Ads by Google X

رواية رحماء بينهم الفصل التاسع و الاربعون 49 - بقلم علياء شعبان

الصفحة الرئيسية

  رواية رحماء بينهم الفصل التاسع و الاربعون 49 - بقلم علياء شعبان 

الفصل التاسع والأربعون]]
رواية 
•~•~•~•~•~•~•
اندفع نحوها بمشاعرٍ تتلظى سعيرًا وهو يدير عجلة كرسيه المُتحرك في تبعثر واضطراب، كانت منغمسةً في قراءة الجريدة تأخذ قسطًا من الصفاء الذهني بعد أُمسية سيئة أثارت قلقها وخوفها على "سكون" التي اختفت من الوسط فجأة ولكنها سكنت بعد ذلك حينما علمت ببقائها في بيت عمها لاستعادة طاقتها، ربما "نبيلة" ناقمة على ترابط وقوة العلاقة بين أولادها وعمهم ولكن هذه العلاقة في النهاية لا تضرها بشيءٍ.. فقط تُثير حنق زوجها وتأجج غضبه. 
لا تعلم حتى الآن بأن الحقيقة انكشفت والأمور ستنقلب رأسًا فوق عقبٍ، اندفع نحوها وصاح مُحتدًا بالغضب:
-أنا مش طلبت منك عربية يا أمي توديني لسكون؟؟ مش فاهم ليه كبرتي دماغك؟؟
طوت الجريدة بسرعةٍ ووضعتها على الطاولة القابعة أمامها قبل أن تلتفت إليه باهتمام بالغٍ وتقول بصوت مخنوقٍ:
-يا عُمر أنا مش عايزة خلاف بينك وبين بابا تاني.. ليه بتحاول تستفزه يا عُمر؟؟ دا والدك في النهاية حتى لو فيه عيوب الدنيا كلها!!
صاح بانفعالٍ جامحٍ في وجهها:
-بستفزه بأيه؟؟ أنا مش بطلب غير إني أشوف أختي واطمن عليها.. أختي اللي هو دمرها وقضى على نفسيتها لدرجة إنها مش قادرة ترجع القصر وفقدت راحتها وأمانها في بيتها.. إنتوا فاكرينها عُمر اللي هيتهان ويستحمل؟؟ 
بدأت "نبيلة" تدعك جبهتها بأطراف أناملها في ضيقٍ واختناقٍ بينما لم يسأم هو من صراخه الهادر قائلًا باحتجاج:
-سكون كتومة وعندها قُدرة تحمُل مش في رجالة كتير.. فقدتها خلاص.. إنتِ مُتخيلة إن سكون مبقيتش قادرة تتحمل؟؟ سكون اللي من يوم ما وعيت وهي شايلة معاه ومشتكتش؟؟
أفضى ما في داخله بحالة من النقم قبل أن يصمت لثواني ثم يقول بحزمٍ:
-نهاية كلامي.. هتطلبي عربية توصلني لبيت عمي ولا لأ؟؟
نبيلة بحسمٍ وثبات:
-لأ يا عُمر حقنًا للدماء بقول لك لأ، وعلشان خاطري افهم بقى!!!
حدجها بنظرات نارية قبل أن يستدير بكرسيه وهو يتمتم بسخطٍ:
-تمام.. أنا عايزها دم.
انصرف غاضبًا صوب غرفته يعزم النية على إيجاد طريقة توصله إلى شقيقته، أسرع صوب الطاولة ثم التقط هاتفه باحثًا عن اسمه وبعد ثوان من الاتصال به سمع صوته يقول بفتورٍ:
-عُمر!!
أجابه الأخير بنبرة مخنوقةٍ:
-كاسب، محتاج مساعدتك!!
•~•~•~•~•~•~•~•
-نفسك في خاتم شكله أيه؟؟
سألها "نوح" بنبرة مهتمة للإجابة أثناء جلوسه بجانبها على الحجر فزوت "مُهرة" ما بين عينيها في استغرابٍ من تنقله بين الأحاديث ببساطة شديدة فقد كانا يتكلمان قبل قليل عن وصوله إلى مُسرب التسجيل ومن الفتاة التي جاءته في العيادة؟؟ والآن ينتقل إلى حديث آخر ويسألها دون مُناسبة عن شكلٍ الخاتمٍ الذي تود ارتدائه؟؟ تنهدت بقوة قبل أن تمط شفتيها وترفع ذراعها وتُنزلهما في استسلام:
-مش فاهمة سؤالك؟؟ خاتم بخصوص أيه بالظبط؟
أومأ "نوح" قبل أن يُكرر سؤاله بوضوحٍ أكبر:
-لو قررت أتقدم لك وحددت ميعاد مع خالك، تحبي هديتي ليكِ في الخطوبة يكون خاتم شكله أيه؟؟
سكت هنيهة ثم أضاف بابتسامة ماكرة:
-كدا السؤال أحلى!
شعرت بالغبطة والسرور فور اعترافه الصريح بنيته حول اقتراب موعد خطبته لها، خفق قلبها بقوة واضطراب أنفاسها وظهر ذلك جليًا في نبرة صوتها التي تضطرب وتيرتها من فرط السعادة:
-فغاشة.
ظهرت ابتسامة عريضة على شفتيه وهو يتأملها بعينين هائمتين قبل أن يردد:
-فغاشة.. اشمعنى الفراشة يعني؟؟؟
شبكت كفيها معًا ثم عَبرت بسعادةٍ حقيقيةٍ:
-علشان وجود خاتم منك في إيدي هيحولني زيها، هكون طايغة.
رفع سبابته وراح يحركها باتجاه عينيه وهو يقول بحُبٍ سطع في كلماته:
-عيني يا عيني.
تهللت أسارير وجهه من تمسكها به؛ فالثقة التي تمنحه إياها دون أن تدري جعلته يتمهل كي يكون جديرًا بها واثقًا أنه مهما عصفت بهما الظروف ستبقى مُرابطةً بين ثنايا قلبه، قاد مسيره إليها بمشاعرٍ سوية، لم يستغل ضمان مشاعرها المُتدفقة له ولم تكُف هي للحظة عن تشبثها به وإصرارها على لقاءٍ مُثمرٍ بينهما.
تذكر هذه اللحظة بينهما حينما أخرج العلبة من جيب سترته ثم فتحها وبقى يتأمله بسعادة كبيرة مُتخيلًا ملامحها الرقيقة التي تسر بمجرد رؤية الخاتم، سُحب من شروده حينما وجد الشيخ "سليمان" يستجيب لِمَا اتفقا عليه سوية وبعلم البقية عدا الخال وابن الخالة، تنحنح "سليمان" قبل أن يقول بلهجة ثابتة:
-إحنا النهاردة يا توفيق مش جايين نقرأ فاتحة وبس.
