رواية راما الفصل الثالث و الاربعون 43 - بقلم اسماعيل موسى
#راما
الأخيرة
بدأت جين تشعر بالإرهاق الشديد، جسدها المنهك لم يعد يحتمل الأعباء اليومية التي كانت تؤديها بسلاسة من قبل،
لم يكن الأمر مجرد تعب عابر، بل ثقل يضغط على عظامها ويمنعها من القيام بأبسط المهام.
غسل الصحون أصبح مجهودًا مرهقًا، تنظيف الأرضية مهمة شبه مستحيلة، وحتى تحضير وجبة بسيطة صار يتطلب منها وقتًا أطول مما ينبغي.
في البداية، حاولت جين إخفاء الأمر، لكنها لم تستطع مواصلة التظاهر لفترة طويلة.
لاحظت راما ذلك، ولم تنتظر أن تطلب منها المساعدة، دون أن تتردد، تولّت معظم الأعمال المنزلية
كانت راما عملية وسريعة الحركة، تنظف، ترتب، وتعد الطعام وكأنها اعتادت هذا الدور طوال حياتها، لم يكن الأمر مجرد إحسان لجين، بل كان دين قديم عليها سداده
أما بدر، فقد لاحظ التغيير لكنه لم يعلّق عليه مباشرة،في البداية، كان وجود راما ويوسف في الشقة غريبًا عليه، لكنه لم يستغرق وقتًا طويلًا حتى اعتاد عليه.
صوت يوسف الطفولي، حركته المستمرة، وحتى لعبه بأغراض لا تخصه، كل ذلك صار جزءًا من يوميات الشقة، أما راما، فقد أصبحت حضورًا مألوفًا، تدير المنزل بحيوية مختلفة، دون أن تفرض نفسها أو تشعر أحدًا بأنها دخيلة.
بمرور الأيام، لم تعد جين تقلق بشأن عدم قدرتها على الاعتناء بكل شيء، لأن راما كانت موجودة، ولأن بدر لم يبدِ أي انزعاج حقيقي، شيئًا فشيئًا، أصبح وجودهما طبيعيًا، كما لو أن الشقة اتسعت لاحتوائهما دون مقاومة
لقد كانت رغبت جين التى أحترمها بدر رغم عدم فهمه بقاء راما فى الشقه مع طفلها ، رغم هذا الجفاء الظاهر قبل الولادة المتعثرة
*****
لم تكن جين تتوقع أن تكون أيام حملها الأخيرة بهذا القدر من الصعوبة.
كانت قد تحملت شهورًا من الإرهاق والغثيان، لكنها ظنت أن النهاية ستكون أكثر رحمة،إلا أن جسدها كان له رأي آخر.
في الأيام التي سبقت الولادة، كانت جين تشعر بآلام حادة في ظهرها وأسفل بطنها، أقوى من أي شيء عانته من قبل.
لم يكن مجرد انزعاج عابر، بل موجات من الألم تأتي وتذهب، تتركها لاهثة، متعرقة، غير قادرة على الحركة، كلما حاولت الوقوف، شعرت أن الأرض تميد تحتها، فتتمسك بأقرب شيء إليها كي لا تسقط.
راما كانت تراقبها بقلق، تحاول مساعدتها قدر المستطاع، لكن جين لم تكن مستعدة للاعتراف بأنها بحاجة إلى المساعدة.
"أنا بخير، فقط قليل من الإرهاق." كانت تقول ذلك دائمًا، حتى عندما كانت أصابعها ترتجف وهي تمسك بحافة الطاولة لتمنع نفسها من الانهيار
لكن في إحدى الليالي، تغير كل شيء،استيقظت جين على ألم مفاجئ، كأن سكينًا حادة مزقت بطنها من الداخل، حاولت النهوض، لكن قدميها لم تحملاها، شهقت وهي تشعر برطوبة غريبة بين ساقيها، وعندما أدركت ما حدث، اجتاحها الذعر.
"راما!" صوتها خرج ضعيفًا، لكنه كان كافيًا لإيقاظ المرأة التي كانت تنام على الأريكة في الصالة القريبة،هرعت راما نحوها، وعندما رأت وجهها الشاحب، لم تحتج إلى تفسير.
"جين، يجب أن نذهب إلى المشفى الآن."
لكن جين كانت بالكاد قادرة على التقاط أنفاسها،الألم كان يمزقها، ينهكها بسرعة مرعبة، شعرت بأن جسدها لم يعد ملكها، كأنه يتمرد عليها، يدفعها نحو حافة مجهولة لا تملك أي سيطرة عليها.
