رواية غناء الروح الفصل التاسع عشر 19 - بقلم زيزي محمد
لقد أضرمت نيران الغيرة داخله، ولم يهدأ حتى هذه اللحظة رغم مرور عدة ساعات على إهانته كالأبلة، وهو يراها تتم خطبتها على شخص غيره، تسارعت أنفاسه بجنون، وكأن الدنيا بأسرها تتحالف ضده لاستفزازه.
استمع إلى والدته التي كانت تجلس تراقب ثورانه وهياجه، وهو يتخبط هنا وهناك في أرجاء الشقة، بينما سهام أخته، كانت تتحرك خلفه محاولة تهدئته:
-ماشي يا حكمت، أنا تعملي فيا كده، أنا تديني الصابونة أنا وابني!
التفتت سهام إليها تقول بنبرة انفعالية يملؤها الغيظ:
-واقسم بالله يا ماما حكمت دي لو مربتيهاش، يبقى نتساهل كل اللي احنا فيه.
فركت كفيها في ساقيها وأنفاسها تخرج من فوهة بركانها الثائر وهي تردف بنبرة انتقامية:
-اقوم انزلها ارنها علقة، واديها قلمين في وسط المنطقة.
لم يستطع فايق الاحتمال والصمت فقال بنبرة متوعدة، غليظة وقاسية:
-والله ما أنا سايبها، وهتجوزها غصب عنها، أنا مايتقلش بيا أبدًا أبدًا، أنا اتهانت كرامتي يامااااا.
نهضت والدته، وهي تتوهج غضبًا وكرهًا، فبدت بوادر الانتقام تختلط بشراسة ملامحها لدرجة أنها قالت بنبرة مستنكرة ساخطة:
-ولا عاش ولا كان اللي يقل بكرامتك يا حبيبي، والله لمعرفاهم قيمتهم ولاد حسني في المنطقة كلها، استنوا عليا!!
****
دخلت "دهب" وهي تحمل كوبًا من عصير الليمون المثلج إلى غرفة "حكمت"، التي كانت جالسة فوق فراشها تقضم أظافرها بتوتر، وعيناها مثبتتان على نقطة ما في الفراغ، وعقلها يسبح في بحر الشرود، باحثًا عن مخرج من ظلمة أفعالها عندما يواجهها والدها بفعلتها الحمقاء!
لم تعرف كيف سقطت فاقدة الوعي بعد رؤيتها لوالدها، وعندما عادت إلى وعيها وجدت نفسها في غرفتها وابنتها بجانبها.
-بابا طلع فوق يا ماما يطمن على جدو.
قدمت لها دهب الكوب الذي أخذته "حكمت" سريعًا، وارتشفت منه القليل، ثم قالت بهدوء يتخلله بعض الارتباك:
-جدك فاق؟!
-ايوه، قولتلك جابوا دكتور وقال أنه كان ممكن يجيله جلطة بس الحمد لله ومنع عنه الانفعال، انتي يا ماما أيه اللي عملتيه ده؟؟
قالتها "دهب" بعتاب استفز والدتها كثيرًا حتى كادت أن توبخها، ولكن صوت "حودة" ابنها بالخارج، وهو يستقبل إخوتها ويدلهما على مكان وجود والدته، جعلها تضع الكوب بجانبها وتسقط برأسها على ظهر فراشها، ممتثلة للتعب والإرهاق، رفعت "دهب" أحد حاجبيها على والدتها التي تخشى تلك المواجهة!
اندفعت كلٌّ من "شاهندا" و"كريمة" و"فريال" إلى الداخل بوجوه شرسة وعيون تصرخ بالغضب، وفور دخولهن قالت "كريمة" بهجوم ناري:
-قومي يا أبلة، الدكتور قالنا إنك كويسة وزي الفل!
رفعت يدها تشير بإصبع السبابة بنفي، وصوتها يكاد يخرج من حلقها، بينما عيناها كانتا زائغتين مرهقتين:
-لا يا كريمة، أنا تعبانة خالص خالص.
عقدت "شاهندا" ذراعيها وهي تنظر لها باندهاش ساخر جلي على ملامحها:
-مالك يا أبلة، الف سلامة، طمنينا؟!
وضعت "حكمت" يدها فوق قلبها وهي تقول بوهن ونبرة استعطافية:
-قلبي يا بت يا شاهندا، هيقف، آه وصيتكوا ولادي ربوهم.
تقدمت "فريال" منها وهي تجلس على طرف الفراش، متصنعة التعاطف والحزن لحالتها:
-لا لا يا أبلة اوعي تسيبنا، احنا مانعرفش نعيش من غيرك، مين بس يجلطنا، ويفضحنا، وينكد علينا في أهم لحظات حياتنا!
