رواية راما الفصل الثاني و الثلاثون 32 - بقلم اسماعيل موسى
فتحت جين عينيها ببطء، تشعر بأنفاسها ثقيلة وكأن صدرها يرفض أن يتمدد بما يكفي.
الأضواء البيضاء الساطعة فوقها بدت ضبابية، تتراقص كأنها نجوم بعيدة، وأصوات الأجهزة الطبية تملأ الغرفة بإيقاع رتيب.
كانت في المستشفى.
حاولت تحريك يدها، فشعرت بوخز الإبرة المغروسة في وريدها، وبأنابيب المصل الممتدة من ذراعها. عندما حاولت التذكر كيف وصلت إلى هنا، لم تجد سوى ذكريات متشابكة… الألم، سقوطها على أرضية شقتها، رقم هاتف الطبيب الذى ظهر أمامها، الفراغ الذي ابتلعها، الظلام الذي جرها بعيدًا عن الواقع.
شعرت بشيء رطب على خدها، لم تكن دموعها، بل قطعة قطن مبللة وضعتها ممرضة تبتسم لها برفق.
— "أنتِ مستيقظة، هذا جيد."
جين لم ترد، كانت الكلمات ثقيلة على لسانها، كأنها لم تعد تجيد التحدث. نظرت حولها، الغرفة كانت شبه فارغة، لا زوار، لا أحد بجانبها.
كما توقعت، كانت دومًا وحدها.
مرّت الأيام ببطء، أو ربما لم تكن أيامًا بل مجرد ليالٍ طويلة متشابهة، تذوب في بعضها دون أن تترك فرقًا يُذكر.
كل ما تتذكره هو خطوات الأطباء وهم يدخلون غرفتها، نبرة أصواتهم الرتيبة وهي تشرح حالتها، وملفات الفحوصات التي يتبادلونها فيما بينهم.
قالوا إن هناك مضاعفات بعد الجراحة، شيء غير متوقع. جسدها لم يتعافَ كما ينبغي، وهناك علامات نزيف داخلي بسيط لم ينتبهوا له من قبل.
— "نحتاج إلى مراقبتك عن قرب، جين."
لم تهتم. لم يعد هناك شيء يستحق الاهتمام.
لكنهم فعلوا. أخضعوها لسلسلة من الفحوصات، صور الأشعة، التحاليل التي تتكرر يومًا بعد يوم، الإبر التي اخترقت جلدها مرات لا تحصى.
— "هناك أمر آخر…"
قال الطبيب ذات ليلة، وهو يقلب نتائج تحليلها الأخير
. نظرت إليه بعينين خاليتين من الترقب.
_لم تكن بحاجة لسماع المزيد، كانت تعرف أن جسدها خائن مثل كل شيء آخر في حياتها._
لكنه تردد، ثم أضاف بصوت منخفض:
— "جين، لقد أعدنا فحص كل شيء، والنتائج… تشير إلى احتمال ضئيل للحمل في المستقبل، لكنه ليس مستحيلًا كما كنتِ تعتقدين."
لم تنطق بكلمة. لم يظهر على ملامحها أي تعبير.
هل كانت هذه مزحة قاسية من القدر؟ أن تخبرها الحياة أخيرًا بأنها قد تحصل على ما أرادته ذات يوم…
ولكن في الوقت الخطأ، بعد أن فقدت الشخص الوحيد الذي رغبت في مشاركة هذا الأمر معه؟
لم تقل شيئًا. أومأت برأسها فقط، وعندما خرج الطبيب، عادت إلى صمتها العميق.
الليل في المستشفى لا يشبه الليل في أي مكان آخر.
لا نجوم تُرى من النوافذ، لا أصوات مألوفة في الخارج، فقط أنين المرضى في الغرف المجاورة، وقع أقدام الممرضات، وصفير الأجهزة الطبية التي لا تتوقف عن العمل.
في تلك الساعات، كانت تستلقي على سريرها، تنظر إلى السقف، تتساءل: لو أن الأمور سارت بشكل مختلف، لو أن آدم لم يبتعد، لو أنها لم تكن مجرد ظل في حياته… هل كان سيجلس هنا بجانبها الآن؟ هل كان سيمسك يدها، يواسيها، يخبرها أن كل شيء سيكون بخير؟
لكن الإجابة كانت واضحة.
لم يسأل عنها. لم يبحث عنها. لم يهتم حتى عندما اختفت.
في إحدى الليالي، استيقظت على صوت المطر بالخارج. نهضت ببطء، اقتربت من النافذة، ولم ترَ سوى شوارع فارغة، أضواء خافتة تنعكس على الإسفلت المبلل.
