رواية الفتاه التي حلمت ان تكون ذئبه الفصل الرابع والثلاثون 34 - بقلم اسماعيل موسى
ساد صمت ثقيل، وكأن الجدار الجليدي نفسه يتنفس مع كلمات الرجل المقنع. لم يكن هناك صوت سوى أنفاسهم المتسارعة، وضوء القنديل المرتعش يلقي بظلال مرتجفة على الجدار حيث يرقد الرجل المحبوس داخله.
رعد تقدم خطوة، يحدق في الملامح المنحوتة في الجليد. كان وجه ضرغام الثاني هادئًا، كأنه في سبات عميق، لكن هناك شيء ما في ملامحه بدا مألوفًا بشكل مقلق. لم يكن مجرد شبيه… بل كان صورة طبق الأصل.
ليلى كانت أول من كسرت الصمت: "إذا كان هذا ليس وهمًا… فمن الذي تحدثنا إليه في الخارج؟"
الرجل المقنع ضحك بصوت منخفض، لكن ضحكته كانت جافة كصوت الصخور حين تنكسر. "منذ متى تثقون بما ترونه هنا؟ هذا المكان لا يخضع لقوانينكم… إنه فخ. أنتم لا تبحثون عن ضرغام الحقيقي، بل عن خيال خلقته هذه الجبال."
ماجي نظرت إليه بحذر. "إذن، من يكون هذا؟"
اقترب الرجل من الجدار الجليدي، مرر أصابعه المعدنية على سطحه، فأصدر الجليد طنينًا غريبًا، كأن شيئًا خلفه بدأ يتحرك. ثم التفت إليهم، وقال بصوت خافت لكنه مشحون بالمعنى:
"هذا… هو ضرغام الحقيقي."
شعرت جود برجفة تسري في عمودها الفقري. "إذا كان هذا هو الحقيقي… فمن ذلك الذي تحدث معنا في الخارج؟"
الرجل أدار رأسه ببطء، وعيناه الحمراوان تألقتا بوميض شيطاني. "ظلكم."
ارتجف الهواء حولهم، وكأن الجدار الجليدي نفسه استشعر كلماته. ثم، دون سابق إنذار، بدأت التصدعات بالظهور على سطح الجليد، تمتد مثل عروق سوداء تنبض بطاقة غريبة. كان هناك شيء ما يتحرك في الداخل—ليس ضرغام فقط، بل شيء آخر… شيء لم يكن عليهم إيقاظه.
رعد أمسك بمقبض سيفه، وصرّ على أسنانه. "إذا كان هذا فخًا، فلماذا تأخذنا إلى هنا؟"
ابتسم الرجل المقنع، لكنه لم يرد، بل رفع يده، مشيرًا إلى شيء خلفهم. التفتوا جميعًا بسرعة—
لكن ما رأوه جعل الدم يتجمد في عروقهم.
كان هناك شخص يقف عند مدخل الكهف، متشحًا بالسواد بالكامل، لكن ملامحه كانت مألوفة جدًا… مألوفة حد الرعب.
كان ضرغام.
لكن ليس ذلك الذي في الجليد، ولا ذلك الذي التقوه في الخارج.
هذا كان مختلفًا.
عيناه لم تكونا بلون الفضة، بل بلون الليل نفسه، وكأنهما بوابتان مفتوحتان على الفراغ. جلده كان شاحبًا أكثر من اللازم، وشفتاه كانتا منحنية بابتسامة خالية من أي مشاعر بشرية.
قال بصوت هادئ، لكنه حمل في طياته ظلامًا لا يوصف:
"ألم أخبركم أنكم أغبياء بالمجيء إلى هنا؟"
لم يكن هذا ضرغام الذي بحثوا عنه.
كان هذا ضرغام الذي ضاع في الجليد منذ زمن بعيد.
وكان الآن… قد استيقظ.
تراجعوا خطوة غريزية، كأن وجود هذا "الضرغام" الجديد سلب الهواء من رئاتهم. حتى الرجل المقنع، الذي بدا غير مبالٍ طوال الوقت، أصبح صامتًا، وعيناه الحمراوان ثبتتا على القادم الجديد وكأنه يواجه شيئًا يعرفه مسبقًا.
رعد، رغم اضطراب أنفاسه، قبض على مقبض سيفه بشدة، لكن قبل أن يتمكن من سحبه، رفع ضرغام الغريب يده ببطء، وكأنه ينذره بعدم المحاولة.
"أنا لست عدوكم،" قال بصوت هادئ، لكنه كان يحمل صدىً غريبًا، وكأنه يخرج من أعماق الجبل نفسه.
