رواية رحماء بينهم الفصل الثالث والثلاثون 33 - بقلم علياء شعبان
التفاعل فضلًا قبل قراءة الفصل🔥🔥🔥🔥🔥♥️
تفاعلوا مع الفصل بلايك وريفيو بعد القراءة♥️♥️♥️
شكرًا
•~•~•~•~•~•~•
رواية رحماءٌ_بينهم
"كمثلِ الأُترُّجة".
]]الفصل الثالث والثلاثون]]
•~•~•~•~•~•~•
»أعدُكِ ببيتٍ دافئ قد بُني بالحُب وتعديني بألا يكون بيننا سوى الرحمة وأن نرى الله فيما نصنع».
•~•~•~•~•~•~•
-بس هي عارفة إني حبتها وكأنها روح من روحي؟!
أردف "علَّام" بدموع جارفٍ وحنين إليها مُتقد فقد كسره معرفة حالة ابنته الجميلة وهروبها عن الحقيقة بالنوم واللا وعي، لم يلم "تليد" البتة؛ فقد كان يدعم معرفة "وَميض" بالحقيقة لأن العمر مهما طال سوف تكتشف هي ذلك، خرج صوته مهزومًا يُتابع:
-هي أكيد لسه بتحبني، لسه بتعتبرني سندها ولا مش عايزة تشوف وشي؟!
رد "تليد" بسرعة ينفي ظنونه:
-وَميض بتحبك جدًا يا عمي ولا يمكن تتخلى عن وجودك في حياتها، إنتَ أحسنت تربيتها وهي لا يمكن تجحد فضلك عليها، بس زيّ ما قولت لك هي بتعاني حاليًا من صراع داخلي مُزمن مخليها مُشتتة وتايهة واقتراحي دا إنتَ مش مُجبر توافق عليه ولكن "وَميض" محتاجاني جنبها وأنا محتاج إنها تكون تحت عيني!
تنهد "علَّام" بأسى ثم أضاف بصوت فاترٍ:
-عمي مراتك في الأول والآخر يابني ومحدش يقدر يمنعها عنك وطالما وجودها في بيتك هيكون في مصلحتها فطبعًا أنا معاك.
رد "تليد" بنبرة يكسوها الامتنان والشكر:
-أنا بشكرك إنك مُتفهم وقادر تساعد في حل المشكلة بكُل سلام وبساطة وبعد موافقتك طبعًا أنا هبلغ والدي وصُحابي يظبطوا مكان في المزرعة نعمل فيه حفلة بالليل قبل ما نروح شقتنا يمكن دا يكون مفيد ليها وأجواء الفرحة تغير من مزاجها شوية.
علَّام بمساندة ولهفة:
-على بركة الله يابني، أشوفكم بالليل على خير.
أنهى الاتصال هذا ثم أجرى غيره يُخبر الجميع بوجود حفلة مساءً وعليهم أن يقوموا بالتجهيزات على أكمل وجه؛ تلقى الشباب الخبر بفرحة عارمة وبدأوا في التنفيذ في نشاط وهمة ولم ينسَ إخبار بعض أصدقائه بشأن إقامة حفل زفاف عائلي يدعوهم للحضور إلى المزرعة.
كل هذه الترتيبات تمت عقب دخولها في نوم عميق ومُراسلة أبيه في الصباح، تذكر كُل هذا أثناء جلوسه على الكرسي المجاور للفراش وهو يتأملها أثناء النوم ويملأ قلبه اللهفة برؤية سعادتها حينما ترى جميع من تحبهم في مكان واحد وحينما ترى ما أحضره لها كي يزيد يومها سعادة.
افتر ثغره عن ابتسامة أنيقة حينما بدأت تتمطى في الفراش بارتياح كبير وكأنها لم تنم من قبل، فقد نامت ما يقرُب من السبع ساعات دون أن تقلق في نومتها مُطلقًا وكأنها غائبة عن العالم بأكمله، كان شعرها ساقطًا على وجهها كُله تضم ركبتيها إلى صدرها كما الجنين في رحم أمه؛ في البداية تعجب من طريقة نومها ولكنه لا يعلم هي تنام هكذا في العموم أو أن هذه الوضعية لا تحدث إلا حينما يغزوها الألم فتود إسكانه باحتوائها لنفسها!!
