رواية رحماء بينهم الفصل الحادي و الخمسون 51 - بقلم علياء شعبان
الفصل الحادي والخمسون
رواية
•~•~•~•~•~•~•
"صار قلبي رمادًا حينما طاله لهيب الحقيقة".
•~•~•~•~•~•
جالت بعينيها تتفقد الغُرفة بتأنٍ واهتمامٍ بعدما رتبتها ترتيبًا جيدًا ووضعت بعض الورود المُجففة على السرير وقد كتبت باستخدامهم كلمة "أُحبك"، انتقلت بخطواتها مُسرعةً خارج الغرفة تتفقد ترتيب الشقة بأكملها وبالأخص الطاولة الصغيرة التي تتوسط الصالة، وضعت عليها بعض الشموع المعطرة وأدوات تناول الطعام دون أن تملأها، في هذه اللحظة تنفست بقوة تُحاول تجرع خوفها الذي قد يفسد ما تنوي القيام به وقد ينزع الود القائم بينهما وقتها، فركت كفيها معًا وهي تُلقي نظرة عامة وراضية عن ترتيب المكان وتجهيزه قبل أن تعود إلى الغرفة مرة أخرى وتنظر إلى المنامة طويلًا في خجلٍ.
أغمضت عينيها قبل أن تقترب لالتقاطها ثم قالت بزفيرٍ مُسترخٍ:
-خُدي نفس عميق وخرجيه.. اهدي.. دا جوزك!
همَّت أن تلتقطها ولكن استوقفها طرقًا خفيفًا على باب الشقة، أسرعت نحو الباب فورًا وما أن فتحته حتى وجدت "مُهرة" تقول بحِرصٍ شديدٍ:
-الحلة سُخنة جدًا.
ابتعدت "وَميض" من أمامها سريعًا فهرولت الأخيرة نحو المطبخ إلى أن وضعت الطعام على الرخام الأسود قبل أن تلتفت إلى "وَميض" الواقفة أمامها ثم تقول بهدوءٍ:
-كدا الأكل كُله جاهز بفضل الله، هتعوزي حاجة تاني مني؟؟
أومأت "وَميض" سلبًا قبل أن تبتسم في ودٍ كبيرٍ وتقول:
-إن شاء الله أتعب لك يوم الفرح يا مُهرة وأشوفك أحلى عروسة في الدنيا.
تهللت أسارير وجه "مُهرة" التي اقتربت من الأخيرة وتعانقتا في ودٍ وسرورٍ، ابتعدت "مُهرة" على الفور قبل أن تقول بحسمٍ:
-طيب استأذن أنا بقى علشان سايبة أكل العمال على الناغ.
أومأت "وَميض" في تفهم فتحركت الأخيرة صوب باب الشقة ولكنها توقفت حينما تابعت "وَميض" بتساؤل مُهتمٍ:
-شيلتي من الأكل دا لبابا ونوح؟!!
مطت "مُهرة" شفتيها ثم أومأت سلبًا وهي تقول:
-لأ الحقيقة.
ابتسمت "وَميض" وأضافت بهدوءٍ:
-خلاص تمام.. أنا هاخد جزء من الأكل وهنزله في شقة بابا سليمان.. يبقى يتغدا هو ونوح سوى.
وَدعتها "مُهرة" بابتسامة هادئة قبل أن تنصرف إلى رأس عملها، اندفعت صوب المطبخ القائم بالمزرعة لتفقد نضوج الطعام القابع على نيران الموقد، قامت برفع الغطاء عن القدر ثم نظرت إلى الأرز الذي ينبعث منه حرارة عالية وبدا تقديريًا قد نضج، مالت قليلًا تشتمه بنشوةٍ واستمتاعٍ ثم تقول بتفاخرٍ وثقةٍ:
-الله عليكِ يا بت يا مُهغة، الأكل نَفَس بغدو.
همَّت تُعيد الغطاء مكانه، فأوقفها يقول بتحذيرٍ وهو يوجه سبابته أمام وجهها:
-عندك.. الحلة دي لازم لها إشرافي الشخصي.