لم تتحمل "حكمت" حديثها كثيرًا، فثارت بجنون وهي تشهق بصوت عالٍ ونبرة تخالف تلك الواهنة المرهقة التي كانت تتحدث بها:
-مين أيه يا اختي ؟! ماتعشيش الدور يا فريال، عشان ماجبش الشبشب واربيكي.
اقتربت الثلاثة منها وأصبحن قريبات جدًا، فابتعدت بجسدها للخلف وهي تنظر إليهن بملامحهن المحتقنة بالشر:
-أيوه بقى، اظهري على حقيقتك، وقوليلنا عملتي كده في سيرا ليه؟
قالتها "كريمة" بنبرة مغمورة بالغيظ، فردت "حكمت" باستنكار حذر:
-لمي لسانك يا كريمة أحسنلك، وأنا عملت أيه؟ أنا ماعملتش أي حاجة خالص!
رفعت "فريال" أحد حاجبيها باستنكار مماثل وهي تقول بسخرية:
-امال نسمي اللي عملتيه ده أيه؟! سسبنس ولا أيه بالظبط؟! ده أنتي كنتي قاصدة تبوظي فرحتها.
توسعت عينا حكمت بصدمة وهي تقول بنبرة معاتبة صادقة:
-أنا قاصدة أبوظ فرحة سيرا! اخص عليكوا يا اخواتي، هو أنا عدوتكوا!
وهبطت دمعتان من عينيها، فابتعدن قليلاً وهن ينظرن إلى بعضهن بتيه، ولكن الأسرع في الخروج من حالة التيبس تلك كانت "شاهندا"، التي قالت بضيق محتدم:
-امال اللي حصل فوق ده أيه؟!
-هو أيه اللي حصل؟!
رمشت بأهدابها في براءة زائفة لا تليق بملامح وجهها الحادة، والتي تميل للمكر والمصائب دومًا، فقلن الثلاثة بصوت واحد:
-أبلة!!!!
زمت شفتيها بضيق وهي تقول بصوت خافت، وكأنها تخشى أن يسمعها أحد، والاستعطاف يغزو صوتها كالمسجون الذي يرجو قاضيه للإفراج عنه:
-البت دهب بنتي الغلبانة دي، فوزية أم فايق ليها أخت مدرسة مع البت دهب في المدرسة فكنت طالبة منها توصي عليها وتغششها، فقولت في عقل بالي يا بت يا حكمت لو قولتي لفوزية الملوية إن بابا رفض ابنها هتزعل وتتقمص وتتلوي أكتر عليا والبت تسقط، فشغلت دماغي وقولت اسكت ومردش عليها وبعد ما سيرا يتقري فتحتها والبت تكون امتحنت بعد بكرة ابقى اقولها.
ظللن ينظرن إليها في صمت وكأنهن يستكشفن مدى صدقها، فقرأت في عيونهن عدم التصديق، رفعت إصبع السبابة تقسم بصدق على ما قالته:
-والله ده اللي كان في نيتي، بس في حاجة صغيرة قد كده تانية.
صمتت قليلاً قبل أن تقر باعترافها، فبدت كطفلة مشاكسة كثيرة المصائب وهي تسرد سرها الثاني:
-يعني كنت داخلة في جمعية معها وهاخد الاسم الاول بعد بكرة كنت عايزة اخده واضمن الاسم وبعد كده ابقى اقولها بس ده سبب مش مهم خالص، البت دهب الاهم.
لوت "فريال" شفتيها بسخرية وهي تقول بسخط:
-اقطع دراعي إن ما كان ده السبب الاهم، يا أبلة حرام عليكي هو انتي ناقصك جمعيات ولا فلوس، وبعدين ما تسقط دهب ولا تتزفت معلش يعني يا دهب.
التفتت إلى "دهب" تلقي بفظاظتها في وجهها، فوضعت الأخرى كفها فوق صدرها وهي تبتسم بتهكم:
-لا عادي يا خالتو خدي راحتك.
ثم التفتت "فريال" تستكمل في نزق:
-يا أبلة ده بابا ضغطه ارتفع وكان هيجراله حاجة من كسفته قدام أهل عريس سيرا وقدام عريسها نفسه ومستحملش واغمى عليه.
-أنتي فاكرة إني مش حاسة، أنا بجد بجد متضايقة المرة دي اوي من نفسي.
قالتها حكمت بانزعاج، حتى قطعت كلامها وهي تسأل بفضول:
-هو انتوا قولتوا أيه لأهل يزن؟!
-مقولناش حاجة، لما حصل اللي حصل اتلبخنا فيكوا وأبيه صافي اخد طنط فوزية وعيالها برة وفهمهم الوضع ومشاهم، ولما بابا فاق وبقى كويس أهل يزن مشيوا من غير مايفهموا في أيه، وشكل سيرا الغلبانة هي اللي هتدبس وتفهم يزن.