ظل مُحدقًا في تفاصيلها إلى أن وجدها تزيح خصلاتها عن وجهها بتأفف لتبدأ بفتح عينيها ببطءٍ وكانت أول صورة التقطتها بعينيها رؤيته جالسًا على الكرسي يُطالعها بابتسامة هادئة، رمقتهُ بنظرات وديعة جدًا أذابت قلبه وجوارحه تمامًا، بقيت على هذه الحالة لثواني بينما قطع هو الصمت قائلًا بدفء:
-أخيرًا!.. مساء الخير يا آنستي!
تدبرت ابتسامة باهتة وهي تقول بنُعاس:
-أنا نمت كتير؟!
تليد بضحكة مشرقة:
-يادوب هم سبع ساعات بس.
تنحنحت بهدوء وردت:
-قُليلين، أنا هرجع أنام تاني.
أسرعت برفع الأغطية عليها من جديد فيما أسرع هو بدفعهم وهو يقول بلهجة حازمة:
-مفيش الكلام دا.. يلا قومي يا كسولة.. الشيخ سليمان مستنينا على العشا وأنا خللت وأنا مستنيكِ تصحي لوحدك.
اعتدلت "وَميض" في نومتها جالسةً وهي تقول بملامح يطغى عليها الحُزن والندم:
-بس عمو سليمان أكيد مش عايز يشوفني من بعد اللي حصل مني.. أنا شوفت نظرات العتاب في عينيه.. هو أكيد مبقاش يحبني وأنا مقدرش أفرض نفسي عليه!
تليد بنبرة ثابتة:
-أبويا بيقابل كُره أعدائه بالحُب فما بالك أحبابه؟ مع العلم إن معندوش أعداء بس أبويا راجل حقاني وبيقول الحق بكُل جوارحه وكلمة الحق أوقات كتير بتقف في الزور.
سكت هُنيهة ثم تابع:
-وبعدين إحنا لازم نتكلم معاه في موضوعنا!!
خفق قلبها وهي تسأله بتوجسٍ:
-موضوع أيه؟!
تليد متشحًا بالجدية والثبات:
-يعني.. هل هنكمل مع بعض ولا كُل شئ قسمة ونصيب!!
زوت ما بين عينيها وهي تقول بصوت محتدًا بالغضب:
-بس إنتَ وعدتني إنك مش هتتخلى عني؟!
تليد يومىء بتأكيد:
-وأنا فعلًا مش هتخلى عنك ومش شرط دا يحصل وإنتِ مراتي بس، أنا قضيت سنين عُمري كُله بحمي ضهرك وماشي وراكِ زيّ ضلك، إمتى اتخليت عنك علشان أتخلى دلوقتي؟!!
تنهدت طويلًا قبل أن تدلي قدميها على الأرض وتفرك كفيها وهي تقول بندم يحمل بين طياته اعتذار:
-أنا آسفة على كُل لحظة أساءت لك فيها وكُل لحظة مدتش فيها نفسي فُرصة أفهمك كويس وهاجمتك بدافع العناد والإصرار على الغلط، آسفة علشان اللي زيك في العُمر مش هيتكرر مرتين وبشكرك على النفس اللي بيخرج مني بفضلك..
همَّت أن تُتابع ولكنه قطع كلامها مُضيفًا بلهجة ثابتة:
-بفضل الله وانا مجرد سبب.
أومأت وهي تتابع بابتسامة هادئة:
-أكيد؛ ولكني بشكر الجُندي المجهول فيك وبشكرك على العروسة والفساتين وإنك فرطت في لبسك وكسوتك علشان تدفي طفلة رضيعة البرد كان بياكل فيها ومقبلتش تفرط فيا.
تليد وهو يستأصل عينيها تحديدًا فيتابع ناظرًا داخلهما بقوة:
-ولحد آخر نفس فيا مش هفرط فيكِ يا وَميض.
امتلأت عيناها بالدموع حتى فاضت على وِجنتيها وهي تقول بانكسارٍ تُبعد نظراتها عن عينيه:
-أنا بجد آسفة.. سامحني.