قطب "توفيق" ما بين عينيه مُلتفتًا إلى "إبراهيم" الذي كتم غيظه في صدره حتى لا يظهر عليه رغبته في إفساد هذه الأجواء خاصةً أن خاله قد وعده بعودتهم خائبي الرجا ووعده بأن الفتاة سوف تكون له، لم يكونا يعلمان بأن ما رُتب له من وراءهما سيثبط سعيهما ويبيت هباءً منثورًا، استطاع "سليمان" مناقشة الأخير بالود وأمام إصرار "توفيق" على شروط الزيجة التعجيزية قرر الشيخ أن يوافق عليها بعد أن قبل "نوح" عرض مساعدته، لم يجد "توفيق" مفرًا من إتمام قراءة الفاتحة والموافقة المبدئية على أملٍ تدبير خطة تُنهي هذا العبث ولكنه تفاجأ في دهشةٍ من تصريح الشيخ؛ فردد متوجسًا:
-هو في حاجة بتتم تاني في أول لقاء غير قراية الفاتحة؟؟؟
تنهد "سليمان" تنهيدة ممدودة بعُمقٍ وهو يسحب حقيبته من جانبه ثم يضعها أمامه ويبدأ في فتح سحابها ثم قال بهدوءٍ:
-إحنا جايين النهاردة بغرض كتب كتابهم.
جحظت أعين الرجلين في صدمةٍ كاسحةٍ، ابتلع "إبراهيم" ريقه على مضضٍ وصاح بغيظٍ:
-أيه الكلام الفارغ دا؟؟ 
لم يتحمل "تليد" أكثر من ذلك وخرج عن صمته وهو يصيح بلهجة حادة:
-احترم نفسك وطول ما الكبار بيتكلموا.. العيال تسكت.
ضغط "سليمان" على ذراع ابنه برفقٍ فتراجع تقديرًا لرغبة والده الذي تابع بثباتٍ:
-تحجيمًا للمشاكل ومنح نوح حق زيارة حبيبته في أي وقت؛ فدا الخيار الأنسب.. نوح ومُهرة ميعرفوش بعض إمبارح.. وأنا ربيت راجل قادر يحميها ويصونها وإن شاء الله مش هتفوت السنة غير وهي في بيته.
سكت هنيهة ثم نظر صوب "إبراهيم" وقال بثبات أكبر:
-ومن اللحظة دي مش هيكون في داعي لزيارات إبراهيم المتكررة بدون سبب لبيت خالته.
توفيق بلهجة غاضبة:
-وهو كتب الكتاب بالسهولة دي؟؟ مفيش إجراءات وأوراق وعقد زواج؟؟؟
اِفتر ثغر "سليمان" عن ابتسامة بسيطة، كتم "نوح" ضحكة ترددت في صدره ورغب بشدة في تحريرها ولكنه تمهل ألا يُزعج الشيخ خاصةً عند رؤية الشرر الذي يتطاير من عيني إبراهيم، دس الشيخ يده داخل حقيبته ثم أخرج منها عقد زواج وضع عليه صورتهما وأخرج بعد ذلك المحبرة الخاصة ببصمة الإصبع والقلم، نظر "توفيق" إلى العقد مصدومًا وأدرك فورًا أن خطته ردت إليه مرة أخرى وأن خائب الرجا لم يكُن سواه.
لقد أدركت "رابعة" ما ينوي عليه شقيقها فهي أكثر من يعرفه، لم ترد كسر فرحة ابنتها الوحيدة التي انتظرت هذا اليوم طويلًا وبعد ساعات من إقناع "نوح" لها بالفكرة انصاعت رغبةً في منحهما السعادة والتأنس برفقة بعض، كذلك عمل "تليد" على إقناع والده وأخبره بنية هذا الرجل المبيتة للوقوف أمام هذا الزواج ودفعها رغمًا عنها إلى الزواج بابن خالتها، وافق الشيخ في النهاية ليبدؤوا جميعًا في جمع كافة متطلبات عقد القران في وقت قصير للغاية.
رفع "سليمان" بصره إليه وقال بابتسامة ودودة:
-كُل حاجة جاهزة يا توفيق.. اكسب ثواب بجمع اتنين بيحبوا بعض في حلال ربنا.. العِند رفيق الشيطان.. محدش بياخد غير نصيبه من الدنيا مهما جاهد وشقى وتعب.. مش هتاخد أكتر من اللي ربنا قاسمه لك.. الكلام دا يشمل الرزق والزواج كمان.
استبد الغيظ من وجه إبراهيم الذي نظر بقوة إلى خاله يحذره من الاستجابة لطلبهم، تملك التوتر جسد "نوح" الذي بدأ ينفخ أوداجه بغضبٍ مكتومٍ من تصرف ذلك الأحمق الذي ينبش عن الخراب بغاية عدوانية، امتقع وجه "توفيق" ببعض الضيق ولكنه في النهاية ردد على مضضٍ حينما أدرك أنه قد حُسر أمام الأمر الواقع ولا مفر من هذه الحقيقة:
-هي حُرة في اختيارها وأنا مش مسؤول عنها في أي مشاكل هتحصل بينهم أو متلاقيش راحتها بعد كدا!!
أسرع "نوح" بالاقتراب من "توفيق" وهو يرمق الأخير بنظرات ظافرة مُنتصرة قبل أن يلتفت إلى الخال ويقول بثقةٍ وهو يلتقط راحة "توفيق" بين راحته:
-لا عاش ولا كان اللي يقلق راحة مراتي.. حتى لو كُنت أنا.
افتر ثغر "تليد" عن ابتسامة مكبوتة جاهد ألا يُظهرها بينما ظل "نوح" مُتشبثًا براحة الأخير إلى أن قام الشيخ بوضع منديل عليهما وبدأ مراسم عقد القران وتلقينهما ما يتوجب عليهما قوله تعهدًا من الزوج بصون الأمانة وقبول الولي به حلالًا لها.
تنفست "رابعة" الصعداء أثناء استرقاقها السمع من وراء الباب وما أن بدأت المراسم حتى هرولت إلى غرفة ابنتها وقد تهللت أسارير وجهها، فتحت الباب بملامحٍ منشرحة فرمقتها "مُهرة" بنظرات مرتبكة وكذلك الفتيات، لُجمت "مُهرة" عن الكلام فتابعت "وَميض" بدلًا منها:
-الخطة نجحت؟!!!