اندفع مُسرعًا صوبها، ضحكت ملء شدقيها وهي تجده يتناول الملعقة ثم يغرسها داخل القدر حتى تمتلئ ويتوجه بها إلى فمه وأول ما فعل حينما وصله مذاق الأرز أن صاح باستمتاعٍ شديدٍ:
-يا بختك يا دكتوغ نوح.. مراتك طباخة ماهرة.
تهللت أسارير وجهها بفرحةٍ وظلت تتابع استمتاعه بعينيها وهو يتناول الملعقة وراء الأخرى شاردةً بهيامٍ في ملامحه حتى استيقظت فجأة من هيامها به وهي تفتح عينيها على وسعهما وتقول بغيظٍ:
-يالهوتي.. خلصت الحلة يا مفتغي.. كفاية!!
أسرعت بوضع الغطاء وهي ترمقهُ بنظرات ساخطةٍ قبل أن يتابع هو بملامحٍ يتصنع فيها الحُزن:
-فدا كرش جوزك يا عاقة.. فدايا ولا مش فدايا؟؟
أومأت "مُهرة" وهي تبتسم ابتسامة عريضة:
-فداك يا كتكوتي.
جحظت عينا "نوح" وهو يقترب منها ثم يصيح ساخطًا:
-كتكوتك؟؟ شايفاني بصوصو هنا يا هانم؟؟
تنحنحت "مُهرة" في وجلٍ حينما بدأ يقترب بخطواته منها أكثر إلى أن أسرع بالقبض على كفها قائلًا بنبرة مُتلهفةٍ:
-ما تجيبي بوسة يا عضل!!.. عايز ارتوي.
حدقت فيه مصدومةً وهي تتراجع للخلف وتردد بكلمات مبعثرة بينما يتقدم منها خطوة كلمها تراجعت مثلها:
-طب ما تشغب من الحنفية؟؟
شدَّ على رسغها وهو يردد بملامحٍ كشرةٍ يكسوها المرح:
-دا أنا هشرب من دمك لو ما ادتنيش بوسة؟؟
انطلقت ضحكة خفيفة من بين شفتيها وهي تتراجع أكثر في محاولة للهرب منه ولكنها تفاجأت باصطدام ظهرها بالحائط؛ فظهرت على شفتيه ابتسامة ظافرةُ وهو يحاصر خاصرتها بذراعيه ثم يقول باستمتاعٍ ومراوغةٍ:
-لازم نُذيب الجليد يا دكتوغة علشان يوم الفرح نمرح ونُعربد بدون كسوفٍ.
انحسرت في الزاوية لا حول لها ولا قوة، أوجدت صعوبة في ابتلاع ريقها فأردفت بصوت خافتٍ يغمره الخجل:
-إحنا كدا مش هنذيب الجليد.. إحنا كدا هنخلف قبل الفغح.
ابتسم "نوح" ابتسامة شريرة قبل أن يرفع أحد حاجبيه ويقول بمكرٍ:
-طيب بصي أنا هغمض عيني وإنتِ بوسي.. عارف إنك بتدلعي ومكسوفة.. سُهنة.
التوى شدقها غيظًا ولكنها تظاهرت بالموافقة على كلامه، ابتسمت بهدوءٍ فمال هو نحو وجهها قليلًا مُغمض العينين ينتظر أن تمنحه قُبلة الحياة التي انتظرها بفارغ الصبر، اندمج ينتظر شعوره بشفتيها ولكنه وجد أنفه دخل داخل فوهة عميقة ذات أسنان حادة، حيث قبضت على أنفه تغرس أسنانها به وكأنها تقضم من شطيرة شهية ليصيح هو بألمٍ مُدوٍ:
-يا بنت العضاضة.. أأأأأخ!!!.
ابتلعت ريقها بصعوبةٍ وهي تميل بليونةٍ ثم تمر هاربةً من أسفل ذراعه قبل أن ينقض عليها مُنتقمًا لألمٍ كاسحٍ احتل أنفه وهيَّج أعصابه، هرعت بضحكة مشاكسة خارج المطبخ تمامًا ثم وقفت أمام الباب تضحك بسعادة قبل أن يلمس بكفه أرنبة أنفه ثم يقول بابتسامة مغتاظة:
-متجوز مسعورة.. أنا الغلطان إني عايز أذيب الجليد.. خليه كدا يكش نفضل طول السنة في القطب الشمالي.