عندما وصلت إلى المستشفى، كان الأطباء بالفعل مستعدين، لكن نظراتهم لم تكن مطمئنة،همساتهم المنخفضة، الحركة السريعة من حولها، الأجهزة التي بدأت تصدر أصواتًا متوترة—كل شيء أخبرها أن الأمور ليست على ما يرام.
ثم جاء القرار الحاسم: العملية القيصرية الفورية.
وفي اللحظة التي انجرفت فيها نحو غياهب التخدير، كانت جين تدرك شيئًا واحدًا فقط—هذه الولادة لن تكون عادية، وستترك أثرها في حياتها إلى الأبد.
في غرفة العمليات كانت الأضواء البيضاء القاسية تلقي بظلال باهتة على وجه جين الشاحب.
أجهزة المراقبة تصدر أصواتًا متقطعة، كأنها تراقب سباقًا غير متكافئ بين الحياة والمجهول.
يد الأطباء تتحرك بسرعة، العرق يتصبب من جباههم تحت الأغطية المعقمة، ورائحة الكحول الطبي الحادّة تملأ الهواء.
"ضغط الدم ينخفض!" جاء صوت أحد الأطباء، مشدودًا، حازمًا.
"أعطوها جرعة أخرى من الإبينفرين!" صاحت طبيبة التخدير وهي تراقب الشاشة أمامها، حيث كانت المؤشرات الحيوية تتراقص في خطر.
في زاوية أخرى من الغرفة، كان بكاء طفل يصدح، لكنه لم يكن قادرًا على الوصول إلى جين، التي كانت تغرق في بحر من الظلام.
كانت عيناها نصف مفتوحتين، نظرتها ضائعة، وكأنها ترى العالم لكنه لا يراها.
بعد دقائق طويلة بدت كالأبدية، خرج الطبيب الجراح إلى الممر حيث كانت راما تنتظر، يداها مشدودتان في حجرها، وقلبها يدق بجنون.
"المولود بخير." قال الطبيب، لكن صوته لم يكن يحمل نبرة الاطمئنان التي كانت تتوق لسماعها.
"وجين؟" سألت راما بلهفة، ولم تحتج سوى لنظرة واحدة على وجه الطبيب لتفهم أن الإجابة لن تكون سهلة.
*****
رائحة المطهرات كانت تخترق الأنف، تمتزج مع البرودة الغريبة التي تسكن جدران المستشفى.
كانت جين ممددة على السرير، جسدها نحيل أكثر مما ينبغي، أنابيب متصلة بأنفها، مغذيات موصولة بمعصمها، والأجهزة تواصل إصدار نغماتها الرتيبة، كأنها تتحدث لغة لا يفهمها أحد.
الأطباء قالوا إن النزيف كان حادًا، وإن جسدها لم يتحمل الصدمة.
على السرير الأبيض، بدت جين أضعف مما اعتاد الجميع رؤيتها، لكن عينيها هذه المرة لم تكونا فارغتين، كان هناك ضوء، واهن لكنه موجود.
راما جلست بجوارها، تمسك بيدها بحذر، كأنها تخشى أن ينكسر هذا التحسن الهش إن تحركت بسرعة. "كيف تشعرين؟" سألتها بصوت ناعم.
جين لم ترد فورًا، أخذت نفسًا عميقًا، وكأنها تحاول تذكر كيف يفعل الناس ذلك، ثم، بابتسامة صغيرة، همست: "متعبة... لكنني بخير."
كان هذا كافيًا.
عندما أحضروا الطفل إليها، لم تستطع رفعه بذراعيها، لكن راما وضعته برفق على صدرها.
كانت أنفاسه دافئة، صغيرة، ويداه تتحركان ببطء فوق ثوبها. نظرت إليه، وكأنها تراه لأخر مره، ثم همست له بشيء لم يسمعه أحد غيره. ربما كان اعتذارًا، ربما كان وعدًا، وربما مجرد همسة حب.
بدر وقف عند الباب، لا يقترب، لكن عينيه لم تفارقا المشهد، كان معتادًا على رؤية الألم، لكنه لم يكن مستعدًا لهذا النوع من الهشاشة، لهذا النوع من القوة التي تتحدى الضعف بأبسط الحركات.