رابعة بسعادةٍ غامرةٍ:
-بيكتبوا الكتاب برا!
صرخت "مُهرة" بفرحة مفرطةٍ ثم هرولت ترتمي بين ذراعي والدتها لتحتضنها الأخيرة بسعادة لم تذق مثيلها من قبل، أسرعت "وَميض" في تلك اللحظة بالذهاب إلى "سكون" واحتضانها بتلقائيةٍ تضامنًا مع فرحة صديقتها، فبادلتها "سكون" الفرحة رغم عدم اكتمالها إلا أنها تشبثت بها بقوة، لحظات وجاء الطرق على باب الغرفة فتنحنحت "رابعة" بتوترٍ وهي تفتحه ليظهر أمامها وجه أخيها المغتاظ يقول وهو يناولها الدفتر:
-خلي بنتك تمضي وخليكِ عارفة إن ابن خالتها كان أولى بلحمه.
رابعة وهي تبتسم في ثباتٍ:
-دا نصيب يا توفيق.. البنت خلاص اتكتب كتابها والكلام دا مالوش لازمة.
حدق فيها بنظرات ساخطة قبل أن يردد بلهجة شديدة:
-ماشي يا رابعة.. بس اوعي في يوم ألاقيكِ جاية تترجيني أجيب لها حقها لما ييجي عليها.
ترقرقت عيناها بالدموع حينما لمس منطقة محظورة بالنسبة لها؛ غياب والد ابنتها ودعامتها في صغرها، تخشى على قلب ابنتها أن يمسه سوء فتتلقى ضِعفه حسرةً عليها ولذلك كان خيارها الأصوب من بين الجميع هو نوح.. ثقتها به تعدت كُل الحدود.
جاء بالصُدفة لرؤية عروسه والتأكد من عدم تعرض "توفيق" لهما بالأحاديث الفاسدة ولكن توقعه كان في محله، وصلت عبارته إلى مسمع "نوح" الذي لاحظ لمعة الدموع في عيني "رابعة" فجاء يتمشى بتريثٍ ثم قال بلهجة صارمة:
-قبل أول دمعة تنزل من عينيها ندمًا على جوازها مني.. هكون رميت رجولتي في سلة الزبالة.
التفت "توفيق" إليه ورغم ذلك لم يُظهر توتره من سماع الأخير لحديثه، فاستدار وهمَّ مُغادرًا دون أن ينبس ببنت شفةٍ فتطلع إليه "نوح" وردد بابتسامة حانقة لا تعبر سوى عن ضيقه من حديث بعث في نفس الأخيرة الحُزن والخوف:
-متقلقش يا خالي.. اتطمن إنتَ بس وروق.
شزره "توفيق" بنظرة حاقدةٍ قبل أن يتجاوزه منصرفًا، تطلع "نوح" إلى عيني "رابعة" التي كساهما الحُزن ووقفت مُتسمرة في مكانها، اقترب منها ثم بدأ يتناول الدفتر من بين راحتها وهو يقول بدعمٍ حقيقي لها:
-دموعك بالدنيا يا ست الكُل.. وثقتك فيا على بنتك دين في رقبتي ليوم الدين هعيش عمري كله أسدد فيه.. وسدادي لدينك هو صونها.. بالله لأحطها في عيني وفوق راسي.
سقطت عبراتها تأثرًا بكلامه فأسرع بالتقاط راحتها ثم قبل ظاهر كفها بتقديرٍ لا يوفيها حقها بينما تابعت "رابعة" من بين بكائها وهي تسحب يدها برفقٍ وتربت على كتفه:
-أستغفر الله يا بني.. أنا بس عايزة أقول لك إن من يوم يُتمها وغياب أبوها عنها.. أنا عُمري ما شوفت أصرار في عينها أو تعلق بحد غير أبوها إلا معاك يا نوح.. بيتي الوحيدة أمانة في رقبتك.. في وجودي أو غيابي، هسألك عنها قدام ربنا،  متشمتش فيا حد ولا توجع قلبي عليها، إنتَ النهاردة بس قلعت قلبي مني وخدته وأنا راضية عنكم إنتوا الاتنين؛ فربنا يرضى عنكم ويراضيكم.
ابتسم بهدوءٍ قبل أن تلتفت صوبه الغرفة وتنادي بصوتٍ خفيضٍ:
-مُهرة.. تعالي.
انفتح الباب وأطلت من وراءه ترتدي فستانًا باللون الوردي الغامض وجزمةً سوداء ذا كعب عال وكانت لفة حِجابها الأبيض رقيقة للغاية، تسمر في مكانه ينظر إليها ذائبًا منكبًا كالأخرق على وجهه ليصيح وهو يضع كفه على منطقة قلبه:
-أخ يا قلبي.
تخضبت وِجنتاها وخرجت منها ضحكة ناعمة متجنبةً النظر صوب عينيه الغارقتين في تفاصيلها، ناولتها "رابعة" الدفتر والقلم لتخط توقيع مِلكيته الأبدية لقلبها ولها وما أن انتهت حتى أطلقت "رابعة" زغرودة مجلجلة، أسرع "نوح" بالتقاط كفها ثم سحبها خلفه إلى غرفة الضيافة وذهبت الفتيات خلفهما، التقط الشيخ الدفتر ثم طلب توقيع الولي والشهود؛ ليلتفت "نوح" إلى "إبراهيم" ويقول بلهجة ثابتة:
-امضِ كشاهد يا إبراهيم.. مش إنتَ ابن خالتها بردو؟؟؟
لم يجد حلًا سوى الانصياع بعدما وافق كبيره على هذا الهراء، أسرع بخط توقيعه بعصبيةٍ شديدةٍ ثم ترك القلم بسخطٍ وكذلك فعل تليد الذي ظل مبتسمًا بمكرٍ طيلة الجلسة، التفت الشيخ إلى العروسين وطلب منهما بصمة الإصبع، ففعل نوح أولًا ثم فعلت، ليبتسم الشيخ "سُليمان" قائلًا بصوتٍ عذبٍ مُجلجل:
-بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير.
ارتفعت التصفيقات في سعادةٍ وأسرع "نوح" بالتقاط الخاتم من علبته ثم مسك يدها أمام الجميع وتابع وهو يضعه حول إصبعها ويقول كلمات عذبة خطرت إلى عقله تأثرًا بهيبة الموقف الذي حلم به لسنين وأشهر وأيام وظن أنه مُحال:
-إلى امرأتي.. إلى امرأةٍ نوحٍ.. لقد كان الحصول عليكِ "مُعجزةً" وكان رفق الله بقلبي أكبر.