أخبرتها "شاهندا" بما حدث في استياء ظهر في نظراتها الموجهة إليها باتهام شرس.
انتفضن جميعًا عندما سمعن طرقًا عاليًا على الباب، وكأن باب الشقة سيكسر في يد الطارق، كانت "حكمت" أول مَن تحركت سريعًا لتوبخ الطارق، وما إن رأت "فوزية" والدة "فايق"، تقف أمامها وملامحها تنذر بشر، متخصرة ومتخذة وضعية الهجوم، حتى تسرب إلى "حكمت" نفحة من الانفعال، وقالت بصوت شرس:
-جرى أيه يا فوزية، ما تكسري باب الشقة علينا أحسن!
مررت فوزية بصرها من أعلاها لأسفلها وهي تتهكم بصوتها المرتفع:
-ما أنتي قردة اهو امال لما شوفتينا وقعتي ليه يا حكمت....
لم تترك حكمت للأخرى مجالًا للكلام وبترت حديثها، بقولها الذي كان يتدفق كالسيل، وكلماتها تتشابك بتوتر لا يُخطئه أحد:
-شوفت عزرائيل ياختي، ما أنا لازم لما اشوفك اطب ساكتة، دخلتك دخلة الهباب والزفت على دماغك.
رفعت فوزية أحد حاجبيها بعدم تصديق وهي تصيح باستنكار لاذع:
-ماكنش ده لسانك معايا يا حكمت مصلحة، اتغيرتي لما جه عريس لاختك غني يا اختي، فرحانين بعربيته!!
تشدقت "حكمت" ساخرة وهي تنظر لها متعمدة إهانتها:
-هو عنده عربية بس، ده عنده اسطول عربيات، واه ياختي فرحانين.
تدخلت "كريمة" لتهدئة الوضع وخاصة أن أصواتهما كانت عالية جدًا لدرجة أن باب شقة والدها صدر عنه صوت وبدأت أصوات أقدامهم بالأعلى تهرول على الدرج:
-اهدي يا طنط فوزية، هو حصل سوء تفاهم بس، وأكيد أبلة حكمت مكنش قصدها.
-لا يا اختي بعد أيه، بعد ما كسرتوا بنفس ابني، يا عالم يا ناقصة!!
كانت عبارتها لاذعة وكأنها أعيرة نارية تقذف من فمها السليط، وعندما رأت "حكمت" سيرا تقف بالأعلى هي ووالدتها وباقي أفراد العائلة شعرت بتأنيب ضمير وخاصة عندما لمحت عبرات الحزن والحسرة تتجسد في عيني سيرا.
فلم تشعر بنفسها وهي تحول انفعالها الداخلي كله في وجه فوزية التي تلقت جمل نارية تحمل في طياتها سخرية جارح:
-معلش يا اختي قوليلي هنراضيه ونجبله عروسة لعبة.
شهقت "فوزية" بقوة وهي تتخصر وتصيح بأعلى نبرة لديها:
-بتتريقي يا حكمت، ده أنا ابني زينة الرجالة يا حلووووة، هو كان راضي باختك، دي مكنتش عاجباه وأنا اللي اتحايلت عليه لغاية ما رضي.
-ده مين ده اللي مش راضي باختي، انتي هتتهبلي يا ولية، ابنك اللي بيشرب الخمرة مش راضي باختي أناااا عشنا وشفنااااا....
احتجت فوزية على قولها بثوران قوي:
-أنا ابني بيشرب أيه؟! ده أنا ابني مابيحطش السيجارة في بوقه يا حكمت!
-هيحطها ليه وهو بيشرب خمرة، ما الخمرة لامؤاخذة مكيفاه، ما تقوليلها يا سيرا، رفضتيه ليه، عشان ياختي سمعة ابنك اللي مش ولابد!
تبادلت الاثنتان الكلمات القاسية، حتى باتت عباراتهما أشبه بسكاكين حادة تخترق الهواء، وعندما ذكرت حكمت اسمها وأشارت إليها للتحدث، وضعت سيرا يدها فوق وجهها بعدم رضا من تصرفات أختها المتهورة.
صعدت لأعلى تاركة الشجار اللفظي الذي تحول إلى شجار بالأيدي، وانتهى سريعًا بسبب تدخل أفراد العائلة من الرجال والنساء حتى هبط "حسني" بمساعدة صافي وقال بصوت رخيم إلى فوزية التي أمسكتها كريمة بقوة:
-أنا بعتذرلك يا حاجة فوزية عن اللي حصل، وأنا بنتي هعرف اتصرف معاها، هو حصل سوء تفاهم، واحنا جيران وأهل ومش حاجة زي دي اللي هتوقعنا في مشاكل.