رفعت أحد حاجبيها ثم رددت بظفرٍ:
-دي بس هدية تذكاغية بسيطة علشان الشيطان الغجيم ميهوبش ناحية عقلك تاني.
نوح وهو يتأوه بألمٍ ثم يقول متبرمًا:
-دي مش هدية تذكارية.. دي عضة كلب.. أما ألحق أروح أخد حقنة.
تخصرت "مُهرة" أمامه وهي تقول بابتسامة ماكرة:
-طب ما أديها لك أنا؟!.. أنا دكتوغة بيطغية وأفهم في الحاجات دي كويس!!
انفرجت أسارير وجهه وهو يصيح غير مُصدقٍ:
-بالله؟؟ خلاص أنا موافق إنتِ اللي تديها لي.
مُهرة بابتسامة شريرة تتابع:
-بس هتكون حُقنة هوا؟؟
حدق فيها مصدومًا وارتخى فكيه السفلي وهو يقول:
-أه وتكوني من بعدها أرملة.. الأرملة الصعرانة راحت.. الأرملة الصعرانة جت.
انفجرت ضحكة عالية من بين شفتيها قبل أن تقول بنبرة خافتة مرتبكة:
-بحبك ها؟
اتسعت ضحكته ثم رماها بغمزة من عينيه وهو يقول هائمًا:
-بعشقك ها؟
•~•~•~•~•~•~•~•
تطلعت إلى صورتها المعكوسة في المرآة بعدما صففت شعرها بعنايةً ثم سدلته متروكًا على كتفيها وظهرها، كذلك ارتدت قميص النوم القصير الذي اختارته بدقةٍ كي يتناسب مع تفرد هذا اليوم وتميزه، بدأت تدور حول نفسها تتطلع إلى هيئتها بتمعُنٍ فأرادت كأية امرأة أن تُصبح مثالية في ليلة كهذه وأن تحوز على اعجاب زوجها وتسلُب لُبه منه، ابتسمت في هذه اللحظة ابتسامة فاترة غلب عليها الخوف الشديد مهما حاولت دفعه عن قلبها يُعاندها ويعود، يُشعرها الخوف باستحالة عيش لحظة خاصة مع مَنْ تُحب بل ويضع أمام عينيها الكثير من العوائق والوساوس كي تتزحزح عن قرارها وتتنحى عنه.
أسرعت تهز رأسها بقوةٍ ترفض الانصات لصوت خوفها، فركت جبينها ببعض التوترٍ ثم أخرجت زفيرًا ساخنًا نتج عن رهبة مشاعرها المُتأججة، اتجهت صوب السرير والتقطت الروب الطويل ثم ارتدته فوق القميص وتركته مفتوحًا، لم تعُد قدماها تحملانها أكثر من ذلك فرمت بنفسها على طرف السرير ثم شرع تطقطق أصابعها بارتباكٍ شديدٍ؛ فبدا لها الانتظار أثقل عدوًا قد تتعرف عليه طيلة حياتها.
ظلت شاردةً تحاول توقع رد فعله عند رؤيتها، هل سيسعد وتبتهج أساريره أم أنه لم يعُد يرغب فيها بعدما رفضت هي قربه مرارًا!!.. لم تستطع توقع أي شيء فاستسلمت لفكرة الانتظار القريب، وما هي إلا لحظات حتى سمعت صوت ولوج المفتاح بالقفل ثم صوته الرخيم ينادي بلهفةٍ طفلٍ يرغب في رؤية وجه والدته فور وصوله:
-وَميض!!
سرت رجفة قاسية في سائر جسدها وتجمد تمامًا حتى فقدت قدرتها على الحراكٍ وبقيت ساكنةً في مكانها؛ تسمع ندائه وتفقد قدرتها على النطق، تحرك "تليد" صوب الطاولة المُنمقة بزينة من الورد والشموعٍ وابتسامة متسعة احتلت مُحياه ثم كرر ندائه بحماسٍ:
-أُترُّچ!!