كانت سعادة الجميع بهما لا توصف فمال "نوح" إلى كفٍ الشيخ يقبله ليرفعه "سليمان" إليه ثم يحتضنه في سرورٍ، توجه كذلك إلى صديق عمله وتبادلا عناقًا قويًا لم يفهمه سوى "تليد" الذي يدرك كيف عانى صديقه للوصول إليها وكيف حاول أن يكون جديرًا ولائقًا بها.
في هذه اللحظة نظرت "مُهرة" صوب خاله وانتظرت تهنئتها وعناقها من قِبل ولكنه رمقها بنظرات جامدة قبل أن ينهض من مكانه وخلفه إبراهيم مغادرين، ضوى بريق منكسر في عينيها بينما تابع "نوح" بلهجة ثابتة يتحدث فيها إلى إبراهيم:
-ابراهيم؟؟؟
استدار الأخير بوجهه إليه؛ فأكمل "نوح" دون مواربة أو تجميل لكلامه:
-مش مسموح تيجي هنا تاني وتقعد مع مراتي زيّ الأول لأنها بقيت على ذمة راجل ايده تقيلة حبتين، أنا مش بمنعك من خالتك لا سمح الله، ولكن بعد جوازي أنا ومُهرة وبمجرد ما تكون في بيتي وقتها الحظر هيتفك عنك وتقدر تيجي تشوف خالتك وقتما تشاء قبل كدا لأ.
انتظر "إبراهيم" حتى أنهى الأخير كلامه ثم انصرف وراء خاله في غضبٍ جامحٍ، بدأ الشيخ في جمع أشيائه قبل أن يهم واقفًا استعدادًا للذهاب في هذه اللحظة التفت إلى "مُهرة" ثم ردد بنبرة دافئة:
-صِرتِ في كنف رجل بكل معنى الكلمة، أدامه الله لكِ جدارًا لا يميل مهما عصف به روتين الأيام وانبهار البدايات.
ابتسمت في رقةٍ فمسح الشيخ على رأسها تعبيرًا عن فرحته باتحادهما ثم التفت إلى ابنه وقال بتأنٍ:
-أنا هسبقكم على المزرعة.
تليد وهو يمسك بذراع أبيه ثم يتابع بلهجة حاسمةٍ:
-إحنا كلنا رايحين معاك يا حبيبي.. العرسان عايزين يعملوا سيشن بين الخُضرة.
رفع "سليمان" سبابته ثم وجهه صوبهم جميعًا وقال بلهجةٍ مُحذرةٍ:
-اياكم وترويع الغنم والماشية!.
أومأ الجميع في انصياعٍ، تأبط الشيخ ذراع ابنه وسار الجميع خلفهم إلى المزرعة حيث قرر "نوح" توثيق هذه اللحظات الأسطورية معها ولكن على طريقتهما الخاصة فطلب من صديقه أن يتجهز لجلسة تصوير ماهرة؛ فتليد يجيد التصوير الفوتوغرافي ويتفنن به ولكنها موهبة لم يعلن عنها أمام أحدٍ.
قرر الشيخ سليمان الجلوس في مجلسه للاستراحة بينما توجه "تليد" صوب شقته لإحضار الكاميرا والقطعة الحديدية التي تثبت بالأرض قبل تثبيت الكاميرا بها، رغبت "سكون" في البقاء برفقة عمها قبل أن يتسرب حُزنها إلى سعادتهم فيلطخها، سارت معه وكان المجلس ببوابة كبيرة تطل على ساحة المزرعة فكان بإمكانها رؤية جلسة التصوير
-العقبى لكِ يا حبيبة عمك.
نظرت إليه بودٍ صادقٍ قبل أن تجلس بجانبه ثم تلتقط كفه وتُقبله بلُطفٍ يشبه الذي يستخدمه معها، لمع ضوء بارق في عينيها فأشاحت نحو الباب كيلا يشعر برغبتها القوية في البكاء ولكن تفاجأت برؤية  "عُمر" يدخل من بوابة المزرعة فتهللت أسارير وجهها ولكن سرعان ما زال حماسها وهي تجد "كاسب" يأتي من وراءه ثم يدفع بالكرسي أمامه.
ابتلعت غِصَّة عالقة في حلقها لا منها استطاعت لفظها ولا هضمها، تنهدت بقوة قبل أن تدعك جبهتها وهي تقول بنفاد صبرٍ:
-عمي، أنا مش عايزة أشوف كاسب قدامي، لو سمحت اطلب منه يمشي!!
التفت "سليمان" بعينيه حيث تنظر فوجد الشابين يتجهان صوبهما، ربت على راحتها برفقٍ وقال يحثها على التريث:
-بالعقل يا سكن!
تدبرت ابتسامة واهية حينما سمعت صياح أخيها ينادي باسمها فنهضت على الفور ثم توجهت باندفاع صوبه إلى أن استقر برأسه بين ذراعيها فقامت بتقبيل رأسه وهي تقول بصوت مخنوقٍ:
-وحشتني أوي يا عُمر.. دا مكنش يوم بعيد عنك دا سنة.
كانت تتعمد تجاهله وتجنب النظر إليه، زفر "كاسب" بقوة ووجه إليها بنظرات ثاقبة قبل أن يقول بثبات:
-سكون، أنا كمان موجود على فكرة؟؟؟
رفعت أحد حاجبيها وهي تتوجه إليه بنظرات حادة تروح وتأتي بينه وبين شقيقه لتحذيره من إبداء أية مشاعر لها أمام أخيها ولكنها لا تعلم أن "كاسب" أفصح عن كُل ما ينفجر داخله ويكاد يفنيه، أخبر عُمر بكُل شيءٍ حتى حقيقة انتماءها لامرأة أُخرى غير التي ربتها وسر "وَميض".. أراد أن يحكي قبل أن ينفجر وترجاه أن يجعلها تترفق بقلبه وتلين.
-عُمر عِرف كُل حاجة يا سكون.
أغمضت عينيها بقوة قبل أن تلتفت إلى شقيقها وتقول بابتسامة زائفة:
-عُمر، روح سلم على عمك وأنا جاية وراك.
تنقل "عُمر" بنظراته بينهما قبل أن يتابع بهدوءٍ:
-سكون حاولي تفهمي كاسب.. أنا واثق من كُل حرف قاله.. خليكِ إنتِ كمان واثقة من دا.
