رواية قيود العشق (2) الفصل السابع 7 - بقلم سيليا البحيري
صعد زين إلى الطابق العلوي بخطوات ثقيلة، وهو يشعر بثقل الذكريات يضغط على صدره. فتح باب غرفة والده ببطء، وكأنها ما زالت تحمل رائحته ودفء وجوده. النور الخافت المنبعث من مصباح الطاولة كان يلقي بظلال خافتة على الجدران، ليعيد إحياء مشاهد قديمة من ذاكرته.
توجه زين نحو الخزانة الخشبية القديمة، فتح أحد الأدراج بيدين ترتجفان، وأخرج ألبوم الصور الأسود. جلس على طرف السرير، فتح الألبوم ببطء، وعينيه بدأت تلتهم الصور.
كانت أول صورة له مع والده في حديقة المنزل، زين طفل صغير، يضحك بينما والده يحمله على كتفيه. عادت ضحكته إلى أذنيه وكأنها تسخر من الحاضر. قلب الصفحة، فوجد صورة أخرى لهما وهما يلعبان كرة القدم. والده كان يبتسم بفخر وكأنه يرى فيه امتداداً لحياته.
زين (بصوت مبحوح مليء بالشجن):
"يا ترى... كنت فخور بيا وقتها؟ كنت بتشوفني إزاي؟ كنت بتخطط لمستقبلنا إزاي؟"
مرر أصابعه برفق على وجه والده في الصورة، وكأن اللمس قد يعيده للحياة. كانت الصور التالية تحمل ذكريات يوم ميلاده العاشر، والده يضع له القبعة الورقية على رأسه ويطفئان الشموع معاً.
توقف عند صورة أخرى. نفس الملابس التي كان والده يرتديها في اليوم الأخير. الصورة التي التقطت صباح اليوم الذي تغير فيه كل شيء. دمعت عيناه، وكأن جسده لم يتحمل طوفان المشاعر الذي أغرقه.
زين (بصوت خافت يتخلله البكاء):
"ليه؟ ليه كل حاجة انتهت بالشكل ده؟ ليه كنت لازم أشوفك تنهار قدامي؟... ما كنتش أقدر أعمل حاجة. كنت طفل صغير... ما كنتش أعرف إني هشوفك... تموت."
أسند رأسه إلى الألبوم، وأغمض عينيه، بينما تملأ الغرفة سكوناً مشوباً بالألم.
تذكر اللحظة التي رأى فيها والده يضع يده على صدره ويسقط أرضاً، صرخاته وهو يحاول أن يوقظه، ووجه والدته الذي لم يحمل سوى الصدمة الزائفة. صوت الإسعاف وهو يأخذ والده بعيداً... للأبد.
زين (بغضب مكبوت وهو يشد يده على الألبوم):
"كانت السبب... هي اللي قتلتك. كل حاجة بسببها."
قلب الصفحة الأخيرة من الألبوم، ليجد صورة قديمة تجمع والده ووالدته قبل أن يتغير كل شيء. لم يستطع أن يزيل وجهها من الصورة، لكن بدا وكأنه يحاول إزالتها من ذاكرته.
أغلق الألبوم بعنف، ووضعه على الطاولة بجانب السرير. وقف أمام النافذة المطلة على الحديقة، وأشعل سيجارة، في محاولة يائسة لإخماد الألم الذي يشتعل في صدره.
زين (بصوت حاسم، وكأنه يخاطب نفسه):
"لازم أتحرر من ده كله. ما ينفعش أفضل محبوس في الماضي ده. أنت كنت تستحق حياة أحسن... وأنا لازم أعيشها علشانك."
نظر إلى السماء، وكأنها تحمل روح والده، ثم خرج من الغرفة، حاملاً في داخله وعداً صامتاً بأنه لن يسمح لأي أحد، بما في ذلك والدته، أن يعكر ذكريات والده أو يقترب منها مجدداً.
نزل زين من على السلم بخطوات تقيلة، بس المرة دي كان كل حاجة جواه زي بركان على وشك الانفجار. عينيه مليانة غضب وحقد، وملامح وشه جامدة زي الحجر. لما وصل للصالة، لقاها لسه قاعدة في مكانها، حواليها هدوء مصطنع كأنها بتحاول تبان قوية بعد كلامه.