نهض من مكانه بكُل رزانة ثم مال عليها قليلًا وراح يربت على ذراعيها بكفيه قائلًا بصوت لين:
-متتأسفيش، إن شاء الله كل حاجة بالوقت هترجع أحسن من الأول.
استقام مرة أخرى في وقته ثم مد كفه أمامها وسأل باهتمامٍ:
-يلا بينا!!!
تدبرت ابتسامة باهتة وهي تضع راحتها أعلى كفه وتقول باستسلام:
-يلا.
•~•~•~•~•~•~•~•
وقفت أمام المرآة القابعة أعلى منضدة الزينة داخل غرفتها، كانت تضع اللمسات الأخيرة من أحمر الشفاه ذي اللون البنفسجي الهادئ؛ فهي تعشق كُل ما هو جرئ كشخصيتها حتى أنها ابتسمت لأن اللون لاق بجمالها ورونقها كثيرًا فهي سيدة تعشق نفسها وتمتلك ثقةً غاليةً بالنفس فتسير في الأرض في دلال وغرور يحفظ لها كبريائها وكرامتها بين الناس ولا يمكن لأحدٍ أن يتجاوز الحدود التي أقامتها هي بين الجميع ورغم كُل هذا فهي محبوبة وراقية في التصرف.. تبُش في كل وجه تُقابله بابتسامة صافية وتساعد بكُل ما لديها في بناء حيوات جديدة لأُناس يعيشون فقرًا مُدقعًا ومعيشة متدنية.. لا تبخل فك كربات الناس كلما سنحت لها الفُرصة بهذا كما وضع الله في طريقها أُناس جملوا مستقبلها وجعلوها على ما هي عليه الآن؛ فتُعطي ولا تقبض وتمنح دون مُقابلٍ.
انتهت من وضع أحمر الشفاه ثم وضعته على المنضدة وشرعت تتقهقر قليلًا للوراء وهي تنظر إلى هيئتها الرقيقة نظرة عمومية شاملة في إعجاب شديدٍ فالثوب تناسب تمامًا مع بريق بشرتها البضة القمحية وخصلاتها الذهبية التي تنسدل على ظهرها بموجٍ هاديء كما شخصها الراسخ في العموم.
حاولت أن تلتزم بثوبٍ يليق بتواجدها بين عائلة "سليمان السروجي" في مناسبة لطيفة كهذه فاختار أن ترتدي فستانًا لا يُظهر منها شيئًا وارتدت فوقه سُترة من الفروِ باللون الأبيض فكانت تبدو أنيقة دون إظهار أية تفاصيل أخرى من جسدها سوى رأسها وكفوفها وقدميها وهذه المرة الأولى التي تتحفظ فيها على ما سترتديه، لقد سعدت كثيرًا باتصاله بها ودعوتها فهي بحاجة إلى أجواء عائلية تُنسيها ما تُعانيه في وحدتها.
طُرق الباب فسُحبت من شرودها للواقع مرة أخرى:
-ادخل!
نظرت عبر المرأة إلى الطارق فكان "ماكسيم" الذي تصلب في مكانه يُطالعها بنظرات شاردة يبدو وكأنه في لحظة هُيام فصلته عن إدراك كل شيء حوله سواها، كانت عينيه تروح وتأتي على هيئتها بانبهار صامتٍ فيما زوت "نجلا" ما بين عينيها قائلةً بابتسامة متعجبة:
-ماكسيم!.. في أيه مالك؟!
تنحنح فورًا وهو يسحب نفسه من تأثير سُكره بها:
-أعتقد كفاية كدا لبس وميك آب، أخدتي بالظبط ..
سكت للحظة وهو يرفع ذراعه أمام عينيه يُطالع ساعة يده بتدقيق:
-بالظبط ساعتين بتجهزي.. مش معقول كدا!
نجلا تومىء بتفهم:
-تمام تمام.. أنا خلاص جاهزة.
ماكسيم بابتسامة هادئة يسأل:
-تحبي العربية تدخل لحد باب الفيلا ولا هتركبي من عند الباب الرئيسي!!
نجلا وهي تميل على المنضدة وتقبض على حقيبتها متابعًا باستسلام:
-مش هتفرق يا ماكسيم، المهم نتحرك دلوقتي ونشارك الناس فرحتهم.