ماجي لم تخفِ شكوكها، قبضت على خنجرها وقالت بنبرة حادة: "وهل يفترض بنا أن نصدقك؟"
ضرغام الغريب لم ينظر إليها، بل أبقى نظره مثبتًا على الجدار الجليدي حيث كان ضرغام الآخر لا يزال نائمًا. ثم قال ببطء، كما لو أنه يختار كلماته بعناية:
"ذلك الذي تبحثون عنه… كان يومًا ضرغام، لكنه الآن شيء آخر."
التفتت ليلى إلى الجدار الجليدي، حيث تشققت طبقة الجليد أكثر، وكأن شيئًا خلفه كان يحاول الخروج. قلبها انقبض، شيء ما في أعماقها أخبرها أن هذا ليس تحريرًا… بل كارثة تنتظر لحظة الانفجار.
"ما الذي تعنيه؟" سأل رعد، صوته حاد كالنصل.
ضرغام الغريب لم يرد فورًا. بدلاً من ذلك، تقدم إلى الأمام، حتى صار أمام الجدار الجليدي مباشرة، ثم مد يده ولمس سطحه بأصابعه الطويلة.
حدث انفجار.
لم يكن انفجار نار أو ضوء، بل طاقة خفية اهتز لها الكهف بأكمله. تراجعت المجموعة بسرعة، بينما انطلقت تشققات ضخمة عبر الجليد، كأن روحًا محتجزة في داخله بدأت بالصراخ.
ثم، ببطء، فتح ضرغام النائم عينيه.
لم يكن هناك بريق فضي في عينيه، ولا أي أثر للحياة الطبيعية.
بل كانت فارغة.
فارغة تمامًا، وكأنها بوابتان إلى العدم.
ثم، بدون إنذار، انهار الجدار الجليدي بالكامل.
رفعت جود ذراعيها لتقي وجهها من الشظايا المتطايرة، بينما سحبت ماجي خنجرها واستعدت. رعد، بدافع غريزي، أمسك بليلى وجذبها بعيدًا عن موقع الانهيار، بينما اهتزت الأرض تحتهم.
وحين هدأ كل شيء، نهض ضرغام الحقيقي من بين الأنقاض، عاريًا من أي أثر للجليد، لكنه لم يتحرك… فقط وقف هناك، منتصبًا، بينما جلده الشاحب يتوهج ببرودة غريبة.
ثم، دون أي تعبير على وجهه، قال بصوت لم يكن بشريًا تمامًا:
"أين… أنا؟"
نظر ضرغام الغريب إليه، ثم استدار نحو رعد وبقية المجموعة، وقال بصوت منخفض لكن محمّل بالتحذير:
"الآن… أصبحتم في مشكلة حقيقية."
ساد الصمت، لكنه لم يكن صمتًا مريحًا. كان ثقيلاً، محمَّلاً بشيء غير مرئي، كأن الهواء ذاته فقد توازنه. نظراتهم جميعًا كانت مثبتة على ضرغام، الذي وقف وسط الأنقاض الجليدية بلا حراك، عيناه الفارغتان تائهتان في العدم.
ثم، فجأة، انطلقت منه زفرة طويلة، كأنها أول نفس يسحبه منذ قرون.
رعد لم ينتظر أكثر. تقدَّم خطوة، قبضته لا تزال على سيفه، وسأل بصوت هادئ لكنه حذر: "هل أنت ضرغام؟"
لم يأتِ الرد فورًا. بدا وكأن ضرغام يحاول استيعاب السؤال ذاته، قبل أن يميل برأسه قليلًا، ثم قال بصوت غريب، منخفض كأنه صدى لعشرات الأصوات مجتمعة:
"ضرغام… هذا كان اسمي ذات يوم."
ماجي تبادلت نظرة حادة مع ليلى، التي بدت متوترة لكنها لم تتحرك. أما جود، فكانت تتراجع ببطء، ويداها تتحسسان رموز الحماية التي خطتها في ملابسها منذ زمن، كأنها تتوقع الأسوأ.
الرجل المقنَّع كان الأكثر هدوءًا بينهم. ابتسم تلك الابتسامة الباردة التي لم تحمل أي مرح، وقال:
"إذن، أنت لست ضرغام الآن؟"
ضرغام الجديد استدار إليه ببطء، حدَّق في عينيه الحمراوين، ثم قال بصوت أكثر وضوحًا هذه المرة:
"أنا أكثر من ضرغام… وأقل منه في الوقت ذاته."
كانت تلك الكلمات كافية لإشعال الشكوك.