أومأ ومازالت ترسم بسمة خفيفة على مُحياها حتى ذهب، التفتت إليه ثم تحولت ملامحها إلى أخرى ناقمة وقالت:
-كاسب.. أنا مش عايزاك في حياتي تاني.. أنا أصلًا مستقبلتش أي وعود منك ولا قدمت لك وعود.. انساني!!
ضحك ملء شدقيه، ضحكة تنم عن تهكمه ببساطة ما تقول، تجمعت الدموع في عينيه وبكبرياءٍ لفظها داخله مرة أخرى قبل أن يتابع متهكمًا:
-لحظة واحدة كدا.
تنفس الهواء داخله بعُمقٍ قبل أن يغلق عينيه ثم يكرر في سخريةٍ مما يفعل ومما قالت كي تدفعه لهذا:
-انساها.. انساها.. انساها.... 
ظل يرددها مرارًا إلى أن تجهمت ملامحه وفتح عينيه واحتدت نظراته إليها وهو يقول بصوت رخيمٍ تسلل إليه شوائب من الضعف:
-أيه دا في أيه؟؟ دا أنا مانسيتش؟؟ إنتِ مُتخيلة أنا قولتها كام مرة؟؟ تفتكري الحل إني أشرب كوباية ماية بعد ما أرددها خمسين مرة!!
التوى شدقها وصاحت بغيظٍ:
-إنتَ بتقول أيه؟؟
كاسب وهو يقبض على رأسها بقوة ثم يصيح مُختنقًا:
-بقول إني تعبت منك.. تعبت من عنادك.. تعبت من كبرياء الحُب اللي بتفرضيه عليا.. عملت فيكِ أيه؟؟ أنا بحبك ومش عايز منك غير نفس المشاعر!!
حدقت فيه بقوة ثم أردفت بتحدٍ وغلظة:
-بالعافية.. عايز مني مشاعر بالعافية؟؟؟
ضغط أنيابه بقوة قبل أن يمعن النظر في عينيها ثم يقول بأنفة وعزة نفس:
-أنا مستحيل أقبل مشاعر من واحدة مش عايزاني، بس قبل يومين كان في بينا مشاعر وكان في منك اهتمام وكُنت الدنيا بالنسبة لك ولا كُنت بهلوس!!
لمست حزمه وتحوله السريع لطالما المسألة تخص كبريائه، ثار قلبها يبغض تصرفها معه ولكنها تماسكت بصلابةٍ بينما صاح فيها بلهجة أرعبتها:
-كُنت بهلوس؟؟ رُدي؟؟.. لو قولتي أه.. مش هتشوفي وشي تاني يا سكون.. كانت هلوسة؟؟
كانت نبرته تعطي مؤشرًا مريبًا وكانت المرة التي تخشى فراق أحد خارج دائرة أشقائها، وقتئذٍ اعترفت "سكون" داخل نفسها بتميزه عن رجال العالم وكونه الرجل الوحيد الذي غرس بذرة عشقه داخل أرض قلبها عنوة، كانت تنظر داخل عينيه بجفاءٍ ما لبث أن زال من حدة صوته وظلت مُحدقةً في صمتٍ؛ فهزها بقوة وكرر حانقًا:
-هلوسة؟؟
احتجت على ضغطة كفه على رسغها فبدأت تنتشل ذراعها في محاولة يائسة وهي تقول بصوت متهدجٍ:
-مش هقول حاجة.. معنديش رد على كلامك.. ممكن تسيب ايدي؟!
بدأت تتراجع للخلف وهي تحرك ذراعها ساخطةً من تشبثه به، ظلت هكذا للحظات تحدق فيه مُتحديةً قلبها قبل أن تتحداه، انتظرت افلاتها ولكن تفاجأت به يجذبها بحسمٍ إلى ذراعيه؛ لم تشعر بنفسها إلا وهي تستقر بينهما بينما يلف هو ذراعيه حولها ويضغطها بقوة اشعرتها برغبته في حبسها كأسيرةٍ داخله كي تهدأ نفسه ويعود إليه صوابه بعودتها إليه، ذاب مأسورًا من قربها وغاب عن باله اشتداد قبضتيه على جسدها فتأوهت بألمٍ حقيقي حينما أوشكت ذراعيه على تدمير عظامها التي أصدرت طقطقة عالية، رفعت كفيها ووضعتهما على كتفيه تدفعه بعيدًا عنها بينما لا يستجيب لها على الإطلاق فكادت تجزم بأنه ربما غاب عن الوعي أو فقد عقله ولا ثالث لهما!!
-كاسب.. إنتَ بتوجعني؟؟.. سيبني بقى إنتَ اتجننت؟؟؟
كانت رأسها مُستقرةً على كتفه فأبعدتها قليلًا والتفتت تنظر إليه مرددةً بغضب كبيرٍ:
-كاسب بقول لك وجعتني وبعدين اللي إنتَ بتعمله دا مينفعش؟؟.. ابـ
صمتت عن الكلام فورًا وهي تنظر إلى وجهه بعينين متسعتين حينما أبصرت انسكاب دموعه بغزارة وكأن زلزال أصاب قلبها حتى جعله أنقاضًا، لم تتخيل للحظة أن ترى القهرَ الحقيقي الذي قيل عن الرجل قائمًا أمام عينيها، ظلت ترمقهُ بقهرٍ أدمى قلبها وتساءلت أمام عينيه مِرارًا هل تغفر له اكرامًا لدموعه أم تبقى على رغبتها في الافتراق عنه؟؟ لم تعي على حالها إلا والدموع تنهمر من عينيها، أرخى ذراعيه عن جسدها وأشاح بوجهه بعيدًا عن ناظريها يرفض قطعًا أن يُصبح ضعيفًا تزدريه رياح جفاءها.
قرر ألا ينتظر أكثر من ذلك، ودون رؤية وجهها للمرة الأخيرة اندفع مُسرعًا صوب بوابة المزرعة مُغادرًا قبل أن يستجديها بضعفٍ مستغنيًا عن كبريائه الذي حافظ عليه باستمات ولا يجرؤ على المساس به.
انفجرت باكيةً تتابع اختفائه خلف البوابة، فأسرعت بوضع يدها على قلبها الذي كاد من فرط الخفقان أن يتوقف، أراد قلبها بقائه بينما نبذ عقلها وجوده وباتت في صراعٍ مروعٍ بين الاتنين.