لم تأتيه إجابة فتحرك صوب المطبخ يتفقد أثرها هناك ولكنه لا يجدها ولكن رائحة الطعام الشهية جعلته يندفع نحو القدر ثم يرفع غطائه مستكشفًا ما بداخله، اتسع ما بين حاجبيه مُرددًا بدهشةٍ:
-اوه.. دي عملت محشي بجد؟ يبقى هي دي المُفاجأة.
استدار عائدًا إلى الصالة قبل أن يقطب حاجبيه في حيرةٍ من أمرٍ اختفائها وبقاء المفاجأة في العلن هكذا؟؟ تحرك بخطوات وئيدة صوب غرفتهما التي بقى بابها مواربًا ثم دفعه برفقٍ قبل أن تبصرها عيناه جالسةً إلى طرفٍ الفراشٍ، حدق فيها بنظرات ثاقبة مندهشةً يُطالع هيئتها بتمعُنٍ وفقدان سيطرة على مشاعره، بدأ يغمض عينيه ويفتحها في استيعاب لِمَ يرى فرفعت "وَميض" بصرها تنظر إلى عينيه في استحياءٍ فوجدته مشدوهًا ينظر في انبهارٍ مُتفحصًا كُل ذرةٍ بها.
جاهدت متحكمةً في أعصابها؛ فانتفضت واقفةً في مكانها قبل أن تقترب صوبه وهي تقول بابتسامة ناعمة:
-عملت لك الأكل اللي بتحبه!!
ارتخى فكه السُفلي قليلًا مجرد أن وقفت وتحرك إليه فهفا عطرها إلى أنفه يضرب حواسه بقسوةٍ ثم بقى جامدًا يتطلع إليها فحسب، ابتلعت ريقها على مهلٍ قبل أن تقول بتلعثمٍ:
-تليد!!
رد من بين لهفة التطلع إليها:
-أوامر!!
تنحنحت في خجلٍ ثم أعادت جملتها مرة ثانية:
-بقول لك عملت لك الأكل اللي بتحبه ونفسك فيه!!
تليد وهو يردد بابتسامة عريضة:
-أكل أيه يا شيخة.. أنا نفسي دلوقتي راحت في حتة تانية خالص.
تخضبت وِجنتاها ثم سعلت حرجًا وأشاحت بنظراتها بعيدًا عن عينيه قبل أن تتنفس بقوة وثبات ثم تلتفت إليه من جديدٍ وهي تردد بمصارحة:
-تليد.. خلينا نبدأ من جديد.
والآن أتته الإجابة التي حامت بطنين مُزعج حول عقله منذ رؤيتها ترتدي قميصًا مكشوفًا وكأنما تدعوه على استحياءٍ إليها، تنحنح بهدوءٍ قبل أن يحاصر وجهها بكفيه ثم يوجه إليها سؤالًا مُباشرًا:
-إنتِ مُتأكدة ودي رغبتك فعلًا!!.. مفيش حاجة هتحصل لو إنتِ مش حابة ومش عايزة.. أنا معنديش مشكلة أستنى تحبيني العُمر كُله!!
اغرورقت عيناها بالدموع ثم أردفت بنبرة متهدجة توشك على البكاء:
-أنا بحبك وبكامل رغبتي عايزة أكون معاك.
كان وقع اعترافها على سمعه كعزفٍ ناعمٍ جذابٍ، كانت أنفاسه كبحرٍ جياشٍ ترتطم داخله الأمواج بلا هوادة، أسرع بمحاصرة خصريها ثم جذبها بقوة إلى ذراعيه فتعانقا عِناقًا حارًا أذهب وأذاب جليدَ الأيام العِجاف الماضية التي لم تزورها قطرة تروي ظمأ اشتياقه لها، دومًا كان يرغب فيها بشدة حتى أن داخله يحترق لقربها وبات يخشى عليها أن يطولها لهيب اشتياقه فيها.
أرخى ذراعيه قليلًا قبل أن يفقد سيطرته التامة على نفسه، بينما سلط نظراته بعُمقٍ داخل عينيها وقال:
-عينيكِ!
اتسعت حدقتها وهي تتساءل بوجنتين متوردتين وصوت هامسٍ:
-مالهم؟؟
أجابها بابتسامة دافئة:
-غرقان فيهم.. انقذيني ورُدي الدِين!!