•~•~•~•~•~•~•
عُلقت الأضواء بحديقة المزرعة تُنير بألوان مُختلفة وزاهية وتم وضع طاولة مستطيلة في منتصف الحديقة وحولها العديد من المقاعد من أجل حفل العشاء الذي سيجمع الضيوف والاحباب معًا، قام "نوح" و "عُمر" بمساعدة "عِمران" في تزيين الأرجوحة الموجودة في الحديقة بالورد وجلب دراجة وتزيينها بالورود أيضًا وتولت "رابعة" وعمال المزرعة أمر إنجاز الطعام بينما مكث الشيخ "سليمان" برفقة "علَّام" حول موقد الشاي المصنوع من الحجار والحطب يتسامران حول هذه الأجواء وما تمر به ابنتهما الصغيرة، كان للفتيات دورًا هامًا في هذا الحفل حيث توجهت "مُهرة" إلى أحد المولات التجارية وقامت بشراء فستان باللون الأبيض بينما أنهت "شروق" وشقيقتها "سكون" تنظيم شقة الزوجية ووضع الثوب على حامل بمنتصف الغرفة.
كانت النسمات الشتوية تداعب وجوههم بلسعة حماسية راقت لهم وكانت نيران الموقد تبعث الدفء على نفوسهم قبل أجسادهم حيث وضع الشيخ "سليمان" وسائد مُريحة حول الموقد للسمر والمرح حول النار كما تولى "نوح" أمر الشواء فعاونه بعضًا من عمال المزرعة في ذبح الضأن ونزع الفرو عن جسده وصُنع آلة لتعليقه أسفل نار مُتأججة مُستعرة، لم تُفارق الضحكة أفواههم بكُل حماس وفرح متجاوزين الصعاب الذي يمر بها كُل واحد منهم؛ فكان الشيخ "سليمان" يُراقب كُل فردٍ منهم على حدا بمشاعر أبٍ حكيمٍ قادرًا على قراءة دواخلهم بحكمة حتى أنه يُعبر عن مدى إعجابهم بقوتهم وإظهار الافضل للناس دومًا بدلًا من الشكوى واليأس الذي يبث في نفس الغير طاقة سلبية لا تتداوى بسهولة، نظر "سليمان" إلى "شروق" حبيبة قلبه الغالية التي لا تشكو منذ صِغرها كيف لها أن ترمي رأسها على صدر زوجها وهما يضحكان بخفة أثناء جلوسهما أمام الموقدٍ فمن يرها يظن أنها لم تتعرض منذ أيام لأوجاعٍ شديدة ليس لأنها تجاوزت الألم بل لأنها فضلت أن تعيشه أمام نفسها فقط فالجميع لديهم من الآهات جِبالًا وزوجها لم يكُن بأقل منها بشاشة وعقلانية فيُجاهد نفسه أن يبقى صامدًا أمامها حتى تقتبس منه بعض القوة وتلين أوجاعها.
ينظر الشيخ إلى "سكنه" هكذا يُلقبها؛ فهي فتاةٌ شقية مراوغة ولكنها لا تقل طيبة عن أشقائها بل هي الأكثر حُبًا واحتواءً ودعمًا لهما رغم أنها الأصغر عُمرًا؛ فتحنو عليهما كأمٍ رائعة تنجح دومًا في كسب ثقتهما وضمهما إلى جنباتها وتنهش لحمَ من يحاول المساس بهما؛ هي رائعة ومُحبة ولكنها تتشرب القليل من والدها فتحبه جدًا وتطيع أوامره حتى وإن كان على خطأ وهذا طبيعي في العموم فالأب من حقه أن يُطاع إلا في الشرك بالله، ينظر إليها تضع ذراعها حول كتفي شقيقها الذي يجلس بجوارها أيضًا يتسامران بصُحبة "كاسب" الذي منذ أن رآه في المرة الأولى وعلم أنه يكمن مشاعرًا صادقةً لابنة أخيه.. مشاعرٌ لا تحمل بين طياتها أية ذرائع سوى الحب.. صادقة فحسب.