أضناها دموعه وصرخت ببكاء مريرٍ تبغض نفسها:
-مكنش لازم يوصل للمرحلة دي بسببي.. أنا آسفة والله يا كاسب.. آسفة على دموعك.
لاحظت "وَميض" اندفاع "كاسب" منزعجًا صوب البوابة فالتفتت تبحث بعينيها عن "سكون"، أبصرتها تبكي من بعيد فاستبد القلق بها وهرولت ركضًا إليها بينما كان "تليد" مُنشغلًا بالتصوير.
-سكون!!
اقتربت "وَميض" صوبها فوجدتها تبكي بكاءً شديدًا وما أن انتبهت "سكون" لاقترابها، ألقت بنفسها بين ذراعي الأخيرة التي تساءلت بريبة وقلق:
-في حاجة حصلت تاني؟؟ 
أومأت سلبًا وظلت تشهق شهقات قوية بينما تمسح "وَميض" على شعرها بشفقةٍ وقررت ألا توجه الأسئلة إليها حتى تهدأ، فغمغمت بنبرة خافتة:
-اهدي.. لو العياط هيريحك.. عيطي وخرجي أي طاقة سلبية جواكِ.
تركتها "وَميض" تلفظ أوجاعها خارجها على هيئة بكاء ولم تكل أو تمل وهي تعانقها في صمتٍ في محاولة ناجحة ومتفانية لتهدئتها، لحظات وبدأت "سكون" تستعيد توازنها فابتعدت على مضضٍ وهي تكفكف دموعها وقد خفت وتيرة شهقاتها وضعفت، فابتسمت "وَميض" ابتسامة هادئة ورددت:
-لو حابة تتكلمي عن اللي مضايقك؛ فأنا سمعاكِ ولو مش عايزة فأنا بردو هحترم دا.
أومأت "سكون" بهدوءٍ قبل أن تنظر بعُمقٍ داخل عيني "وَميض" وتقول بلهجة مهزومة:
-عندي سؤال ليكِ يا وَميض!!
هزت رأسها مُرحبةً؛ فأكملت الأخيرة بصوت مُتهدجٍ:
-هتعملي أيه لو فجأة اكتشفتِ إن عندك أُخت؟؟
خفق قلب "وَميض" من وقع سؤالها، فأشد ما أحزنها في صِغرها وحتى الآن أنها لا تحظى بشقيقة تُعينها على مشاقٍ الدنيا وتكون مخبأً لأسرارها، لاحت ابتسامة خفيفة على شفتيها مجرد أن تخيلت الفكرة ولكنها سرعان ما عادت إلى الواقع وهي تقول بلهجة ثابتة:
-هفرح أوي لأن الحياة من غير إخوات مُهينة كأنك من غير عمود فقري.. رخوة كدا وهشة.
صمتت لوهلة ثم زوت ما بين عينيها وتساءلت متوجسةً:
-أيه سبب السؤال دا؟؟
  تعمقت نظراتها داخل عيني الأخيرة أكثر قبل أن تقول مُترددة في نطق عبارتها:
-أنا اكتشفت إن ليا أُخت تانية غير شروق.
انفتح فم "وَميض" على وسعه وجحظت عيناها وهي تتابع في صدمةٍ:
-معقول؟؟ إزاي دا حصل؟ وليه باباكِ خباها عنكم؟
ابتلعت "سكون" غِصَّة مريرة في حلقها قبل أن تردد بمشاعرٍ مُلتهبة:
-أختي من أمي يا وَميض.. مش من بابا.
كان وقع هذه الصدمة عليها أكبر من سابقتها فرددت مذهولةً:
-طنط نبيلة كانت متجوزة قبل باباكِ!!
أغمضت "سكون" عينيها في قهرٍ وعجزٍ يمنعاها من الاعتراف بشيءٍ واكتفت فقط بأن هزت رأسها دون أن تنبس ببنت شفةٍ؛ فتابعت الأخيرة بفضولٍ:
-وهل اتقابلتوا؟؟ يعني هي عرفت إنك أختها؟؟
أومأت "سكون" سلبًا ثم رددت بصوت مخنوقٍ:
-اتقابلنا كتير بس هي متعرفش إني أختها.. تفتكري لو عرفت هتحبني؟؟
ابتسمت "وَميض" لها بنعومةٍ قبل أن تقول برد صادقٍ:
-إنتِ حنونة يا سكون.. أكيد لازم تحبك.. يا بختها بيكِ.
انهمرت الدموع من عينيها مرة أخرى قبل أن تردد بأنفاسٍ مضطربة:
-بالعكس، يا بختي بيها.
أسرعت بمحو دموعها قبل أن تتظاهر مبتسمةً ثم تقول بلهجةٍ حاسمةٍ:
-أنا لازم أرجع البيت دلوقتي اتقاءً لغضب عثمان السروجي.. والعرسان مالهمش ذنب ليلتهم تدمر بسببي.
أومأت "وَميض" بتفهم فتابعت "سكون" ببعض اللين:
-إن شاء الله هشوفك تاني.
انصرفت من أمامها على الفور متجهةً إلى المجلس تستأذن عمها في الانصراف فأذن لها على مضضٍ بعد أن شرحت له وجهة نظرها في إبقاء الأمور مُستتبة، توجهت برفقة شقيقها إلى البوابة بعد أن ودعت العروسين وتمنت لهما السعادة الأبدية، لحق بها "تليد" الذي أصر على اصطحابهما إلى القصر وأمام رفضها القاطع التقائه بوالدها اكتفى بأن أعطى شابًا من المزرعة مفاتيح السيارة وطلب منه توصيلهما حتى بوابة القصر، عاد من جديد إلى كاميرته، طلب من العروسين أن يقفا قبالة بعضهما؛ فيظل "نوح" ثابتًا بينما تخطو "مُهرة" خطوات مُتهادية إليه فيمد كفه إليها يلتقط راحتها ثم يضعها على منطقة قلبه مُباشرة.
في نهاية اليوم قرر "نوح" اصطحاب زوجته والذهاب بها إلى بيتها بعدما أعدت "رابعة" لهما طعامًا خاصًا؛ قرر الشيخ أن يذهب إلى فراشه لنيل قسطًا من الراحة وذهب "تليد" برفقة زوجته إلى شقتهما.