لم تتقبل "فوزية" حديثه ودفعت كريمة بعيدًا عنها، وهي تقول بنبرة ساخطة تحمل كرة وحقد مخيف:
-لا يا حسني أحنا ولا جيران ولا أهل، حسبي الله ونعم الوكيل فيكوا عشان بناتك يطلعوا كلام على ابني عشان يبرروا انتوا ليه وافقتوا على العريس الغني، بس يا حبيبي مش كل حاجة الفلوس، بكرة يصبح بنتك بعلقة ويمسيها بعلقة يا ناس ميملاش عينها غير التراب!
حاولت "حكمت" الابتعاد عن قبضتي شاهندا وفريال وهي تقول بانفعال:
-سيبوني عليها الولية القرشانة دي أكلها بلساني.
غادرت "فوزية" بعد أن القت ما في جعبتها، بينما التفت حسني إلى حكمت قائلاً بصوت جهور:
-أنا مش مسامحك على اللي عملتيه فينا، ولسانك مايخاطبش لساني.
مد يده إلى "طارق" زوج كريمة الذي ساعده سريعًا في الصعود، وتسلل الجميع من حولها فنظرت إلى صافي تقول بنبرة شبه باكية:
-صافي....
أشاح بيده في وجهها وهتف بنبرة يغمرها اللا مبالاة منها:
-يا شيخة هو انتي خليتي فيها صافي، روحي نامي.
وقفت "حكمت" وحدها بعدما فر الجميع من حولها، وصدى صوت والدها وهو يلقي بكلامه، يتردد في عقلها كضجيج لا يهدأ، فكان أثره قاسيًا عليها، مخترقًا صميم قلبها، لامت نفسها على ما فعلته، متمنية أن يعود بها الزمن لتستمع لرأي والدها منذ البداية.
تنهدت بقوة وهي تفكر بحزن، لم تكن بحاجة لعقاب والدها، فقد كان تأنيب ضميرها كافيًا لتشعر وكأنها تغرق في بحر من الندم.
****
دخلت "سيرا" غرفتها وهي تبكي في صمت على فساد ليلتها، نظرت إلى ساعتها متمنية أن يمر هذا اليوم الثقيل بكل ما يحمله من خيبات ستظل راسخة في عقلها طيلة حياتها.
كم كانت تتمنى أن تُخلد هذه الليلة في ذاكرتها بلحظات معبقة بالسعادة والبهجة، إلا أن رياح القدر عصفت بأمانيها، لن تنسى أبدًا نظرات عائلة يزن الممتلئة بالشك حتى آخرها، والتي حفرت في عقلها ذكرى سوداء لن تُمحى.
أمسكت هاتفها وقررت أن تجري اتصالًا به لتخبره بكل ما حدث، إلا أنها ترددت وشعرت بخزي شديد بسبب الموقف الذي وضعتها فيه تصرفات أبلة حكمت الحمقاء!
ألقت الهاتف جانبًا وأغلقت عينيها، آملة أن تحظى بلحظات من السلام تهدئ بها ذاتها المنهارة، كي تتحلى بالقوة عندما تحادثه، لكن القدر أبى أن يمنحها مرادها، إذ ارتفع رنين هاتفها فجأة، ووجدت اسمه يتلألأ وسط الشاشة، ابتلعت لعابها بصعوبة وهي تعتدل في جلستها لتجيب، لكن صوتها خرج مهزوزًا للغاية، وكانت متأكدة أنه التقط ذلك سريعًا، وحتمًا ارتسمت على شفتيه ابتسامة جانبية ساخرة:
-ألو.
-بابكي عامل أيه دلوقتي؟
سؤال بسيط، لكنه يحمل في باطنه الكثير من الأسئلة الأخرى التي تدور حول مهزلة تلك الليلة، فأجابت بإيجاز:
-الحمد لله كويس.
مرت بينهما دقائق من الصمت، هي لم تُجدِ اختيار الكلمات التي ستبدأ بها حديثها، وهو بالتأكيد يتلاعب بأعصابها بصمته الذي أثار الريبة داخلها، فقالت بتوتر بالغ:
-على فكرة أنا كنت هتصل بيك دلوقتي عشان اوضحلك اللي حصل.
-لو مش عايزة تحكي دلوقتي عادي.
لم تتوقع رده الذي أثلج نيران توترها، فزفرت بهدوء وكأنها تطلق أنفاسها المرتبكة خارجها، ثم قالت بصوت ناعم حمل طيفًا من الحزن الذي افتطنه سريعًا:
-اللي جم دول يبقوا جيرانا وكانوا طالبين ايدي لفايق ابنهم وكلموا أبلة حكمت تقول لبابا بس بابا رفض الموضوع وقال لأبلة حكمت تبلغهم برفضه، بس...
صمتت لثوانٍ تأخذ أنفاسًا باردة تستكمل بها حديثها:
-بس أبلة تقريبا نسيت ومبلغتهمش، وتقريبا كانت متفقة معاهم يجوا النهاردة وحصل اللي حصل.