**خذيه راما همست،، جين بأرهاق، اعتنى به كأنه ابنك، ثم اشاحت بوجهها كأنها تهرب منه
رفعت راما حاجبها بغير فهم ثم مدت يدها وحملت الطفل ، كانت جين تجد انفاسها بصعوبه كأنها تختنق وقطرات دمع تترقرق فى عيونها، اقترب منها بدر ضغط على يدها، سيكون كل شيء بخير يا جين
انا اسفه همست جين بصوت ضعيف، لم اتمكن من اسعادك بالطريقه التى كنت تتوقعها، ثم اغمضت جين عينبها وهى تنتحب اتركوني بمفردى من فضلكم
في منتصف الليل
أول ما شعرت به جين كان بردًا مفاجئًا، غريبًا، كأن الدماء توقفت عن الجريان في عروقها
ثم جاء الألم، لم يكن حادًا، بل كان أشبه بشيء ثقيل يجثم على صدرها، يمنعها من التنفس.
عندما اندفعت الأجهزة تصدر إنذاراتها، كان بدر أول من وصل إلى الغرفة.
وجدها تتنفس بصعوبة، عيناها نصف مغمضتين، وشفتيها شاحبتين بطريقة مقلقة.
"جين؟!" ناداها، لكنه لم يحصل على رد.
الممرضات والأطباء تدفقوا إلى الغرفة، أحدهم صرخ: "انخفاض حاد في ضغط الدم!"
"نحتاج إلى ٥ ملغ من الإبينفرين، الآن!"
كانت الغرفة تعج بالأصوات، بصفير الأجهزة، بصوت العجلات المعدنية لعربة الطوارئ.
كان كل شيء سريعًا، فوضويًا، وراما تقف في الممر، طفل جين بين ذراعيها، تهمس دون أن تدري: "لا... ليس الآن..."
لكن جين، وسط كل هذا، كانت تغرق مرة أخرى في الصمت، في الظلام، في الغياب الذي لا يعرف أحد إن كان له عودة هذه المرة.
نزيف داخلي، فشل مؤقت في وظائف الكلى، وانخفاض شديد في ضغط الدم جعل دماغها يدخل في حالة طوارئ، يطفئ نفسه ليحافظ على طاقته.
"نعطيها 2 ملغ من الدوبامين، ونراقب الوظائف العصبية كل أربع ساعات." قال الطبيب بصوت منخفض وهو يسجل الملاحظات في ملفها الطبي.
كانت الجرعات تُضخ في جسدها، محاليل تغذيها، ومسكنات تهدئ أي ألم قد تشعر به رغم غيابها عن الوعي. لكن السؤال ظل معلقًا في هواء الغرفة العقيم: متى ستعود؟ وهل ستعود حقًا؟
في الخارج، كانت راما تحمل الطفل الصغير بين ذراعيها، تحاول تهدئته، لكنه كان يصرخ، كأن روحه الصغيرة تشعر بأن أمه ليست معه، كأن شيئًا ناقصًا في عالمه الجديد.
أما بدر، فكان يقف بعيدًا، عيناه معلقتان بالزجاج الفاصل، يراقب جين بصمت.
لأول مرة، كان يشعر أن الحياة يمكن أن تأخذ كل شيء في لحظة، دون تحذير، دون رحمة.
*********
بعد ساعات
كانت المستشفى أهدأ مما ينبغي،الأصوات المعتادة—صفير الأجهزة، خطوات الممرضات، همهمات الأطباء—بدت بعيدة، كأن الجدران ابتلعتها فجأة.
في الغرفة الباردة، لم يكن هناك سوى سكون ثقيل، سكون يحمل في طياته أكثر مما تستطيع الكلمات وصفه.
كانت جين مستلقية على سريرها، ملامحها هادئة بشكل مخيف، وكأنها نائمة، لكن صدرها لم يكن يعلو وينخفض كما كان. يداها، اللتان كانتا تداعبان طفلها قبل ساعات، أصبحتا ساكنتين، بلا دفء.
استاذ بدر الطبيب يحتاجك من فضلك!! نهض بدر من على مقعده فى الرواق دلف إلى الغرفه مسرعا
لم يحتاج شرح او توضيح جين ماتت
وقف بدر عند حافة السرير، عيناه تحدقان في وجهها كأنه ينتظر منها أن تستيقظ، أن تفتح عينيها، أن توبخه لأنه تأخر عليها أو لأنها لم تحب مذاق الطعام الذي أحضره لها،لكن جين لم تقل شيئًا.
مرت لحظات طويلة قبل أن يستوعب الحقيقة، قبل أن ينهار على ركبتيه بجانبها، رأسه منحني، أصابعه تمسك بيدها الباردة كأنه يحاول أن يعيد إليها بعض الحياة. لكنه لم يستطع.