كان يوم مُزدحمًا بالكثير؛ فأول ما فعل "تليد" ما أن وطأة قدماه الشقة أن أسرع إلى الحمام مستعينًا بحمامٍ دافئ يدفع عنه عناء اليوم، اتجهت هي إلى الدولاب تلتقط منه بيجامة شتوية رقيقة فوقعت عيناها على بعض المنامات الجريئة المُعلقة في طرف من الدولاب ولم تمسهم يداها من قبل، راودتها بعض الأفكار لثوانٍ وهي تلمس إحداهم بأطراف أناملها رغبةً منها في منحه حقه الشرعي فيها، ظلت لحظات تتأمله وداخلها يشتعل خوفًا وترددًا من تنفيذ الأمر، ارتجف جسدها برعشةٍ قويةٍ حينما انفتح باب الحمام وأدركت خروجه فتحولت ببصرها إلى إحدى البيجامات وأسرعت بالتقاطها وهي تجر باب الدولاب فورًا.
ابتلعت ريقها بصعوبة قبل أن تهرول متجاوزةً إياه إلى الحمام وسط دهشته منها ولكنه لم يُعلق.. لحظات وخرجت من الحمام فوجدته يجلس إلى طرف الفراش المُحبب إليه، تنحنحت بهدوءٍ قبل أن تتجه إلى الطرف الآخر من الفراش وقبل أن تتسطح عليه أسرعت بالتقاط رواية ورقية من أسفل المخدة ثم دثرت نفسها تحت الغطاء وقامت بفتح الصفحة التي وقفت عندها، تنهد "تليد" براحةٍ قبل أن يرمقها بطرف عينه ثم يقول بمراوغةٍ:
-بدل ما إنتِ بتقرأي الرواية.. ادخلي على اليوتيوب واعرفي طريقة عمل المحشي ولا خلي خالة رابعة تعلمك!!
اتسعت ضحكتها وهي تتحول بنظراتها إليه ثم تقول بخفوتٍ:
-للدرجة دي بتحب المحشي؟؟؟
تليد وهو يرفع كفيه كمن ثُبت تحت ضغط السلاح وقال بلهجة مازحة:
-بس مش أكتر منك.
اتسعت ضحكتها أكثر حينما بدأ يقترب منها ثم قال بصوت هادئ:
-تعالي أعلمك فكرة حلوة أوي.. هتغير حياتك 180 درجة.. أنا مواظب عليها من سنتين.
أومأت تنصاع إلى كلامه في فضولٍ شديدٍ، فطلب منها أن تأتي إليه بورقة وقلم من الدرج المجاور لها، ناولته ما يريد فأمسك القلم وبدأ يدون تاريخ اليوم ثم قال بابتسامة ودودة:
-أنا عندي مذكرة تواريخها من سنتين ولحد النهاردة.. الفكرة بقى إني باجي في آخر اليوم كدا. اقعد مع نفسي وأحاسبها وأشوف أنا عملت كام ذنب في يومي وأكتبهم وأعاهد نفسي إني مش هرجع الذنب دا تاني ولازم طبعًا عدد الذنوب يقل كل يوم عن اليوم اللي قبله علشان تحسي بنجاح وانتصار.
لمعت عيناها في انبهارٍ استطاع من خلال رؤيتهما إدراك مدى إعجابها الشديد بالفكرة، تابعت "وَميض" وهي تحدق في ملامحه بشرودٍ وتأملٍ:
-إنتَ كدا إزاي؟؟؟
تليد وهو يقطب ما بين عينيه ويتساءل بحيرةٍ:
-إزاي؟؟
طالعته بعينين تلمعان بشغفٍ ثم أردفت برقةٍ:
-حلو.. كُل يوم بتثبت لي إن جواك حلو أوي.. حلو لدرجة إني بدأت استكترك على نفسي!!
بادر برفع كفيه يحتضن وجهها بينهما ثم يقول بلهفةٍ عاشقٍ:
-مفيش حاجة كتيرة عليكِ.. إنتِ اللي مقامك كبير أوي عندي.
مازالت فكرته تشغل تفكيرها؛ فأسرعت تقول بلهفةٍ:
-طيب أنا هبدأ من دلوقتي أدون ذنوب اليوم دا!!
أومأ موافقًا فالتقطت الورقة والقلم منه وبدأت تفكر مليًا في أخطاء اليوم وتدون كل ما يخطر ببالها بينما يراقبها بعينين هائمتين وشعور الفخر بها يتنامى داخله، لحظات ووجدها تلتفت إليه من جديد ثم تسأل بجديةٍ:
-هل حرام أعاكس أبطال الروايات الخياليين واتغزل فيهم يا شيخ تليد؟؟
ضحك ملء شدقيه ثم ردد من بين ضحكه يُعبر مازحًا:
-لا حلال يا قلب شيخ تليد وشريانه التاجي لأن ليس على المجنون حرج.
انطلقت ضحكة عالية من بين شفتيها حينما أبصرته قد انغمس في ضحكة طويلة لم ينته منها بعد، وما أن شعرت بالحرج من بله سؤالها حتى التقطت المخدة وبدأت تضربه بها في غيظٍ وخجلٍ.
أعطاها ظهره مُتظاهرًا بتفاديه الضرب من قبضتها القاسية ليقول بسخريةٍ ومزاحٍ:
-لا مش معقول كدا يا شيخة.. ايدك تقيلة جدي.
ضغطت أسنانها بغيظٍ فأسرع بفتح الدرج المجاور له ثم التقط شيء ما واستدار إليها من جديد وهو يمد قبضته المطبقة إليه في ابتسامة كامنة بينما تدب أصابعها بين كفه المتكور وتجاهد في التقاط الذِكر منه  ليردد هو بابتسامة ماكرة:
-خُدي يا ستي اذهبي سيئة ضرب جوزك حبيبك بالذِكر.. علشان تعرفي إني خايف عليكِ.. خُدي ربنا يغفر لك.
التقطت الورقة من بين كفه ثم بدأت تردد ما بها بسعادةٍ واضحةٍ ورغبة حقيقية في تحقيق ما بها وما أن انتهت حتى وجدته يسألها في حيرةٍ:
-إلا بصحيح يا روح الشيخ.. هو يعني أيه شيخ تايواني اللي كُنتِ ملطخة سُمعتي بيها دي؟؟؟
مطت شفتيها بجهلٍ صريحٍ في الإجابة عن سؤاله ثم ردت بتلقائيةٍ:
-بصراحة مش عارفة.. بس يبدو إنها بتتقال على اللي عاملين نفسهم شيوخ وهم نصابين ومُضللين أو عارفين الدين بحذافيره بس مش بيطبقوه.