مرت دقيقة كاملة دون أن يعقب على حديثها، فانقبض ما بين حاجبيها بعدم فهم، حتى استمعت إلى صوته وهو يضحك، ثم عقّب:
-أبلة حكمت دي ملهاش حل.
-يزن.
قالتها بنعومة فائقة، لدرجة أنه رد سريعًا بنبرة غلفها الاهتمام والإعجاب:
-نعم؟
همست بصوت مغمور بالإحراج والحزن:
-أنا محرجة جدًا من اللي حصل ومكنتش اتمنى إن يوم ما العيلتين يتعرفوا يبقى بالشكل ده.
-عادي ماتتحرجيش، محصلش حاجة لكل ده، وبعدين أنا هفهمهم اللي حصل.
-شكرًا.
قالتها بابتسامة وهي تزيح همًا ثقيلًا عن قلبها بسبب تفهمه للوضع، لكنها سرعان ما استشاطت انزعاجًا عندما سمعته يقول:
-وبعدين ماتخفيش اوي كده، مش هسيبك، هكون رؤوف بيكي واكمل الخطوبة.
اندثرت نبرتها الناعمة بين طيات الاستنكار وهي تقول:
-أنا مش خايفة على فكرة، ومايهمنيش، في فرق بين الاحراج والخوف.
ترددت ضحكته الساخرة مجددًا في أذنها، ثم عقّب بصوت مشاكس:
-طيب عيني في عينك كده؟ يا بنتي أنا عارف إن أنا عريس لقطة.
للحظات، تناست مهزلة الليلة، واندمجت معه في مشاكسته بتهكمها القوي:
-يا سلام!! مغرور اوي، أنا عايزة اعرف شايف نفسك ليه؟!
حمحم بصوت قوي ليجذب انتباهها بالكامل، ثم واجهها بجرأة لم تتوقعها منه وهو يقول:
-يمكن عشان شوفت فرحتك النهاردة بيا لما جيت وخطبتك.
ردت سريعًا بتهور وهجوم وكأنها تبعد تهمة عنها:
-محصلش أنا مكنتش فرحانة خالص.
أصر على كشف خباياها بقوله الماكر:
-والضحكة الي كانت من الودن دي للودن دي أيه؟!
رفعت أحد حاجبيها بضيق طفيف منه، لكنها سرعان ما سخرت بنبرة شبه حادة مقصودة:
-جرافيك، أكيد يعني تهيؤات، ده أنا كنت مبوزة واقول يا رب الليلة تعدي بسرعة.
تعالت ضحكاته المستفزة، وهو يحاصرها مجددًا بين جدران إعجابه بها، ليجعلها تعترف بما يتمناه كثيرًا، فقط ليؤكد لنفسه أنهن جميعًا واحد، لا فرق بينهن:
-اه كان نفسك أهلي يمشوا، عشان اقعد معاكي يا لئيمة، بس يا حرام بقى جه العريس...اسمه أيه؟!
أجابت باسمه بدلال متعمد ونعومة ماكرة تسللت إلى نبرتها، فأعطتها صدى مميزًا جدًا:
-فايق.
تجاهل تحول نبرتها المفاجئ، واستكمل مشاكسته لها:
-اه فايق جه بوظلك الليلة.
تعمدت أن تطلق تنهيدة صغيرة، وقد مال صوتها للحزن وهي تخبره، فحمدت الله كثيرًا أن هذه مجرد محادثة هاتفية، فلو كان أمامها، لقرأ تعابير وجهها المتلاعبة، واكتشف حماقتها:
-طب انت عارف أنا فايق صعبان عليا اوي.
تطايرت نبرته المشاكسة في مهب رياح خشنة مستنكرة، وهو يردد سريعًا:
-نعم؟!
لمست التغيير الذي طرأ عليه لمجرد أنها نجحت بالفعل في إثارة نزعة الرجل الشرقي داخله، فاستكملت برقة حزينة:
-اه بتكلم جد، يعني لما يشوفني وأنا بتخطب لغيره أكيد هيزعل.
لمعت سخريته الغليظة وهو يقول:
-مش عايزة نجيبله ورد ونقدم له اعتذار.
-لا أنا هبقى اكلمه وافهمه الموضوع، هو يستحق كده.
أغلق الاتصال في وجهها كرد بسيط على حماقتها المتعمدة، وفور ذلك، نظرت إلى الهاتف باندهاش من وقاحته في التعامل معها، رغم أنها كانت تمازحه ليس إلا، رمشت عدة مرات بعدم استيعاب، ثم تمتمت بذهول:
-ده قفل في وشي، قفل في وشي، طيب والله ما أنا معبراه.