وقف زين عند آخر السلم، وبص لها بنظرة كلها قرف، وكأنه شايف قدامه السبب في كل حاجة دمرت حياته.
زين (بصوت واطي لكنه مليان احتقار):
"إنتِ قاعدة هنا... مستنية إيه؟ مستنية أعملك كإنك أمي؟ ولا مستنية أصدق الندم اللي بتمثليه ده؟"
ثم أكمل قائلا بسخرية مريرة
زين" اه ، نسيت ،انتي أصلا ملكة التمثيل و ****** يا هناء هانم"
هناء (رفعت رأسها ليه، وعينيها مليانة دموع):
"أنا مش قادرة أرجّع اللي فات، يا زين. كل اللي أقدر أعمله إنّي أطلب منك تسامحني."
زين (ضحك بسخرية مُرة وهو بيقرب منها بخطوات بطيئة):
"تسامحك؟ أسامحك على إيه؟ على إنك خنتي الراجل اللي كان بيشيلك فوق راسه؟ ولا على إنك دمرتي حياته قدامي؟"
هناء (بصوت مهزوز):
"كنت صغيرة .... ضعيفة... غلطت. بس ده مش معناه إنّي..."
زين (مقاطعاً بحدة):
"مش معناه إيه؟ مش معناه إنك خاينة؟ إنك... ****؟ آه، ****! ما تخجليش من الكلمة. عارفة إيه الأصعب؟ إن العاهر**ة العادية على الأقل ما بتهدش بيتها. لكن إنتِ، إنتِ هدمتي بيتنا... هدمتي حياة أبويا... وحياتي أنا كمان."
هناء (انهارت بالبكاء وهي بتحاول تقرب منه):
"زين... أنا أمك. حتى لو غلطت، أنا أمك!"
زين (ابتعد عنها بخطوة، وكأن قربها بيئذيه):
"إنتِ ما تستحقيش تكوني أمي. أمي كانت ست تانية... كانت ست بتحبنا وبتحترمنا. إنتِ مجرد واحدة أنانية ما فكرتيش غير في نفسك. أبويا مات بسببك، وأنا اتحولت لشخص ما بيعرفش يحب ولا يثق في حد... بسببك. كل كلمة بتقوليها، كل دمعة بتنزل منك، مش هتغير أي حاجة."
هناء (بوجع كبير):
"أنا ندمانة... والله ندمانة!"
زين (بص لها نظرة أخيرة مليانة قرف واشمئزاز):
"ندمك ده جه متأخر. كنتِ لازم تندمي يوم ما قررتي تخونيه. دلوقتي... كل اللي أقدر أشوفه فيكِ هو الخيانة. عايزة مني تسامح؟ انسِ، ده مش هيحصل. عمرك ما هتاخديه."
استدار زين ناحية الباب، فتحه وخرج على الجنينة، وسبها في الصالة لوحدها غرقانة في دموعها، وسط ذكرياتها وأخطائها اللي عمرها ما هتعرف تهرب منها.
***********************
في البار ، المكان مليان بالأضواء الملونة وأصوات الموسيقى العالية. الضحك داير حوالين الطاولات، وصوت الكوبايات وهي بتخبط في بعضها واضح. جاد قاعد على ترابيزة ، في إيده كوباية مشروب، متكاسل على الكرسي، وعينيه متسمرة على الناس اللي بترقص على المسرح. جنبه واحدة لابسة فستان لامع يظهر أكثر مما يخفي، بتحاول تلفت انتباهه بابتسامة مغرية.
جاد: (يضيق عينيه ويبتسم بمكر) الليلة دي غريبة... فيها حاجة بتخليني عايز أنسى كل حاجة.
الست: (تقرب منه وتميل بجسمها) أنسى؟ الرجالة زيك ما بيعرفوش ينسوا بسهولة، شكلك بتحاول تهرب من حاجة.
جاد: (يرشف من كوباية المشروب ويضحك بسخرية) أهرب؟ ممكن. أو يمكن أنا بس بدور على لحظة متعة... من غير أي قيود.