في تلك اللحظة، شعرت بأنها لم تعد تنتمي إلى أي مكان. لا إلى المستشفى، لا إلى حياتها القديمة، ولا حتى إلى نفسها.
ضغطت يدها على بطنها، حيث كان الجرح نابضًا بألم خافت، وخرجت منها شهقة لم تستطع كتمها.
كان ذلك الليل طويل جدا جدا
كانت السماء رمادية حين غادرت جين المستشفى.
لا مطر، لا شمس، فقط هواء بارد ينساب بين المباني وكأنه يواسيها بصمته.
لم يكن هناك أحد بانتظارها، لا يد تمتد لتساعدها، لا صوت مألوف يرحب بها خارج أبواب ذلك المكان الذي احتجزها لأسابيع.
استندت للحظة إلى الباب الزجاجي قبل أن تبدأ بالسير ببطء. جسدها كان ضعيفًا، لكنه لم يكن أضعف من روحها.
عندما دخلت شقتها، وجدت كل شيء كما تركته: الأضواء مطفأة، الهواء ساكن، الصمت يملأ الزوايا.
أغمضت عينيها للحظة، وكأنها تحاول أن تعتاد من جديد على هذا الفراغ.
ثم اتجهت مباشرة إلى الطاولة، سحبت هاتفها، وكتبت رسالة قصيرة.
"آدم، أريد مقابلتك."
لم تنتظر طويلًا. ردّ بعد دقائق.
"أين؟"
"في المقهى القريب من المستشفى. بعد ساعة."
عندما دخل آدم المقهى، لم يكن يبدو متفاجئًا برؤيتها، لكن في عينيه ظهر شيء… مزيج من الحذر والاستفهام.
جلس أمامها بصمت، ونظر إليها كما لو كان يراها لأول مرة بعد زمن طويل.
_جين لم تبتسم. لم تحاول حتى أن تبدو بخير._
— "كيف حالكِ؟" سألها بصوت هادئ.
نظرت إلى كوب القهوة أمامها، ثم إليه.
— "لن أضيّع وقتك، آدم." قالت بهدوء، ثم وضعت أمامه ظرفًا صغيرًا.
لمس الورق بأطراف أصابعه
— "جين، ما هذا؟"
رفعت عينيها إليه، نظرتها كانت مستقرة، ثابتة بطريقة لم يكن يتوقعها.
— "أوراق الطلاق."
صمت. للحظة، بدا وكأنه لم يسمعها بشكل صحيح، ثم فتح الظرف وسحب الأوراق. عينيه مرّتا على الكلمات المكتوبة، لكن شفتيه ظلتا مغلقتين.
— "جين، هل هذا حقيقى؟
ضحكت ضحكة صغيرة، بلا مرح قبل أن تردف
— "لا تسألني وكأن الأمر مفاجئ لك، آدم. نحن انتهينا منذ وقت طويل. أنا فقط أضع نهاية رسمية لهذا كله."
أغلق الملف ببطء، ثم نظر إليها بجدية.
— "لماذا الآن؟"
شعرت بحرارة في صدرها، لكنها حافظت على هدوئها.
— "لأنني لم أعد أريد أن أعيش كظل، كخيار مؤجل، كشيء يمكن تركه جانبًا دون أن يؤثر على حياتك.
لأنني استحق أن أكون أكثر من مجرد ذكرى في عالمك، وأنت لم تعد في عالمي بعد الآن."
آدم لم يرد. عيناه كانت تقرآن ملامحها، وكأنهما تبحثان عن تردد، عن شك، عن لحظة ضعف قد تجعله يوقفها. لكنه لم يجد شيئًا.
جين نهضت، وضعت معطفها بهدوء، ثم دفعت الأوراق نحوه مجددًا.
— "وقّعها، آدم. لا أريد شيئًا منك، فقط هذا."
نظرت إليه نظرة أخيرة، تلك النظرة التي كانت تحمل وداعًا صامتًا لكل شيء كان بينهما، ثم استدارت ومشت نحو الباب.
هذه المرة، لم تنتظر أن يناديها.، لأنها عرفت أنه لن يفعل
وحتى لو فعل لن تلتفت نحوه
فى الخارج بدت لها الشوارع التى مشت فيها للتو غريبه عنها
كان تستطلع وجوه الناس كأنها تخشى ان يكون أحد يعرف ما يحوى ذلك المظروف آلقابع فى يدها
لاشيء سهل على الأطلاق حتى إلذى نرغب به ونسعى له بقوة يفقد قيمته عندما يصبح بين ايدينا
اسدلت جين الستارة على قلبها الذى ينبض بعنف، كشراعه منزل تطل على شارع مترب...
يتبع
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية راما) اسم الرواية