كان يتابع قسمات وجه "عُمر" التي تتراوح بين السعادة والهدوء، هدوءٌ يتخلله الحُزن والكسرة فدائمًا يشعر بأنه أقل قيمةً من وجهة نظر والده منذ تعرضه للحادث ولكنه لا يقدر على ستر مشاعره وإخفائها فيبدأ في ذرف الدموع أو تحطيم الأشياء من حوله كي تهدأ نفسه قليلًا.
ضحك الشيخ "سليمان" ما أن انتقل بنظراته إلى هاتين الاثنين؛ هنا حالة خاصة بالنسبة له؛ فرؤيتهما تُسعده والدفء النابع من علاقتهما الطاهرة والصادقة يزيد من دعائه لهما بالاتحاد والاجتماع العاجل، يرى "نوح" يقف أمام الضأن يشرف على شوائه بنفسه بينما تقف "مُهرة" بجواره يمزحان بضحكات عالية، يرى بريق عيني "نوح" يلمع بشدة كلما كانت بجواره، نوح الذي تربى على عِزة النفس والكرامة والذي عاش ومازال يجابه مشاكله وأوجاعه بالابتسام والضحك طمعًا في أن ينظر الله إلى حال قلبه الحزين الذي يُحارب ملامحه الضاحكة.
تقف تلك الفتاة الرائعة إلى جواره بحماس طفولتها الذي لم يتغير أبدًا فتنبهر دومًا بكُل شخصٍ تُحبه حتى أنها تُعطي كُل القيمة والحُب بلا مُقابل؛ فهي راقية في مشاعرها ناضجة للحد الذي يجعلها لا تُعطي أهمية للأمور إلا إذا كانت تستحق أن تنثر مشاعرها وتستنزفها فتفعل بكُل أريحية وصدق.
تذكر أيضًا "وَميض" أو كما يسميها أُترُچ التي تعذب ابنه في هواها طويلًا، تلك الفتاة التي تحمل جوهرًا نقيًا كالقُطن ولكن البيئة التي نشأت بها أثرت سلبًا على معتقدها فتزعُمُ أن الحرية لا يحكمها شرائع أو أوامر أخرى فأحيانًا ترك أبواب الحرية لأبنائنا يجلب عاصفة مُضادة لا يمكنك التغلب عليها؛ فلا يوجد حرية تخلو من مشاعر الخوف من الله، لا حُرية في تصرف لا ترى الله فيه، مشاعرهٌ تؤازرها بحُب كبيرٍ فالاضطراب النفسي أو العُصاب الناتج عن الصدمة كفيل أن يُدمر نفس المرء خاصةً إن كان في منأى عن الله، كان يدعوا لها ليلًا ونهارًا.. سِرًا وعلانيةً أن يمنحها الله القوة كي تتجاوز ما تمر به وإن تنعم بحياة سعيدة مع ابنه الذي انتظرها عُمرًا كاملًا، هذا الشاب الطموح الذي لا يستسلم مُطلقًا مهما كلفه الأمر عمره فلو كان ينوي الصغير أن يُفرط بها ما أصبحت زوجته في شبابه، حفظ العهد من الصِبا حتى الشباب ولم تمس قلبه مثال ذرة من خفقة مصدرها غيرها.
في تلك اللحظة قطع شروده في الشباب من حوله مجيء "تليد" الذي تابع وهو ينظر داخل عيني والده قائلًا بتوجسٍ من عدم استجابة والده على تحيته:
-حج سليمان؟! إنتَ سرحان في أيه؟!
استفاق "سليمان" توًا فنظر حوله مرة أخيرة ليجد الساحة قد فرغت من الفتيات، التفت بعينيه إلى ابنه فانشرح قلبه وهو يبتسم بحُب فاتحًا ذراعيه للأخير:
-تليد.. حمد لله على سلامتك يا عِز الناس.. مُبارك يا حبيبي.
ضمهُ "تليد" بقوة ثم ردد بنبرة مُشتاقة:
-وَحشتني يا أبويا.
ابتسم "علَّام" بودٍ كلما نظر إلى هذه المشاعر السامية بينهما ليجد "سليمان" يسأل باهتمام:
-فين وَميض؟!
تليد وهو يرفع كف والده ثم يقبله:
-البنات أخدوها الأوضة علشان تلبس الفستان.
