رواية فراشة المقبرة الفصل الحادي والثلاثون 31 - بقلم اسماعيل موسى
❋❋❋
ظلّت زهرة تراقب الرجل الذي أنقذها، تحاول أن تفهمه رغم أنه كان غامضًا كليالي القرية المظلمة.
لم يكن يتحدث كثيرًا، ولم يسمح لها برؤية وجهه أبدًا،حتى عندما أتى بالطبيب، كان حريصًا على إخفاء ملامحه، كأنه شخص من عالم الظلال.
بعد مغادرة الطبيب، بقيت زهرة تحدق في النار المتراقصة أمامها، بينما كان الرجل يجلس على مسافة، متكئًا إلى جذع شجرة داخل الكهف،بدا وكأنه ينتظر شيئًا.
— "إنت مين؟" سألت مرة أخرى، بصوت أثقل من قبل.
لم يجب. فقط استمر في سنّ سكينه بحركات بطيئة، وكأنها طقس مقدس.
— "أنت عارفني، مش كده؟"
— "ليه مش عايزني أرجع الوحدة الصحية؟"
— "لأنهم لسه بيدوّروا عليكي، والعمدة مش هيسيبك."
— "ليه؟"
رفع عينيه نحوها للحظة، لكنها لم تستطع رؤية سوى ظلام عميق خلف القماش الذي يغطي وجهه.
— "إنتِ اللي لازم تجاوبي على السؤال ده، مش أنا."
شعرت بقشعريرة تسري في جسدها، ليس بسبب البرد، ولكن بسبب طريقته في الحديث، كأنه يعرف أكثر مما يقول.
❋❋❋
مرّت ساعات دون أن يتحدث أي منهما، حتى كسرت زهرة الصمت:
— "إنت مش ناوي تقوللي اسمك حتى؟"
— "الاسم ملهوش قيمة هنا."
— "طب إنت منين؟"
ابتسم بسخرية، وكأن السؤال كان نكتة لم تفهمها،
يكفى ان تعرفى اننا لن نلتقى مره اخرى فى هذا العالم القاسى
— "أنتِ مش آمنة هنا، لازم تمشي."
— "وأروح فين؟"
— "برّه القرية زى ما عشتى كل حياتك، ارجعى بيتك فى القاهره
شعرت زهرة بغصة لم تكن القرية مكانًا جيدًا لكنها اعتقدت أن من الممكن أن تفعل شيء جيد
— همست زهره "ماينفعش، أنا لازم..."
— " لازم تعيشي، ده اللي لازم تعمليه." قاطعها بصوت حاسم.
— "بس أنا..."
— "زهرة، اسمعي كويس... العمدة مش بيقتل حد وخلاص،لو قرر يخلّص على حد، يبقى معناه إنه عارف إنه لو سبُه عايش، هيكون في خطر عليه."
ارتجفت يدها دون أن تشعر — "أنا... مش فاهمة."
— "لا، إنتِ فاهمة كويس، بس مش قادرة تصدقي."
— "إنت بتتكلم عن إيه؟"
وقف الرجل، سحب وشاحه ليغطي وجهه أكثر، ثم قال:
— "اللي حاولوا يقتلوكي، هيرجعوا تاني. بس المرة دي، مش هيسيبوا أثر."
— "طب وإنت؟"
توقف للحظة، ثم قال:
— "أنا... شغلي خلص."
— "يعني إيه؟"
لكنّه لم يجب،فقط التفت وابتعد، تاركًا وراءه أثر خطواته في الطين، وصدى كلماته في عقلها.