اتسعت ابتسامتها بمرحٍ ثم أغلقت عينيها فورًا ورددت بمزحٍ لطيفٍ:
-أهو.. كله تحت السيطرة.
ضحك ملء شدقيه فيما أسرعت هي بالقبض على كفه ثم سحبته وراءها وهي تقول بحماسٍ كبيرٍ:
-تعالى شوف الأكل بقى.
سار خلفها بخطوات متراخية، كيف لها أن تُحرك البركان الخامل فيه ثم تتقاعس عن إخماده؟؟ رفع أحد حاجبيه قبل أن يردد بنبرة متبرمةٍ:
-ما نخلي الأكل بعدين يا برتقانة؟؟؟
التوى شدقها وهي ترد برفضٍ قاطعٍ:
-يرضيك تعبي يروح على الفاضي!!
أومأ نفيًا إلى أن وصلا داخل المطبخ، تركت كفه ثم بدأت تتحرك بمرونةٍ تجلب الأطباق وترص الخضروات الناضجة عليهم باهتمامٍ بالغٍ بينما هو في عالم آخر، فعيناه لا تكف عن النظر إلى تفاصيلها الدقيقة والتفرس بجسدها المُتناسق ولم يشعر بنفسه إلا وهو يصيح مُنفعلًا في لوعةٍ:
-وَتد يابا الحج وَتد!!
التفتت تنظر إليه في دهشةٍ فرماها بغمزة من عينيه جعلتها تشيح بوجهها عنه ثم تبادر في جمع طرفي الروب بخجلٍ من نظراته المحدقة فيها، اتسعت بسمته ما أن شعر بخجلها فاندفع نحوها ثم عانق خصريها من الخلف وثبت ذقنه على كتفها وردد بمشاعرٍ هائمةٍ:
-“وكُنتِ رغم بُعدك عني.. حميمة قلبي".
قام بطبع قُبلة ناعمة على عُنقها؛ فخفق قلبها بنشوةٍ حقيقيةٍ بينما استكمل يتغزل فيها بكلمات رقيقة تداعب مشاعرها:
-“إنتِ نبضي.. بذور أرضي.. عناق عُمري.. امرأة أحلامي.. هوان صبري وجميل قَدري".
انشرح صدرها من همسه بكلمات ساحرة دس فيها مشاعره الفياضة إليها، ابتعد بعد ذلك حينما وجدها قد انتهت من تجهيز الأطباق فتناول طبقًا في يده رغبةً في تقديم المساعدة لها، سارا معًا إلى الصالة وقاما بوضع الأطباق على الطاولة، فرك "تليد" كفيه معًا في حماسٍ بينما التقطت "وَميض" القداحة وأشعلت الشموع، جلس على كرسيه وفعلت هي كذلك ثم تمتمت بنبرة خافتة تترقب رأيه في الطعام:
-بألف هنا وشفا.. أكيد هستنى رأيك؟؟
نظر للطعام بشهية مفتوحةٍ وبدا اليوم وكأنه أجمل يومًا سيعيشه طوال عمره على الإطلاق، سمى الله ثم شرع يتناول طعامه باستمتاعٍ شديدٍ ولم يخفى عليها رؤية التلذذ الظاهر على صفحة وجهه، ابتسمت برقةٍ وشرعت تتناول طعامها ومن حينٍ لآخر تترقب رد فعله بطرف عينيها ليتكلم هو بنبرة منبهرة داعمة:
-لا حقيقي الأكل طعمه سُكر يا مسكر.
تنحنحت في لينٍ قبل أن تقول بنبرة خافتة:
-على فكرة الأكل دا مش عاملاه لوحدي، خالة رابعة ومُهرة ساعدوني فيه بس أنا مشيت على الخطوات وطبقت بنفسي.
افتر ثغره عن ابتسامة عريضة وقال بهيامٍ:
-وأنا يكفيني اهتمامك بأي حاجة بحبها وإنك تقتطعِ من وقتك وتطبخي لي بإيدك.
مدَّ كفه يلمس كفها القابع على الطاولة، اضطرب قلبها وزادت ضرباته حتى كادت تتمرد عليها وتخرج من بين ضلوعها حينما وجدته يتابع محدقًا بتمعن داخل عينيها:
-أنا شاكر لأبويا جدًا لما قرر يبعدك عني.