لم يبكِ بصوت عالٍ، لم يصرخ. فقط جلس هناك، يضغط على يدها بصمت، عيناه فارغتان، كأن جزءًا منه رحل معها ولم يعد له وجود في هذه الغرفة.
راما كانت في الممر، تحمل الطفل الذي لم يدرك بعد ما خسره، عندما سمعت صوت الجهاز يطلق إنذاره الأخير، عندما رأت الممرضات يغطين جسد جين، عرفت.
شعرت بشيء ينكسر داخلها، شيء لن يُصلح أبدًا،تراجعت للخلف، احتضنت الطفل بقوة، وكأنها تستطيع أن تحميه من هذا العالم الذي أخذه من أمه قبل أن يعرف حتى من تكون.
لم تستطع الدخول إلى الغرفة فورًا،لم تستطع مواجهة بدر، مواجهة الصمت القاتل الذي حل بعد الرحيل. فقط وقفت هناك، تهمس للطفل بصوت مبحوح:
"أنا آسفة... آسفة جدًا."
كان المشفى لا يزال ينبض بالحياة حولهم، لكن بالنسبة لهم، كان العالم قد توقف عند تلك اللحظة، عند ذلك الوداع الذي لم يكن لديهم وقت للاستعداد له.
*******'
المشفى يعج بالحركة، لكن بالنسبة لبدر، بدا كل شيء ضبابيًا.
لم يستطع التركيز على كلمات الأطباء، ولا على الإجراءات الورقية، ولا حتى على الممرضات اللواتي تحدثن إليه بلطف شديد.
كل ما كان يسمعه هو صدى نبضات جين التي لم تعد، وكل ما كان يراه هو جسدها الملفوف في الملاءة البيضاء، استعدادًا لنقلها بعيدًا إلى الأبد.
راما تولت معظم الترتيبات، أدارت الأمور بصمت، عينها على بدر الذي كان بالكاد يستطيع الوقوف. لم يعترض عندما طُلب منه توقيع الأوراق، لم يسأل عن شيء، فقط وقف هناك، شاحبًا، عيناه مثبتتان على النعش حين أُحضر. وحين حان وقت المغادرة، تعثر في خطواته كأن قدميه لم تعودا قادرتين على حمله.
في الجنازة، لم يقل بدر كلمة واحدة، وقف صامتًا، ويداه متشابكتان أمامه، بينما الدموع التي رفضت أن تنزل في المستشفى بدأت تسيل الآن، بطيئة، صامتة، لكنها لا تنتهي. عندما وُضعت جين في القبر، انهارت قواه تمامًا، سقط على ركبتيه، أصابعه تغوص في التراب، وكأن يده وحدها لن تسمح لها بالرحيل، لم يحاول أحد إبعاده، لأنه كان واضحًا أن لا شيء سيعزيه.
راما، من ناحية أخرى، لم تنتظر أن يُطلب منها شيء،منذ اللحظة الأولى، احتضنت الطفل كأنه ابنها، أرضعته من زجاجته، هدّأته عندما بكى، وسهرت بجانبه ليلاً عندما رفض النوم. كان بين ذراعيها دائمًا، حتى بدأ يميز رائحتها وصوتها، حتى أصبح يستدير نحوها حين يسمعها تتحدث، وحتى بدأ يبتسم لها عندما تقترب.
لم تكن تفكر في الأمر كثيرًا، لم تكن تسأل نفسها لماذا تفعل ذلك، لكنها كانت تعلم شيئًا واحدًا: لن تدع هذا الطفل يكبر دون دفء، دون حب، دون شخص يمسك بيده كلما شعر بالخوف.
لم يكن قرارًا اتخذته في لحظة واحدة، بل كان شيئًا تسلل إلى قلبها تدريجيًا، حتى أصبح يقينًا لا يقبل الجدل.
راما لم تكن فقط تهتم بالطفل، بل كانت تحبه، تحبه كأنه جزء منها، كأنه ابنها بالفعل.
في الأيام الأولى، حاولت الموازنة بين عملها في الجامعه وبين رعاية الصغير، لكن سرعان ما أدركت أن ذلك مستحيل.
كان الطفل يحتاج إلى أكثر من مجرد ساعات متفرقة من الاهتمام، يحتاج إلى أم تحمله عندما يبكي، تغني له حتى ينام، تطمئنه عندما يستيقظ مفزوعًا في منتصف الليل.