الست: (بجرأة وهي بتبصله) إنت متجوز؟
جاد: (يضحك بخفة ويبص في كوباية المشروب) متجوز؟ كلمة كبيرة دي. خلينا نقول... مرتبط بواجب.
الست: (تحط إيدها على كتفه و تقول بدلع) يبقى الليلة دي إنت راجل حر.
جاد: (يبصلها بابتسامة ماكرة) دايمًا حر... حتى لو فيه قيود.
(يقطع كلامهم صوت ضحك عالي جاي من ناحية تانية في البار. جاد يلتفت للصوت ويرفع كوباية المشروب بتحية لصاحبه اللي قاعد على ترابيزة بعيدة.)
جاد: (بنبرة لا مبالية) على فكرة، إنتي شايفة إن السعادة بتيجي لما الواحد يتحمل المسؤولية؟
الست: (تضحك بمياعة) السعادة؟ السعادة تيجي لما الواحد يعيش اللحظة... زي دلوقتي بالظبط.
جاد: (يبتسم ويقوم من الكرسي، متوجه لمنصة الرقص) أهو ده اللي كنت بدور عليه... لحظة ما تخلصش.
(الست تمشي وراه وهو يكمل ليلته وسط الضحك والمزيكا، ناسي تمامًا مراته وعياله اللي سايبهم في بيت بعيد، مستنيين أب يحتويهم و يحسسهم بحنانه )
***********************
في فيلا ليلى الألفي ، في غرفة المعيشة فسيحة ومزينة بذوق راقٍ، تضج بالهدوء الذي يعم المنزل بعد نوم الأطفال. سيليا تجلس على الأريكة وهي ترتدي ملابس منزلية أنيقة، تحمل كوبًا من الشاي بيدها وتبدو على وجهها علامات التفكير العميق. على الكرسي المقابل تجلس عمتها ليلى، امرأة في منتصف العمر، بثوب بسيط ونظرة حنونة لكنها قلقة. بجانب ليلى يجلس رائد، شاب في أواخر العشرينات، ملامحه تعكس الجدية والاهتمام.
ليلى: (بنبرة حنونة) سيليا يا حبيبتي، أنا شايفة الضيق في عينيكي... لكن الكلام اللي بتقوليه مش سهل. إنتي فعلاً قررتي؟
سيليا: (تضع الكوب على الطاولة وتنظر لعمتها بثبات) قررت، يا عمتي. كفاية اللي استحملته من جاد. لا حب، لا احترام، لا اهتمام حتى بأولاده. أنا تعبت من دور الضحية.
رائد: (يتكئ للأمام ويضع كوعه على ركبته) سيليا، أنا فاهم اللي إنتي حاسة بيه، وجاد تصرفاته لا تتغتفر... بس إنتي بتتكلمي عن خطوة كبيرة. التمثيل وعروض الأزياء؟ إنتي واثقة؟
سيليا: (تبتسم بسخرية) واثقة. جاد ما بيشوفش غير المظاهر. بيحب أي حاجة تلمع وتشد الانتباه. طيب، لو دي اللعبة اللي بيعرفها... يبقى أنا كمان هعرف ألعبها.
ليلى: (بتوتر) بس يا بنتي، المجال ده مش سهل. ومش مضمون، وكمان مش لايق عليكي ، أنتي بنت محترمة مش للحوار ده وجاد... هيعمل أي حاجة عشان يحبطك.
سيليا: (بنبرة مليئة بالتحدي) عشان كده، أنا مش هخليه يحبطن و على فكرة يا عمتو أنا مش بنت ليل ، همثل بس ، أنا طول عمري عايشة عشانه، ولعياله، وهو ما قدرش ده. دلوقتي دوري أثبتله إنه مش الوحيد اللي يقدر يكون محط الأنظار.
رائد: (ينظر إليها بإعجاب مخلوط بالقلق) واضح إنك مصممة. وأنا دايمًا جنبك، بس يا سيليا، خدي بالك. اللعبة اللي بتدخليها دلوقتي فيها مخاطر، وجاد مش سهل.
سيليا: (تبتسم بثقة) ولا أنا.
ليلى: (تتنهد) ربنا يهديكي يا بنتي... أنا عارفة إنك قوية، بس متنسيش إنك أم لثلاثة أطفال.