توترت ملامحها من تدقيقه داخل عينيه ثم تساءلت بخجلٍ:
-معقول؟؟ بس إنتَ قولت لي قبل كدا إنك كُنت ناقم على فكرة بعادي عنك!!
أومأ مؤيدًا لحديثها، ثم تابع وهو يميل إلى الطاولة أكثر ثم يرفع ذراعه ماسحًا برفقٍ على خصلات شعرها:
-كُنت ناقم وأنا طفل مش فاهم حاجة.. بس لمَّا كِبرت عرفت إن أبويا عنده بُعد نظر خرافي للأمور.. كان خايف الظروف والأيام والناس يعتبروكِ أختي ويسنوا سكاكينهم عليا لو حبيتك أو اتجوزتك.
سكت هنيهة ثم تابع:
-بس هو شاف إني كُنت مُتيم بيكِ.
ترك لأصابعه حرية لمس خصلات شعرها الناعمة ثم تابع بهمسٍ هائمٍ:
-بشعرك.
انتقل بأصابعه يتحسس الغمزة التي تقبل أسفل عينيها وقال مكملًا بلين:
-بغمازة عينيكِ
بدأ يحرك أنامله بحميمية على بشرتها الناعمة التي تشبه في ملمسها تلك اللمسة حينما كانت صغيرة، مازالت تحتفظ ببشرة ناعمة كالأطفالٍ تُذكره بطفولته المنقضية في الاهتمام بها، داعبت أنامله وِجنتها وهو يقول مُتأثرًا ذائبًا:
-كُنت مُتيم حتى بملمس بشرتك ولونك الخَمري.. أنا يمكن أه كُنت طفل ومشاعري فطرية خاصةً إني وحيد وأكيد مشاعري مش هتتاخد على محمل الجد بس أبويا شاف المستقبل بذكاء وحكمة.
افتر ثغرها عن ابتسامة سعيدة وهي تسأله بلهفةٍ:
-كُنت طفلة حلوة؟؟
تليد وهو يقرص وِجنتها برفقٍ ويضيف مؤكدًا بغزلٍ صريحٍ:
-كُنتِ أحلى حاجة شافتها عيني.. لمَّا خدوكِ مني كانت روحي بتروح وأنا بجري ورى العربية علشان أمنعهم.. وقتها وقعت على وشي والإزاز جرح حاجبي.
فترت ابتسامتها للحظةٍ حينما تذكرت سؤالها له حول هذه النُدبة وإن كان قاصدًا نزع بعض شعيرات حاجبه من المنتصف كي يبدو شابًا مُعاصرًا، تذكرت كذلك حديثه مع مُتصلٍ ما عبر برنامجه يسأله أيضًا عن هذه النُدبة فأخبره "تليد" بإيجازٍ شديدٍ:
-“كُنت بجري ورا أحلامي وملحقتهاش".
تجمعت الدموع في عينيها تأثرًا وندمًا ثم أردفت بنبرة خفيضةٍ يكسوها الحُزن والندم:
-أنا آسفة!!
لم يحتج أن تشرح له سبب اعتذارها فقد أصبحت الآن كتابًا مفتوحًا بالنسبة له واستطاع تخمين ما دار في عقلها سبب لها هذه اللمعة المضاءة في عينيها من فرط التأثُرٍ، نهض من مكانه فورًا قبل أن يتجه صوبها ثم يلتقط كفيها بين راحتيه ويدفعها برفقٍ أن تنهض وهو يقول بلهجة هادئة:
-“كُل كلمات الغزل مش هتليق بمقامك عندي حتى وإنتِ بتعيطي سحراني".