الشيخ "سليمان" بسعادة غامرة:
-وإنتَ بردو البس بدلتك، نوح جهزها لك في أوضتك.
تليد وهو يربت على كف والده بدفء:
-عيني يا حبيبي، هلبس حالًا.
نهض "تليد" مُستقيمًا ثم تحرك فورًا إلى غرفته، ربت "علَّام" على كتف الشيخ ثم قال بودٍ:
-ربنا يخليكم لبعض يا شيخنا.
تدبر "سليمان" ابتسامة هادئة قبل أن يعير "علَّام" الجالس أمامه كُل الاهتمام ثم يقول بنبرة هادئة لينة:
-عثمان إنتَ من ساعة ما قعدت وحالك مش عاجبني؟! كُل أزمة بالتقرب لله هتعدي.. لازم يكون عندك ثقة في دا.
علَّام يرد بنبرة مضطربة توشك على البكاء:
-بس أنا المشاكل زادت في حياتي أوي ومبقيتش قادر أتحملها يا شيخ، كُل أموري من سيء لأسوأ حتى الست اللي حبتها كُل العُمر ما بيعدي بتتغير للأوحش، ليه يا شيخ بيحصل معايا كدا؟!
مد "سليمان" ذراعه يربت على كف الأخير ثم قال برفقٍ:
-أنت آسف لو هوجعك بكلامي يا علَّام بس والله من حُب النصيحة ليك.
سكت هُنيهة ثم أكمل وهو يحدق في عيني "علَّام" اللاتي تلمعان بانكسارٍ:
-مش يمكن تكون عملت ذنب في حق شخص لسه بيتألم منه!!
علَّام وهو يومىء سلبًا في تأثر:
-بس أنا عُمري ما عملت ذنب في حـــ...
توقف فجأة عن الكلام وهو ينظر إلى بوابة الحديقة التي يقف على مقدمتها سيدة جميلة جدًا تنظر حولها في المكان وكأنها تبحث عن شخصٍ ما؟!!.. حدق فيها مصدومًا فَزِعًا وصوت الشيخ يرن في أذنيه مُرددًا هذه الجملة مرة أخرى حينما رآها:
-"مش يمكن تكون عملت ذنب في حق شخص لسه بيتألم منه!!".
أسرع "نوح" بخطواته نحو السيدة التي تقف بجوار رجل وسيم تنظُر في دقة باحثًا عن صاحب دعوتها، كان الهواء يُداعب شعرها فيلتف حول وجهها في تمرد وفي تلك اللحظة جاء "نوح" الذي قال بلهجة ترحيبية هادئة:
-مدام نجلا، نورتينا!
أومأت في ابتسامة ثم طبطبت على صدرها بكفها في شُكر وامتنان فقد تعلمت الطريقة الصحيحة للسلام وفق عائلة "سليمان السروجي" فلا يوجد ما يُدعى سلام بالمُصافحة بين رجل وامرأة والجميل أنها تحترم ذلك جدًا، سلم "نوح" على "ماكسيم" الذي يرافقها دومًا في كُل خطوة تخطوها ثم أفسح لهما الطريق ثم قادهما إلى حيث يجلس الشيخ سليمان.
سارت معه بامتنان وابتسامة واسعة ما لبث أن غابت فورًا وهي تنظر إلى "علَّام" بدهشة كبيرة، حاولت إخفاء صدمتها فورًا وهي تلتفت بنظراتها إلى الشيخ "سليمان" تحييه بإماءة خفيفة من رأسها وتُبدي إعجابها بالمكان في ابتسامة هادئة ليقول "سليمان" بترحاب كبيرٍ:
-أنرتِ المكان يا بنتي، تحبي تقعدي معانا ولا على الترابيزة؟! طبعًا اللي يريحك.. أصل أنا والله يا بنتي مليش في قعدة السفرة بتاعتكم دي.
ابتسمت "نجلا" وهي تجلس فورًا على الوسادة أمامه قائلةً بابتسامة حماسية:
-أولًا المكان منور بوجودك فيه يا بركة.. ثانيًا النبي عربي وأنا مش عايزة أتعامل على إني ضيفة.
سليمان وهو ينظر إلى "ماكسيم" ثم يقول بودٍ:
-شايك سُكره أيه يابني؟!