سيليا: (بهدوء، وهي تنظر باتجاه السقف) عشانهم، يا عمتي. عشانهم لازم يشوفوا أم قوية مش واحدة مكسورة.
رائد: (ينهض ويضع يده على كتفها) لو دي خطتك، يبقى أنا معاك. بس وعديني إنك هتبقي حذرة.
سيليا: (تضع يدها على يده وتنظر إليه بامتنان) وعد.
تتبادل سيليا ورائد النظرات بثقة، بينما ليلى تهز رأسها بخوف وحنان.
بعد صعود ليلى و رائد ، بقيت سيليا تجلس على الأريكة وحدها. في يدها صورة قديمة لعائلتها، تحتفظ بها منذ 6 سنوات منذ هروبها في ذلك اليوم ، تنظر في الصورة بصمت، وكأنها تسترجع لحظات كانت مفقودة. تبدو عيناها مليئة بالمرارة، تنهدت بشدة ثم بدأت في الحديث مع نفسها، عاتبة على عائلتها بطريقة لا تخلو من الحزن.
سيليا: (بصوت ضعيف، وهي تنظر إلى الصورة) إزاي، يعني إزاي قدروا يشكوا فيا؟ أنا اللي تربيت وسطهم، أنا اللي كنت كل حاجة ليهم... مش فاهمة لحد دلوقتي ليه شكوا فيا بالشكل ده.
(تأخذ نفسًا عميقًا، ثم تتابع بحزن)
سيليا: (بهمسات) لو كانوا شافوا الألم اللي أنا عشت فيه... لو كانوا حاسوا بيه... هل كانوا هيشكوا فيا؟ هل كانوا هيصدقوا كذبة واحدة من اللي كانوا بيقولها عني؟
(تمسك بالصورة أكثر، وكأنها تحاول أن تجد شيئًا مفقودًا فيها)
سيليا: (بغضب مكتوم) كانوا دايمًا يقولوا إني البنت المدللة، آخر العنقود. ليه دلوقتي لما كنت محتاجة لهم، هما مش موجودين؟ كانوا شايفينني قويّة، وكانوا بيقولوا إن مهما حصل أنا هكون دايمًا في أمان بينهم.
(تسكت قليلاً، عينيها مليئة بالدموع، ثم تكمل بحزن)
سيليا: (بصوت ضعيف) أمي، كنتي دايمًا بتقولي إنك لو احتاجتي حاجة، هتكوني موجودة. لكن ليه ما كنتيش جنبّي؟ ليه ما حاولتيش تدافعوا عني؟
(تنظر بعيدًا، وكأنها تراجع الأحداث في ذهنها)
سيليا: (بهمسات) أخواتي، كلهم كانوا فاكرين إني غلطت... لو كانوا جادين في حبهم ليّ، لو كانوا فعلاً أخواتي، ما كانوا يسيبوني أهرب كده. كنتوا تقدروا تلاقوني، كنتوا تقدروا تساعدوني لو كنتوا فعلاً حاسين بيا.
(تسكت، تعقد يديها معًا، وتظهر علامات الصراع في عينيها)
سيليا: (بصوت مكسور) كان عندكم فرصة تعيشوا معايا الحقيقة، لكن اخترتم إنكم تسمعوا كلام واحد، واحد بس. مش أنتم اللي كنتوا معايا، أنا كنت الوحيدة اللي كنت عايشة في الوجع ده، وحدي.
(تنهض وتتحرك في الغرفة قليلًا، وهي تكمل حديثها بصوت حازم)
سيليا: (بصوت حازم) كان المفروض تكونوا معايا في اللحظات دي، كان المفروض تدافعوا عني، مش تكونوا أول ناس تصدقوا الكذب. أنا مش هقدر أسامحكم على الشك ده، مهما حاولتوا.
(توقف للحظة، وتلملم نفسها كما لو كانت تستعد للمضي قدمًا في حياتها، ولكن الألم لا يزال في قلبها)
سيليا: (بصوت هادئ) مش هنسى، بس مش هخلي ده يقف في طريقي. الحياة مستمرة، وأنا هعيشها من غيركم
•تابع الفصل التالي "رواية قيود العشق (2)" اضغط على اسم الرواية