أسرعت تتشبث بعنقه ذائبةً في سحر شخصيته الذهبية الأسيرة؛ لديه من الرزانة والثبات ما يجعل الآخرين يهابونه قولًا وفعلًا؛ أما معها فيبدو لينًا مرنًا لا يخجل أن يُعبر ويشتاق في لوعةٍ، ضمها منتشي من استنشاق عبير خصلاتها قبل أن يهمس بالقُرب من أذنها بلهفةٍ عاشقٍ رفع رايات الرسوخ والثبات والمقاومة أمامها:
-جاهزة؟؟؟
أومأت ومازالت تحتضنه بولهٍ؛ فسرق إصرارها على قربه لُبه ليُرخي ذراعيه قليلًا عن خصريها ثم يبتعد خطوة وحيدة قبل أن يركز بعينيه داخل عينيها بمشاعرٍ مُلتهبة، حرك أصابعه إلى كتفيها ثم أنزل الروب عنهما وقبل أن يخطو خطوة أخرى نحو بداية مشاعر حُب مُلتهبة بينهما، أوقفه طرق غاضب على باب الشقة فتوقف فورًا ثم تابع بحاجبين مقطبين يقول:
-أيه دا في أيه؟؟ ادخلي إنتِ جوا!!
أومأت ثم هرولت داخل الغرفة بينما توجه هو صوب الباب يفتحه ليتفاجأ بوجه "سكون" الباكٍ وما أن أبصرته هي حتى تابعت بنبرة مخنوقةٍ تتهدج من شدةٍ البكاء:
-فين وَميض؟؟
قطب ما بين حاجبيه مُرددًا بريبة وشك:
-سكون إنتِ كويسة؟؟
أومأت سلبًا ثم انفجرت مرة أخرى في البكاء وما تزال واقفةً في مكانها قبل أن تستمع "وَميض" إلى سؤالها عنها فترتدي عباءة وتخرج أمامها فورًا، وقفت متوجسةً أمامها وقالت باستفهام وقلقٍ:
-أنا هنا يا سكون.. مالك؟؟
هرعت "سكون" إليها فورًا كأنما وجدت ملاذها الذي تختبئ داخله من أهوال أيامها التي تتكالب على قلبها تنهش فيه، ضمتها "سكون" بقوة فبادلتها "وَميض" العناق في اندهاشٍ وهنا تكلمت "سكون" بأنفاسٍ مُشتعلةٍ توشك أن تنفجر:
-وَميض، أنا عايزة أصارح أختي، مش عايزاها تعيش التجربة اللي أنا عايشاها، أنا مش بنت نبيلة السروجي.. أنا بنت واحدة تانية.
انفتح فم "وَميض" على وسعه قبل أن تردد بذهولٍ وهي تبعدها قليلًا ثم تنظر محدقةً في عينيها:
-أيه؟؟
سكون وهي ترد بانهيارٍ تامٍ:
-أنا بنت عثمان من واحدة تانية مش نبيلة وعندي أخت، عارفة هي مين؟؟؟
لمعت عيناها باندهاشٍ قبل أن تضيقهما في نظرة فضولية حثت الأخيرة على الاستكمال، همَّت "سكون" أن تتابع بينما صاح "تليد" يمنعها بقلقٍ:
-سكون!!
التفتت نحوه ثم رددت بإصرار وقهرٍ:
-تليد، هي لازم تعرف كُل حاجة؟؟ لازم تفهم إنها أختي.
جحظت عينا "وَميض" في نتوءٍ، هل قالت للتو بأنها شقيقتها؟؟ ممن جاءت صلة الدم؟؟ تقول من طرف الأم؟؟؟ أمها التي لا تعلم عنها شيئًا والتي كانت المسبب الرئيسي في حياة بلا نسب ولا هوية؟؟
افتر ثغر "وَميض" عن ابتسامة عريضة وردت بسخريةٍ حملت بوادر بكاءٍ بين طياتها:
-مين اللي أختك؟؟؟
ذرفت "سكون" الدموع بمرارةٍ وهي تقول بغِصَّة تسري في حلقها:
-إنتِ.. أنا وإنتِ أخوات لنفس الأم.
التفتت "وَميض" بعينيها إلى زوجها الذي دعك جبينه في توترٍ واضحٍ، يرجو الله في هذه اللحظة ألا تكون الصدمة قاسية عليها ولا تأخذ من روحها شيئًا!!
ابتسمت لا تستوعب ما تتفوه به الأخرى ولا تشعر سوى بالتيه وعدم التصديق حينما رددت تنظر داخل عيني زوجها:
-أمي؟؟؟ أمي اللي رمتني في ضلمة البحر وغرقتني؟؟ هي فين أمي دي أصلًا!!