ماكسيم بابتسامة يرد:
-زيادة يا بويا.
اندمج "سليمان" في تحضير الشاي لاستضافة هذين الضيفين فيما التفتت "نجلا" بنظرات قوية ناحية "علَّام" وبنبرة ثابتة دون أن تبعد عينيها عنه قالت:
-معرفتناش على الأستاذ يا شيخ سليمان؟!
سليمان وهو ينظر إلى "علَّام" بودٍ:
-أستاذ علَّام يبقى أبو العروس.
شردت "نجلا" لثواني قبل أن تقول بهدوء:
-آآاه، أهلًا وسهلًا!
ابتلع "علَّام" ريقه على مضض قبل أن يرد:
-أهلًا بيكِ.
•~•~•~•~•~•~•~•
وقفن يتطلعن إليها بسعادة غامرة بعد أن ارتدت الثوب الأبيض وغطاء رأسها الأبيض المُنمق والبسيط وقد وضعت القليل جدًا من مساحيق التجميل فبدت حسناء ساحرة للقلوب وخاطفة للأنظار تسلُب لُب كُل من يتطلع إلى بريق هيئتها الناعمة، وقفت تتأمل نفسها أمام المرآة بينما تميل "شروق" برأسها على أحد كتفيها ناظرًا إلى حُسن صديقتها عبر المرآة وتميل "مُهرة" بسعادة وإعجاب على الكتف الآخر قاصدين إسعادها وإضفاء ذكرى فريدة في يومها.
-زيّ القمغ.. نص حلاوتها يوم فغحي يارب.
تكلمت "مُهرة" تحت تأثير طلة "وَميض" المُبهرة فيما تابعت "شروق" بمشاعر متأثرة أقرب للبُكاء:
-زيّ البدر يا روح قلبي.. ربنا يبارك في بيتك وزوجك وحياتكم وتكون أيامك الجاية لايق ومتفصلة على حلمك.
قامت "شروق" بإحاطة خصر "وَميض" بكلا ذراعيها لتقوم "وَميض" باحتضانهما معًا قائلةً بامتنان:
-شكرًا ليكم علشان قررتوا تكونوا جنبي وتشاركوني اللحظة اللي أي بنت بتتوتر فيها.
أردفت "شروق" بابتسامة هادئة:
-على فكرة سكُون عملت معانا كُل التجهيزات واختارت مع مُهرة الفستان، متزعليش منها، هي يمكن مش بتعرف تعبر عن مشاعرها لحد غيري أنا وعُمر.
وَميض بهدوء وهي تتأمل طلتها للمرة الأخيرة:
-مش زعلانة.
مُهرة وهي تصيح بنبرة حاسمة:
-أنا بقول يلا بقى علشان العغيس مستني برا.
فركت "وَميض" كفيها وقد تسارعت دقات قلبها بشكل كبير وهي تسير مع الفتيات خارج الغرفة، ظهرت بطلتها أمامه فلم يستطع أن يقاوم ضمها إلى صدره خاصةً تخيله أنه كان قاب قوسين أو أدنى أن يفقدها، اندفع بشغف جارفٍ نحوها ثم وضع كفه خلف ظهرها ودفعها بعُنف ناعمٍ إلى صدره فبدا وكأنه يعتصرها من فرط حنينه إليها بينما قررت هي أن تسلمه قلبها ومشاعرها وأن تُجرب الانصات إلى صوت قلبه الوله.
كان يضغطها بقوة بين ذراعيه واضعًا فمه أسفل عُنقها يستنشق عَبق وعبير رائحتها الأُنثوية القاتلة واللحظة شعرت أنها تود مُبادلته هذه المشاعر فأسرعت بإحاطة عُنقه بذراعيها وهي تميل برأسها على كتفه، بقيا على هذه الحالة لكثيرٍ من الوقتٍ حتى تنحنحت "مُهرة" وهي تقول بحسها الفكاهي المُعتاد:
-أكتغ من كدا وهتصحوا فيا مشاعغ كتير عندي دخلت في غيبوبة من زمان.
شروق بضحكة هادئة:
-البنت سنجل والكراش بيتقل.