****
أغلق يزن الاتصال في وجهها، مستمتعًا بمشاكستها بطريقته هو، وليس بتلك الحماقة التي تصر على إثارة غيرته، كونه رجلًا شرقيًا لا يسمح بتلك المهازل في الحديث!
فرك خصلات شعره وهو يقرر الذهاب إلى سليم للتحدث معه بشأن الورطة التي افتعلها عن عمد، متعمدًا الإخلال باتفاقهما بكل جرأة، مما استفزه كثيرًا، ولكن ما إن حرك باب غرفته حتى اختل توازن كلٍّ من شمس ومليكة للأمام بقوة، فتراجع للخلف بصدمة وهو يحاول استيعاب وجودهما:
-إيه ده! بسم الله الرحمن الرحيم! يا جماعة، بلاش تخضوني كده، أنا راجل على باب الله، أقسم بالله، يعني في ثانية هتلاقوني واقع منكم في الأرض بفرفر!
اعتدلتا في وقفتهما وظلتا صامتتين، تنظران إليه بحرج شديد، وعيون متسعة مليئة بالفضول، فقال بشك:
-إيه؟! انتوا ساكتين كده ليه؟! انتوا عفاريت؟!
تساءل بسخرية حذرة، حتى قطعت مليكة حبل صمتها بقوة وهي تردد متهكمة:
-يزن، الشقة أثرت عليك خالص!
رمقها بسخرية مماثلة وهو يردد بحماقة:
-أصلًا إنتي وجوزك عايشين وبتتعايشوا إزاي؟! أقطع دراعي من هنا إن ما كنتوا ولاد خالة العفاريت اللي هناك!
تدخلت شمس أخيرًا في الحوار، وهي تندفع بفضول:
-سيبك من السيرة دي، وقولنا الأهم كلمت العروسة؟!
ضيق عينيه وهو يشير بإصبعه السبابة في وجهها، قائلًا بتهكم طفيف:
-شامم ريحة فضول يا أم أنس، بس للأسف، لا!
اندفعت مليكة دون تريث، وهي تقول بضيق:
-إيه ده! بطل كذب! إحنا سامعينك وإنت بتكلمها!
اتسعت عيناه بصدمة امتثلها ببراعة، ثم تساءل مستنكرًا:
-إنتوا كنتوا بتلمعوا الأوكر؟!
هزت رأسها سريعًا نافية التهمة عنهما بنبرة متوترة سيطرت على أدائها وهي تحاول إقناعه:
-لا والله! أبدًا!.
لكزتها شمس وهي تكز على أسنانها بغيظ محتدم:
-لا والله إيه؟! ما إنتي اعترفتي مع أول قلم! إنتي مرات ظابط إنتي؟!
قهقه يزن ببساطة وهو يقول باستهزاء:
-لا، ما هو زيدان مش ظابط الأداء معاها!
اصطنعت شمس الضحك، ثم قالت بفضول نسج خيوطه بكافة تفاصيلها:
-هاهاها! مضطرين نضحك! هااا... قولنا بقى اللي حصل هناك! سيرا قالت لك إيه؟!"
انكمشت ملامحه وهو يتساءل بتهكم، بينما كانت عيناه موجهتين إلى مليكة، التي سرعان ما انبثقت إمارات الاستنكار على وجهها:
-من إمتى وإنتي فضولية كده يا شمس؟!
رمشت مليكة ببراءة وهي تحاول استيعاب حديث يزن المبطن، حتى قالت بنبرة مندفعة، محاولة تبرئة نفسها:
-والله أنا كنت قاعدة في حالي، قالتلي تعالي نقوم نطمن على يزن!
مال جانب ثغره بابتسامة ساخرة وهو يقول:
-فيكوا الخير!
عقدت شمس ذراعيها أمامها، وعادت إلى نفس سؤالها، ولكن هذه المرة بنبرة تحمل غموضًا خاصًا:
-يعني مش هتقولنا في إيه؟!
التزم الصمت أمام نظراتهما، ولم يفصح عن تعابير وجهه التي كانت مبهمة، لكن نبع جزء خاص بالاستمتاع وهو يتسلى بفضولهما الأحمق:
-خلاص، براحتك! وأنا مش هقولك سليم قرر يعمل إيه بعد اللي حصل ده!
انعقد حاجباه وهو يتساءل بعدم تصديق:
-إيه؟! هيفركش؟!
وضعت أسس الجدية في تعابيرها التي بدت صارمة وتحوي شيئًا بالفعل قد حدث، فقالت:
-قول الأول!
تنهد باستسلام وهو يخبرهما بتيه ملحوظ، محاولًا تذكر كلمات مهرته التي كانت تتغنى بحزنها على ذلك العريس المرفوض:
-مفيش! الحكاية كلها لعبكة! يعني ده جارهم وعايز يخطبها، ولما لقاني اتصدم! والسبب أبلة حكمت..."