أخذ "تليد" نفسًا عميقًا قبل أن يهرع إليها ثم يضمها إليه حينما شعر بتيهها وبوادر فقدان لاتزانها، أسرعت "سكون" بالقبض على كفيها قبل أن تقول بلينٍ وبكاءٍ تتفهم إنكارها لِمَ قالته:
-وَميض، علشان خاطري استوعبي اللي بقوله؟؟ أنا أختك وأُمنا عايشة وموجودة وإنتِ لازم تسمعيها!!.. أنا مش عايزاكِ تعيشي في أوجاع ماضيكِ أكتر من كدا!!
انسكبت دموعها على وِجنتيها وهي تقول بصوت مُتحشرجٍ:
-ومين هي أمي؟؟ ويا ترى جهزت سبب مُقنع تقوله؟؟ جهزت سبب يخليني أسامحها على جريمتها في حقي وحق أخويا اللي عُمري ما شوفته؟؟ جهزت سبب يبرد قلبي ويداوي جروحي لمَّا حسيت باليُتم وفقدان الهوية علشان اللي ربوني مش أبويا وأمي، جهزت أيه تقوله ليا يخليني أسامح جبروتها وهي بترمي طفلة رضيعة للموت زيّ اللي بيرمي حتة لحمة لأسود برية جعانة!!!
تليد وهو يضم رأسها إلى صدره ويقول برجاءٍ وخوف شديدين من تبعات ما تمر به من صدمةٍ:
-علشان خاطري.. اهدي!!
أسرعت "سكون" بمحاصرة وجهها وهي تردد باستجداءٍ:
-وَميض.. أنا مش عايزة أخسرك تاني أبدًا.. عايزة كُل اللي جاي بينا يكون واضح وصريح.. اسمعيها على الأقل؟؟؟؟
صرخت "وَميض" باكيةً بمرارة:
-هي مين؟؟
كانت "نجلا" تقف خلف حائط باب الشقة تستمع إلى بكاء ابنتها الذي أضنى قلبها وسكب عليه من مرارةٍ الندم واللوعةٍ، أغمضت عينيها وسرت مرارة قاسية تجتاح حقلها وهي تتراجع للوراء تهبط درجات السلم في تراجعٍ، لم تكُن قادرةً على الوقوف أمام ابنتها بعد ما اقترفته في حقها وباتت المواجهة مستحيلة؛ فلم تستطع ولا تجرؤ على النظر داخل عينيها، انسكبت دموع "نجلا" التي أدركت ما كانت تتوقعه؛ بأن "وَميض" لن تغفر الجُرم المرتكب في حقها طوال عُمرها ولن تتقبلها في حياتها ولو عاشت نجلا عُمرًا بأكمله تترجاها أن تغفر لها.
وكيف تقف مصلوبةً القامة أمام صغيرتها وبِمَ ستُجيبها؟؟ كيف ستجرؤ على النظر داخل عينيها وهي قاتلتها؟؟ بِمَ ستُعزيها في أيام لم تُكن معها فيها؟؟ لقد جاء إلى عقلها كيف نظرت إليها تلك الصغيرة ببراءة قبل أن تُقبل وِجنتاها ثم تُلقيها داخل غياهب حاضر يقتلها ويقسم ظهرها ويحني قامتها.
ابتلعت "نجلا" ريقها بالكاد وهي تتراجع هبوطًا وهنا وجدت "سكون" تقف أمامها ثم ترجوها بنظرات ثابتة أن تأخذ هذه الخطوة قبل فوات الأوان، كانت تنظر "وَميض" صوب شقيقتها بعينين زائغتين افتقدتا للرؤية الواضحة حتى أن قواها قد خارت تمامًا بينما قبض "تليد" الذي استسلم للمواجهة على خصريها يعينها على البقاء واقفةً قبل أن تتحرك "نجلا" بخطوات مترددة وأنفاس متصاعدةً تصعد الدرج مرة أخرى ثم تظهر من خلف الحائط وتقف بعينين باكيتين أمامها، حدقت "وَميض" فيها مصدومةً وكان وقع رؤيتها صاعقًا ليُغشى عليها في الحال.
•تابع الفصل التالي "رواية رحماء بينهم" اضغط على اسم الرواية