم يكن هذا بيتها.
لم يكن هذا أي مكان تعرفه.
❋ ❋ ❋
— "أخيرًا فوقتي."
جفلت عند سماع الصوت، صوت رجل، عميق وثقيل كأنه قادم من أعماق الأرض.
التفتت ببطء، ورأت رجلاً يجلس على كرسي خشبي بالقرب من الباب، يراقبها بعينين غامضتين.
— كان "العمدة… العمدة علي النزاوي."
•تابع الفصل التالي "رواية فراشة المقبرة" اضغط على اسم الرواية