قاطعته مليكة وهي توجه كلماتها إلى شمس بضيق:
-مش أنا قلتلك يا شمس؟! أكيد الست دي السبب هي أصلًا باين عليها قرشانة!
مطت شمس شفتيها، وأكدت برأسها على حديثها، ثم قالت بحماس حاولت تحجيمه:
-كمل يا يزن!
تنهد يزن، وعاد إلى الحكاية التي سردتها له سيرا، وما إن انتهى حتى قال بحذر وشك:
-ها! سليم ناوي على إيه؟!
هزت كتفيها بلا مبالاة، ونبرتها تتلاعب به كمثل ملامحها التي أفصحت عن مشاكستها:
-مفيش حاجة! كنت بضحك عليك! قالي روحي اسألي يزن باباها عامل إيه دلوقتي بس!
اتسعت عيناه دهشة، وعبر بصوت ساخر:
-والله؟! هي بقت كده؟!
عقبت مليكة سريعًا بابتسامة انتصار وهي تجذب شمس خلفها:
ألف مبروك يا يزن! عقبال فرحك، هتبسطلك أوي!
رفع أحد حاجبيه وهو يردد بغيظ متهكم خلفهما، إلا أن الاثنتين تجاهلتاه وفرتا هاربتين منه:
-ليه؟! كنت باير يا مليكة؟!
ظهر زيدان بجسده العريض وطوله الذي يقلّ قليلًا عن يزن، فأوقفه قائلًا باستفهام:
-إيه؟ خد خد ماشي بتزعّق ليه كده؟!
زفر بضيق وهو يبحث بعينيه في الصالة عن سليم:
-يا عم! ولا بزعق ولا نيلة! فين سليم أخوك؟!
أجاب زيدان بفضول وقد أدرك نية يزن المتهورة في معاتبة سليم الذي لا يُعاتب أبدًا من أجل سلامة الجميع:
-فوق، ليه؟!
انبثقت الكلمات من فم يزن بتهور وغيظ:
-أنا متفق معاه على حاجة، رايح يخلف ويقولهم ٥ شهور ليه؟!
التزم زيدان الصمت أثناء استرسال يزن لسبب غضبه، وفور انتهائه قال زيدان بهدوء رزين ونظرة ماكرة توجس منها يزن:
-وانت رايح تتخانق معاه؟! ده مش بعيد يجوزهالك بكرة لو عاندت! بطل جنان وخليك لعيب! هو يجيلك كده، تعالى أنت كده! هو يظبط حاجة للجواز، أنت تفركشها!
عبر يزن عن توجسه من مكر زيدان الذي لا نهاية له:
-مش عارف بس مش مطمنلك! الطيبة الزايدة دي مقلقاني!
ابتسم بحماقة وهو يقول بنبرة خافتة جعلت رأس يزن يدنو إليه، فبدا وكأنهما يتآمران على أحد:
-أنت المفروض تقلق من حاجة واحدة بس!
صمت يزن، وظهر القلق في عينيه، حتى أفصح زيدان عن اعتقاده ورؤيته الثاقبة لعائلة سيرا:
-الولية اللي اسمها حكمت دي! خد بالك منها! مش سهلة! أنا حاسس لو جوازتك ما نفعتش من أختها، هتتجوزك هي!"
ربّت يزن على كتفه وهو يقول بنبرة باردة، وبدا غير مقتنع بحديثه عن حكمت، فمن وجهة نظره، الشخص الذي يستحق القلق من شخصيته هو سيرا، التي تبدو غير واضحة بالمرة، أما الاقتناع الآخر، فقد نبع من نصائح زيدان حول كيفية التعامل مع سليم، خاصة أنه يشعر بعناد أخيه الأكبر، وكأن تلك الخطبة أصبحت حربًا، والفوز فيها هو النجاة منها.
لذلك، هدأ نفسه قليلًا، وقرر ألا يتعامل بتهور مع سليم، الذي لا ينبغي التعامل معه بحماقة، بل يجب عليه التروي والتصرف بذكاء للخروج من المصائد التي نصبها له، وكأن يزن المسكين عالق وسط فخ محكم!
*****
في اليوم التالي..
غادرت سيرا من منزلها وتجاهلت عن عمد وجود أبلة حكمت أمام باب شقتها، فهي لن تغفر لها تلك الفضائح والتي لن تكف والدة فايق على نثرها هنا وهناك!
وكان التجاهل الثاني من نصيب فايق نفسه، حيث رأته يقف مستندًا على إحدى السيارات القديمة في المنطقة، مصوبًا بصره على باب منزلهما، ورغم أنها ارتعشت من الغل المرسوم على وجهه، إلا أنها قررت تجاهله، معتقدة بأن لن يستطع أن يفعل لها شيء!