استنى ،أقف مكانك، انت مين وانقذتنى ليه؟
توقف الشاب فى مكانه، استدار تجاه زهره، انتى ليه رجعتى؟
فتحت زهره فمها بصدمه
لا دا انت بقا عرفنى كويس؟ وانا مش هتحرك من هنا غير لما اعرف انت مين وتعرفني ازاى؟
معرفكيش صرخ الشاب بصوت غاضب، ومش عايز اعرفك
روحى للمكان إلى جيتى منه
كملى حياتك مع والديكى استمتعى بحياتك، انتى بقيتى دكتوره قد الدنيا ما شاء الله
تنهدت زهره بحزن اكشف وشك انا عايزه اشوفك
عايزه اشوف الشخص إلى انقذنى من الموت
لو ما تحركتيش دلوقتى هيبقى كل إلى عملته ملوش لازمه
رجالة العمده فى طريقهم لهنا الوقت قدامنا قصير جدا
سلام يا دكتوره
❋❋❋
راقبت زهرة الرجل وهو يبتعد، جسده يذوب في ظلام الليل كما لو أنه لم يكن موجودًا من الأساس، شعرت برعشة تجتاحها، ليس فقط بسبب البرد، بل بسبب إحساس غامض بأنها لن تراه مجددًا.
حاولت الوقوف، لكن الألم كان أقوى منها،تحاملت على نفسها، وضغطت على جروحها، ثم نظرت حولها، تحاول استيعاب وضعها. لم يكن بإمكانها البقاء هنا.
لكن إلى أين ستذهب؟
استعادت كلماته في عقلها:
"اللي حاولوا يقتلوكي، هيرجعوا تاني. بس المرة دي، مش هيسيبوا أثر."
كان عليها أن تهرب. لكن الهروب بدون خطة يعني الموت بطريقة أخرى.
❋❋❋
بعد قليل، سمعت حركة في الخارج،تجمدت في مكانها، قلبها يخفق بقوة،خطوات تقترب، لكنها كانت بطيئة ومترددة.
حاولت البحث عن شيء تدافع به عن نفسها، لكنها لم تجد سوى كوب الماء الفارغ بجانبها.
ثم ظهر رجل عند مدخل الكهف.
لم يكن الرجل الغامض الذي أنقذها، ولم يكن أحد رجال العمدة. كان شخصًا آخر... شابًا في العشرينيات، بملابس متسخة ونظرة مذعورة في عينيه.
— "إنتِ... إنتِ زهرة؟"
— "إنت مين؟" همست، تحاول أن تبدو أقوى مما تشعر.
— "أنا... اسمي كريم بعتنى ليكى الشخص إلى انقذك
عادت القشعريرة تسري في جسدها، إذًا، لم يتركها تمامًا،لكنه لم يعد بنفسه، بل أرسل هذا الشخص بدلاً منه.
— "قال الشاب بخوف امرنى آخدكِ من هنا... بسرعة."
— هو فين ؟"
— "مشي خلاص."
شعرت بشيء يشبه الغضب يشتعل داخلها، لماذا يقرر لها ما يجب أن تفعله؟ لماذا يختفي فجأة ويتركها مع شخص غريب؟
لكن قبل أن تتمكن من التفكير أكثر، سمعا صوتًا في الخارج.
صوت محركات سيارات.
كلاهما تجمد. نظر كريم إليها بقلق، ثم قال بصوت منخفض:
— "لازم نمشي حالاً، رجالة العمده وصلو
❋❋❋
لم يكن لديها وقت للتفكير، تحاملت على نفسها، واستندت على كتفه، بينما خرجا من الكهف بحذر.
كانت السيارات تتحرك ببطء بين الأشجار، أضواؤها تخترق العتمة،كانوا يبحثون، يفتشون، يقتربون.
— " هنخرج ازاى ؟" همست زهرة، أنفاسها تتسارع.
— "في طريق بين الجبال، بس لازم نتحرك بسرعة."
لكن قبل أن يتمكنوا من التحرك، انطلقت طلقة نارية في الهواء.
توقفا فورًا، الدم يتجمد في عروقهما.
ثم جاء الصوت المخيف، الصوت الذي كانت تخشاه أكثر من أي شيء آخر:
— "دَوّروا هنا! البنت قريبة!"
كان رجال العمدة على بُعد خطوات منهم وكان على العمده على النزاوى يتقدمهم
•تابع الفصل التالي "رواية فراشة المقبرة" اضغط على اسم الرواية