ضحك الجميع ثم قادها "تليد" إلى ساحة الحديقة ليستقبلهم العائلة بالتصفيقات والصَفير، لم يتحمل "علَّام" رؤيتها بالثوب الأبيض فبدأ يبكي بانفعال شديدٍ بين سعيد وتعيس لابتعادها عنه، اندفعت بمشاعر متأثرة إليه ثم أسرعت بضمه في حب شديدٍ بينما همس هو باكيًا بالقُرب من أذنيها:
-آسف يا بنت عمري وكمان هتوحشيني والدنيا هتفضى عليا من بعدك!
وَميض وهي تُقبل كتفه:
-بس أنا يا حبيبي هفضل جنبك، محدش هياخدني منك، مش إنتَ قولت لي إن تليد ابن حلال وزوج صالح، يبقى مين اللي هيبعدني عنك بس!!
علَّام وهو يلتقط رأسها بين كفيه الكبيرين ثم يلثم جبينها بحب كبيرٍ:
-محدش عالم عُمره هيخلص إمتى يا روح قلب أبوكِ، خلي بالك من نفسك ومن تليد.
أومأت وهي تُقبل ظاهر كفه بينما تدخل الشيخ "سليمان" قائلًا:
-وقتك خلص يا علَّام، تعالي يا قطقوطة لعندي.
تهللت أسارير وجهها وضحكت ملء شدقيها وهي ترتمي فورًا بين ذراعيه بسعادة فيما قبل الشيخ "سليمان" جبينها قائلًا بودٍ:
-لأ حياة لمخلوق في معصية الخالق، دي نصيحتي ليكم يا ولاد مع بداية حياتكم الجديدة.
اندفع "تليد" نحوه ثم قبل ظاهر كفه بإحسان شديد لوالده العظيم، في هذه اللحظة تقدمت "نجلا" نحوهما ثم سلمت بمباركة على العروسين وقامت بتقديم هدية ثمينة للعروس، كان الدفء والمودة يسودان المكان فانتشروا جميعًا في الحديقة وسط دقات الدف والطبول ثم بدأ الشيخ "سليمان" يدعوهم إلى طاولة الطعام الكبيرة جدًا والتي تسع للجميع بما فيهم عُمال المزرعة الذين تساوت رؤوسهم بالجميع فلا يوجد سيد وخادمه في محيط عائلة "سليمان السروجي".
التف الجميع بسعادة حول مائدة الطعام مُستمتعين بمذاقه الشهي بينما كانت "نجلا" في عالم آخر تتجول بعينيها بين هاتين الفتاتين الجالستين أمامها في حيرة وضياع، تتأمل ملامح كُل واحدة منهما على حدا وقد استصعبت الأمر جدًا، أمرٌ يستقر في نفسها فحسب وهي تفكر كيف تنتقم من عدوها، قطع شرودها سؤال "شروق" التي لاحظت نظرات "نجلا" المصوبة نحوها وشقيقتها:
-مدام نجلا، ليه مش بتاكلي؟!
استفاقت "نجلا" على سؤالها فردت بابتسامة باهتة:
-مش متعودة أتعشى بس مش أكتر.
نوح وهو يلتهم الاكل التهامًا ثم يقول باستنكار حول كلامها:
-بس دا مش أي عشا.. دا ضاني مشوي.
ضحك الجميع بمرح ليقول "تليد" بضحكة عريضة:
-عيل مفجوع.
كانت الأجواء هادئة تمامًا حتى جاء الحارس جريًا نحوهما وهو يقول بهدوء:
-عثمان بيه موجود برا يا شيخ سليمان.
حدق الجميع مذهولين بينما تهللت أسارير وجه "سليمان" الذي ظن أن شقيقه جاء للتهنئة والمُباركة فاردف بنبرة سريعة:
-افتح له البوابة بسرعة.
في هذه الأثناء، تشنجت فرائصها واضطربت أنفاسها بلا هوادة لتضع يدها على أذنها وتُسقط القرط بالأرض ما أن أبصرته يأتي من بعيد ونزلت بجذعها العلوي أسفل الطاولة بحُجة أن قرطها قد فُقد وتبحث عنه.
•تابع الفصل التالي "رواية رحماء بينهم" اضغط على اسم الرواية