ولكن عندما خطت بخطوات سريعة نحو الشارع الرئيسي وجدته يهم خلفها، لذا أسرعت وقد ساعدها جسدها الرياضي في الفرار منه، استقلت "الأتوبيس" الكبير وهو الطريقة التي تحبذها للوصول إلى مقر عملها.
وبعد مرور عدة دقائق..قد وصلت بالفعل للشارع المؤدي إلى عملها والذي يقع في آخره البرج الذي تعمل فيه، وأيضًا معرض يزن، وهنا انشقت ابتسامة كبيرة على وجهها ورأت الحلقة الذهبية في إصبعها، متعجبة من تدابير القدر، فبين ليلة وضحاها أصبحت خطيبته.
وقبل أن تصل إلى البرج وجدت من يتعمد إيقافها وذلك عندما قبض فوق كتفها، فالتفتت سريعًا وبحقيبتها وضربته في وجهه، فاندفع فايق للخلف خطوتان، ثم قال بغضب:
-إيه الغشامة دي؟
رفعت أحد حاجبيها مستهجنة منه وهي تردد بصوت خشن لا يناسب رقتها المعتادة:
-أنا ممكن كمان أديك بالجزمة لو فكرت تعمل الحركة دي تاني.
ابتسم ساخرًا وهو يشملها من أعلاها لأسفلها، فقال بوقاحة وقد اختلف وجهه كليًا عما كانت معتادة عليه:
-ده الحلوة ليها لسان وده من امتى من وقتي لما اتخطبتي للواد النياتي ده.
شهقت بسخرية وهو تشير إليه بتحذير قاسٍ:
-ده مين ده اللي نياتي يا تونكيز انت، ده باشا ابن باشا، انت مش شايف عضلاته، ده لو اتكلم بس يطيرك من مكانك.
-يطيرني ليه سوبر هيرو وأنا معرفش.
-بص أنا مهما اتكلم عنه، أنت مش هتقدر تفهم، لأن حجم عقلك يا فايق اللي الخمرة لحسته، مايستوعبش ناس نضيقة.
-انتي بتقولي إيه يا بنت الـ *****، يا بنت الـ*****، يا *******.
وأمسكها من مرفيقها محاولاً التعدي عليها بالضرب لكن....
****
قبل قليل...
تمم يزن تفقد السيارات الجديدة في معرضه مع موظفيه، وكان منهمكًا جدًا في إملاء مواصفاتها عليهم، أو ربما يتظاهر بذلك، كي لا ينتبه إلى لحظة وصولها، شاعرًا ببعض التخبط في مشاعره، فهناك جزء منه يدفعه إلى التوقف وانتظارها ليتحدث معها في أي شيء متبعًا شرارة الفضول للتعرف على شخصيتها التي لا تزال غير واضحة له، بينما يدعوه جزء آخر إلى التريث والتجاهل بعدما أدرك مؤخرًا خطورة تلك المهرة الجامحة على كيانه!
ولكن فجأة، لفت نظره تسلل أحد الموظفين إلى الخارج ومتابعة شيء ما باهتمام، فوقف خلفه يهمس إليه وكأنه ضبطه متلبسًا:
-واقف كده ليه يا حلو وسايب الشغل؟
التفت إليه الموظف محرجًا وهو يجيب:
-أصل في خناقة دايرة هناك بين البنت الكابتن بتاعة الجيم وواحد غريب عن المنطقة.
سرت انتفاضة قوية في جسده وهو ينظر إلى الاتجاه ذاته، وما أن رآها تتشاجر مع شخص لم يتبين ملامحه بعد وذلك لإنها كانت تنهال عليه ضربًا بحقيبتها، حتى ثار عقله بجنون عندما رأى ذلك الوقح يحاول لمس والامساك بها.
دفع الموظف من أمامه، وركض بأقصى سرعته في ظل وقوف المارة الذين اكتفوا بالمشاهدة فقط، وكأن الشهامة قد بُترت من جذورها لديهم!!
وما إن وصل إليها حتى أمسكها من كتفيها بإحكام، فاستدارت إليه وعيناها مغرورقتان بالدموع وعلامة صفعة قوية مرتسمة على وجهها!
لم يدعِ يزن البطولة يومًا، ولكن عندما رأى بكاءها، ويد ذلك الوقح الآثمة تمس كرامتها، حينها سيدعي البطولة وسيكون درعها وسيفها، فمنذ اللحظة التي وضع خاتمه في إصبعها أصبحت كرامتها خطًا أحمر لا يسمح بتجاوزه.
فنظر إليها نظرة كانت كفيلة بإخبارها بأمر هام جعلها تتنحي جانبًا، فلم تكن نظرته نابعة من شهامته فحسب، بل من كونها أصبحت حياته، وذلك سبب كافٍ ليجعله حصنها الأول والأخير!.
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية غناء الروح) اسم الرواية