وعندما فكرت في جين، في وعدها لها وهي على سرير المشفى، لم تتردد.
قدمت استقالتها دون تفكير طويل،بعض زميلاتها حاولن ثنيها عن القرار، وبعضهن سألنها إن كانت متأكدة، لكنها لم تكن بحاجة إلى التأكيد.
عادت إلى الشقة، إلى الطفل الذي بدأ يتعرف عليها أكثر فأكثر، وعندما حملته بين ذراعيها تلك الليلة، شعرت بشيء مختلف. لم يكن هذا مجرد طفل فقد أمه، ولم تكن هي مجرد امرأة تؤدي واجبًا.
لقد أصبح هو عالمها، وهي عالمه.
ومع مرور الأيام، بدأ بدر يلاحظ ذلك،بدأ يراها وهي تهدهده، تطعمه، تغير له ملابسه، تبتسم له كأنه ابنها، في البداية، لم يقل شيئًا، لكن في إحدى الليالي، وبينما كانت تحمله وتسير في أرجاء الشقة حتى يهدأ، نظر إليها وقال بصوت خافت:
"لقد وفيتِ بوعدك."
وصية جين: القرار الأخير
كانت الليلة هادئة، لكن عقل بدر لم يكن كذلك، منذ وفاة جين، أصبح الليل زمنًا للأفكار، للذكريات التي لا تهدأ. وفي لحظة من الحنين، وجد نفسه يقف أمام خزانة ملابسها، يتلمس الأقمشة كما لو كان يبحث عن بقايا دفئها.
عندما سحب أحد الأدراج، وجد مظروفًا أبيض، نظيف الحواف، كُتب عليه بخط يدها المرتب: "إلى بدر.. عندما يحين الوقت."
جلس على السرير، يداه ترتجفان وهو يفتح المظروف، وقلبه يخفق وكأنه يخشى ما سيجده.
**"حبيبي بدر،
إذا كنت تقرأ هذه الرسالة الآن، فهذا يعني أنني لم أعد هنا، أعلم أنك ستكرهني لأنني لم أخبرك بالحقيقة، لكنني فعلت ذلك لأنني كنت أعرفك، كنت أعرف أنك لن تسمح لي بالاحتفاظ بهذا الطفل لو علمت بالمخاطر.
كنت ستجبرني على الاختيار، وأنا لم أكن أحتاج إلى الاختيار، لأنني كنت أعرف دائمًا أنني أريده، حتى لو كان الثمن حياتي.
لكنني لا أكتب لك لأبرر قراري، بل لأطلب منك طلبًا أخيرًا.. لطفلنا.
بدر، أنا لا أريد أن يكبر ابننا يتيمًا بلا أم، ولا أريدك أن تغرق في الوحدة والألم من بعدي.
أعلم أن الحزن سيأخذك، وأنك سترفض فكرة المضي قدمًا، لكنني أرجوك، لا تدع ذلك يمنعك من منح طفلنا عائلة.
راما... نعم، راما.
أعرف أن طلبي غريب، لكنني رأيت الطريقة التي تهتم بها بطفلها ، رأيت الحنان في عينيها. إنها قوية، حنونة، وستكون أمًا رائعة له.
لهذا، أطلب منك أن تتزوجها. لا تفعل ذلك بدافع الواجب، ولا بدافع الوصية. لكن إن وجدت في قلبك مكانًا لها، وإن شعرت أن طفلنا يستحق أمًا تحبه بصدق، لا تتردد.
أنا أثق بكما.. وأثق أنك ستفعل ما هو صواب.
إلى أن نلتقي من جديد، سأظل أحبك.. دائمًا.
جين."**
أعاد بدر الورقة إلى المظروف، وهو يشعر بأن قلبه يضيق وكأنه لم يعد يتسع لأي شيء، لقد عاش كل لحظة مع جين وكأنها ستدوم للأبد، لكنه الآن يدرك أنها كانت تعرف.. كانت تعرف أن الوقت كان ينفد.
جلس في الظلام طويلًا، يفكر في كل شيء، وفي راما، التي لم تتخلَ عن الطفل لحظة.
لم يكن يعرف ما سيفعل، لكنه كان يعرف شيئًا واحدًا—وصية جين لم تكن مجرد كلمات، بل كانت وعدًا لم يقطعه بعد.
انتهت
- يتبع الفصل كاملا اضغط هنا ملحوظة اكتب في جوجل "رواية راما دليل الروايات" لكي يظهر لك الفصل كاملا
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية راما) اسم الرواية