ليلى تقدَّمت خطوة، عيناها تحدِّقان فيه بقوة، ثم قالت: "كفى ألغازًا! إن كنت تعرف من تكون، فقلها بوضوح."
نظر إليها ضرغام مطوَّلًا. ثم، في لحظة غريبة، ابتسم.
لكنها لم تكن ابتسامة عادية… بل شيء بارد، شيء جعل القشعريرة تسرح في جسدها كما لو أنها نظرت إلى شيء لا ينتمي إلى هذا العالم.
ثم قال بصوت خافت، لكنه اخترقهم كالسهم:
"أنا ضرغام… لكنني أيضًا ما تبقى منه."
تحجَّرت ملامح رعد. "ماذا تعني؟"
ضرغام لم يُجِب فورًا. بدلاً من ذلك، رفع يده ببطء، وأشار نحو الرجل المقنَّع. "سألتم عن ضرغام… لكنه ليس كيانًا واحدًا."
جود شحبت ملامحها. "ماذا تقصد؟"
أخفض ضرغام يده، ثم قال ببطء، كأنه يجرُّ الكلمات من ظلام بعيد:
"قبل قرون، ضرغام لم يكن مجرد ساحر… بل كان سجينًا هنا."
كانت الجملة كفيلة بجعل القنديل في يد رعد يرتجف، كأن شعلة النار نفسها تفاعلت مع الكلمات.
الرجل المقنَّع ضحك ضحكة منخفضة، لكنه لم يبدُ متفاجئًا. "وأخيرًا، الحقيقة تبدأ بالظهور."
ضرغام استدار إليه، وقال بصوت أكثر برودة: "وأنت كنت تعلم، أليس كذلك؟"
ماجي صاحت فجأة، وقد فهمت شيئًا: "أنتما… شخص واحد؟"
ضرغام الغريب لم يرد، بل اكتفى بالصمت. أما ضرغام الجديد، فرفع يده، ووضعها على صدره، كأنه يشعر بشيء ينبض داخله، ثم قال:
"كلا. نحن نصفان لشيء واحد… أو بالأحرى، لما كان ضرغام يومًا."
أخذ رعد خطوة أخرى للأمام، رغم التحذير الغريزي الذي اجتاح جسده، وقال بنبرة متوترة: "إذن… أنت لست كاملًا؟"
ضرغام أومأ ببطء. "أنا روحه… أما هو"—وأشار إلى الرجل المقنَّع—"فهو ظله."
عند هذه الكلمات، ارتفع هدير غريب من أعماق الكهف، كأنه قادم من شيء لم يفق بالكامل بعد. الجدران نفسها بدأت تهتز، وكأن شيئًا آخر، شيء أكبر، كان يستيقظ.
الرجل المقنَّع ضحك مجددًا، لكنه هذه المرة لم يكن يحاول إخفاء شيء. "إذن، حان الوقت أخيرًا."
رعد، ليلى، ماجي، وجود كانوا في حالة تأهب قصوى. كان هناك شيء مروع يحدث هنا، شيء لم يكونوا مستعدين له بالكامل.
رعد قبض على سيفه بقوة، ثم قال بصوت منخفض، موجِّهًا كلامه إلى ضرغام الجديد:
"إن كنت بالفعل روحه… فماذا حدث لك؟"
ضرغام لم يرد على الفور. بل نظر إلى يديه، وكأنه يراها للمرة الأولى، ثم قال ببطء:
"لقد تمزَّقت."
عند تلك الكلمة، انفجرت الأرض تحتهم
حين انفجرت الأرض تحتهم، لم يكن انفجارًا عاديًا. لم يكن هناك نار، لم يكن هناك صوت مدوٍّ، بل كان أشبه بانهيار نسيج الواقع نفسه. فجأة، وجدوا أنفسهم يسقطون… ليس إلى أسفل كما هو متوقع، بل إلى الداخل، إلى مكان آخر، كما لو أن الكهف ابتلعهم إلى بُعد مختلف.
---
عندما استعادوا وعيهم، كانوا يقفون في ساحة واسعة، أشبه بسراديب قديمة منحوتة في الجليد الأسود. جدرانها بدت وكأنها تتنفس، تتوهج للحظات ثم تعود للظلام، كأنها قلب نابض تحت الجليد. في منتصف الساحة، وقف ضرغام، أو ما تبقى منه، بجانب الرجل المقنّع. لكن الآن، لم يعودا منفصلين… بل كانا يتحولان، شيئًا فشيئًا، إلى كيان واحد.