أومأ يتفهم شرحها لوجهة نظرها وقبل أن يطرح سؤالًا آخر وجدها تقول بابتسامة يغلفها الحرج منه:
-وبقول لك أهو قبل ما تسأل.. أنا معرفش قولت عليك كدا ليه مع إني مشوفتش أي حاجة من دي فيك.. تقدر تقول كُنت متغاظة منك.
مدَّت كفه وخبط على فخذها وهو يقول بابتسامة عابثة:
-مسامحك يا زهرة الخشخاش.
أسرعت تجلس القرفصاء على السرير ثم رددت بنبرة مبتهجة مسلية:
-بقول لك أيه، مثل لي كدا كأنك شيخ تايواني؟؟؟
ضيق عينيه بتأملٍ ثم نظر إليها وأضاف بابتسامة عريضة:
-دي حاجة مُحيرة بصراحة، طيب بصي إنتِ اسأليني سؤال وهرد عليكِ رد من ردود التايوان دول.
أومأ موافقًا ثم شبكت أصابعها معًا وقالت بابتسامة عريضة:
-دلوقتي أنا راجل وبتصل عليك في البرنامج علشان أخد الرأي الشرعي في أمر ما.. تمام؟؟
أومأ في صمتٍ؛ فتابعت هي بصوتٍ جاهدت أن يبدو أقسى من نعومة صوتها الطبيعي:
-دلوقتي يا شيخ تليد أنا راجل متجوز من خمس سنين ولسه بشوف حبيبتي الأولانية في أحلامي ولو قابلتها بالصدفة مش بقدر أشيل عيني من عليها.
قاطعها "تليد" يقول مُتأثرًا بنبرة هائمة:
-يا حبيبي.. ما شاء الله.. خمس سنين وما نسيتش؟؟ دي كانت جمل يا أبا الحج.
جحظت عيناها في ذهولٍ بينما انطلقت ضحكته حينما رأى ارتخاء شفتها السُفلى ثم تابع يقول من بين ضحكه:
-لأ دي وسعت مني شوية.. آسف آسف.
تنحنح بخشونةٍ مقررًا ترك المزاح جانبًا راغبًا في تقمص الدور بجدارةٍ فتابع على نفس وتيرة التأثر:
-ومش هتقدر تنساها أبدًا.. نقل فؤادك حيث شئت من الهوى، ما الحب إلا للحبيب الأولِ.
عاد إلى شخصيته مرة أخرى وهو يقول مستهزئًا:
-شوفي الكلام، راجل جاي يقول لك إنه بيخون مراته بالتفكير في واحدة تانية وهو معاها، فأنا بدل ما أعظه علشان يتقي الله في نفسه وفيها بساعده يكمل في الذنب دا.. دي كارثة في حد ذاتها.
أومأت في انبساطٍ من استطراده المُبهر لكل ذرة بها وتيسير فهم الأمور عليها، تنحنح من جديدٍ حينما سألته باعتبارها المُتصل وتابعت:
-كدا يبقى حلال ولا حرام يا شيخ؟؟
تليد يتعمق في تأدية الشخصية بمهارة وخفة ظلٍ:
-بعيدًا عن الدين وبغض النظر عن الحلال والحرام، إنتَ ملكش دخل ولا سلطان على قلبك يا قلب الشيخ.
انفجرت ضحكة عالية من بين شفتيها حينما ردد يبغض هكذا نوعية ويقول بغيظٍ:
-واحد متصل ياخد رأي شرعي في كارثة بيعملها فبقوله بعيدًا عن الدين وبغض النظر عن الحلال.. كِبر العبيط وصوته تِخن وأطلق لحيته وقرر يكون شيخ وجاي يقول لك بغض النظر عن الحلال.
اغرورقت عيناها بالدموع وهي تُنصت باهتمامٍ إلى غضبه الكامن داخله والذي يظهر على هيئة كلمات ساخطة، يرفض إعطاء بعض الأفراد قيمة لا يستحقونها وتناول الرأي والحكمة من فم السُفهاء.. فأكمل مُضيفًا بثباتٍ:
-حتى أنا برفض بشدة يتقال لي شيخ لأني لسه مستحقتش مرتبة مبجلة زيّ دي ولكن أُجبرت عليها علشان أنا ابن سليمان السروجي.
استوقفه متابعة حديثه صوت رنين الهاتف فنظر إلى شاشته باستغرابٍ قبل أن ينظر إليها مرة أخرى ويقول بهدوءٍ:
-لحظة وراجع.
•~•~•~•~•~•~•~•~•
دفعت كرسي شقيقها برفقٍ داخل باب القصر الساكن تمامًا من الحركة، دارت بعينيها في المكان فلم تجد حتى العاملين به فمطت شفتيها باستغرابٍ بينما تابع "عُمر" بتساؤل مُهتم:
-هي البني آدمين فين؟؟
تابعت بلهجة قلقة:
-مش عارفة، تعالي نروح الصالون.
سارت به صوب غرفة الضيافة وما أن دخلا حتى وجدا "نبيلة" تنام جالسةً أمام التلفاز وتستند برأسها على الأريكة، تركت "سكون" الكرسي وتحركات صوبها فوجدت أمامها أكوب فارغة من القهوة والشاي بأعداد كبيرة؛ فيبدو أنها غضبت بشدة وقررت أن تفرغ طاقتها المشحونة في تناول مشروبات ساخنة تركيزها واضحٍ على ايقاظ العقل ورغم ذلك نامت دون أن تشعر، أبصرت بجانب الأكواب قصافة أظافرها فقد استخدمتها في إزالة الزوائد عن ظفرها وتقليمه، لمعت فكرة ساطعة في عقلها فمالت بسرعة إلى تلك الزوائد المنزوعة من أظافرها ثم قبضت عليهم وأسرعت بدسهم داخل جيب معطفها قبل أن تنظر إليها نظرة طويلة متأملة، للمرة الأولى التي تحاول فيها "سكون" مقارنة نفسها بوالدتها ومحاولة إيجاد أوجه التشابه بينهما وبالأخص الوراثية منها ولكنها وبعد تأمل لدقائق وتفكير طويل لم تجد بينهما أية تشابه لا في الملامح ولا حتى الشخصية، ابتلعت "سكون" غِصَّة مريرة في حلقها وقررت أن تتريث في الحكم على "نبيلة" وألا تواجه والدها بما عرفته حتى  تتأكد بنفسها إن كانت "نجلا" صادقة أم تحاول إقصاء "سكون" عن حياتها العائلية وتضليلها فكريًا!!!!

 •تابع الفصل التالي "رواية رحماء بينهم" اضغط على اسم الرواية 

google-playkhamsatmostaqltradent