رعد أمسك سيفه، مستعدًا لأي هجوم. "ما الذي يحدث؟"
ضرغام رفع رأسه، عيناه اللتان كانتا فارغتين في البداية بدأتا تكتسبان لونًا جديدًا… لونًا ذهبيًا مشعًا. عندما تحدث، كان صوته مختلفًا، أكثر تماسكًا، أكثر كمالًا.
"أنا لم أكن ممزقًا فقط، بل كنت محبوسًا هنا… حتى أتى الوقت المناسب لاستعادة نفسي."
جود نظرت حولها بحذر. "وأين نحن؟"
ضرغام رفع يده، وبإشارة منه، بدأ الجليد يتلاشى من حولهم، كاشفًا عن خريطة من الضوء، منقوشة على الأرضية الجليدية. كانت الخريطة تتغير، تتحرك، كأنها تعيد رسم نفسها في كل لحظة.
"هذا المكان ليس كهفًا… بل هو بوابة." قال ضرغام، وعيناه تحدقان في الخريطة المتوهجة. "بوابة إلى مملكة الجان."
ليلى حبست أنفاسها. "إذن… الأمير ريان هناك؟"
ضرغام لم يرد فورًا. كان يحدق في الخريطة، كأنه يبحث عن شيء محدد. ثم، بعد لحظة من الصمت، قال بصوت خافت لكنه محمَّل بمعانٍ ثقيلة:
"ريان لم يُختَطَف… بل أخفي."
ماجي رفعت حاجبها بريبة. "أخفي؟ ما الفرق؟"
ضرغام رفع يده مجددًا، وهذه المرة، انبثقت صورة أمامهم، صورة ضبابية لمدينة خفية بين الجبال، محاطة بجدران من ضوء أزرق متوهج.
"هذه هي مملكة الجان." قال بصوت هادئ. "لكنها ليست كما كانت. هناك شيء خاطئ يحدث بداخلها."
رعد ضيّق عينيه. "هل تعني أن الجان أنفسهم هم من أخفوا ريان؟"
ضرغام التفت إليه، ونظر إليه كما لو أنه يقيّمه لأول مرة، ثم قال ببطء: "بل أخفوه… لإنقاذه."
صمت ثقيل خيّم عليهم جميعًا.
جود كانت أول من تحدث. "إذا كانوا يحمونه… فلماذا لا يظهر؟"
ضرغام لم يجبها مباشرة. بدلاً من ذلك، مرر يده فوق الخريطة، فظهرت صورة أخرى—هذه المرة، كانت صورة لقفص من الطاقة، يحوم في الفراغ، محاطًا بظلال سوداء كثيفة.
"لأن هناك شيئًا… أو أحدًا… يبحث عنه أيضًا."
ماجي أدركت الأمر قبل الجميع، وقالت بصوت مشوب بالخوف: "تريد أن تقول أن هناك قوة أخرى… تسعى لأسره؟"
ضرغام أومأ. "ليس فقط أسره… بل تدميره."
ليلى شعرت بالقشعريرة تزحف على جسدها. "لكن من؟"
ضرغام لم يرد مباشرة. بدلاً من ذلك، التفت إلى الرجل المقنّع، الذي كان واقفًا بصمت طوال هذا الوقت. ثم قال له بنبرة أقرب إلى التحدي:
"حان الوقت لأن تخبرهم بالحقيقة."
الرجل المقنّع ضحك ضحكة قصيرة، لكنها لم تكن ساخرة هذه المرة، بل كانت مليئة بالحزن. ثم، ببطء، رفع يده إلى وجهه، وأزال القناع.
عندما سقط القناع على الأرض، انكشف وجهه الحقيقي.
كان يشبه ضرغام… لكن ليس تمامًا. كانت هناك اختلافات طفيفة، خطوط أكثر قسوة، ندبة طويلة تمتد من جبينه حتى ذقنه، وعيناه—رغم تشابههما مع ضرغام—لم تكونا حمراوين فقط… بل كان فيهما ظلٌ يتحرك، كأنه محبوس داخلهما.
ثم قال بصوت خافت لكنه اخترق السكون مثل السيف:
"أنا شقيق ضرغام."
كانت تلك الصدمة كافية لجعل الجميع يتجمدون في أماكنهم.
رعد حدّق فيه بذهول. "ماذا؟"
الشبيه لم يبتسم، بل نظر إليهم جميعًا بجدية قاتمة، وقال:
"اسمي غياث. وأنا… سبب اختفاء ريان."**
يتبع الفصل التالي اضغط على (الفتاه التي حلمت ان تكون ذئبه) اسم الرواية