رواية في ظلال الحب المفقود الفصل الخامس عشر 15 - بقلم مهجة
بين الغيرة و الصمت
تحرّكت الباخرة ببطء فوق النيل، كأنها تشق طريقًا بين الحنين والدهشة.
وقفت سُكرة قرب السياج، تتأمّل الماء المتلألئ تحت أشعة الشمس، والنسيم يعبث بخصلات شعرها.
قالت ملاك وهي تضحك:
- "أشعر و كأنني في فيلم قديم!"
ردّت سُكرة بخفة:
- "و أنا بطلة الفيلم بالطبع.."
بعد ساعاتٍ طويلة، وصلوا إلى العاصمة.
ركبوا السيارة التي كانت تنتظرهم، وفي الطريق، كانت عينا سُكرة ترسمان خريطة جديدة لذاكرتها: مبانٍ مختلفة، لافتات بالعربي والإنجليزي، وأشجار النيم تحرس الأرصفة بهدوء.
البيت كان حديثًا، ببوابة صغيرة وسور رمادي، ونوافذ زجاجية تُطل على حديقة بسيطة.
دخلوا وهم يجرّون حقائبهم، تعب السفر يثقّل خطواتهم، لكن الحماس يسبقهم إلى كل زاوية.
في المساء، كانت سُكرة ترتّب أغراضها في الغرفة.
السرير نظيف ومرتب، بملاءة بيضاء وزخارف ناعمة.
المكيّف يعمل بصوت خافت، ينشر برودته في الغرفة، ويمنح المكان راحة بعد حرارة النهار.
سمعت صوتًا مألوفًا في الخارج، وخرجت لتجد الجدة تقف عند الباب، تلبس ثوبًا أبيض بنقوش زرقاء، وعيناها تلمعان من الفرح.
ركضت إليها فورًا، وعانقتها بقوة، فيما همست الجدة بحنان:
- "كبرتِ يا بتّي... وبقيتي زي الورد البنفتح بعد المطر."
خلفها، وقف الجدّ مبتسمًا، يحمل كيسًا من الحلوى.
قال ممازحًا:
- "دي ليكم أنتو بس، لو ما لحقتوها، الجدة تاكلها كلها!"
ضحك الجميع، ودخلوا إلى المجلس.
جلسوا على الأرائك وتوزّعت الصحون الصغيرة، والضحكات كانت تدور بين الحديث عن البيت الجديد وذكريات السودان.
في تلك الليلة، نامت سُكرة على سريرها المريح، والمكيّف ينثر برودته الناعمة، وبجانبها ملاذ، تتبادلان الهمسات والضحك قبل النوم.
قالت ملاذ بهمس: - "تصوري لو بإمكاننا العيش هنا دوماً! "
فأجابت سُكرة، وهي تنظر إلى السقف:
- "أشعر و كأنّي... أعرف هذا المكان منذ زمن، حتى لو لم ازرع قبل الأن ."
وفي صباح اليوم التالي، استعدّوا للرحلة القادمة...
نحو المدينة التي تسكنها الذاكرة،
ونحو البيت الكبير...
حيث ستولد الحكايات القادمة.
انطلقت السيارة في صباحٍ مشمس، وكان الطريق بين العاصمة والمدينة طويلاً، لكنه مليء بالحكايات الصامتة.
خارج النوافذ، مرّت القرى الصغيرة، والأشجار المتناثرة، ووجوه الناس التي تبتسم للمارة كأنهم يعرفونهم.
كانت سُكرة تتابع الطريق بعينين متأملتين، وداخل قلبها شعور لا يُشبه شيئًا... مزيج من شوقٍ لا تدري مصدره، وراحةٍ لم تعتدها.
قالت اسيل وهي تتكئ على كتفها:
- "أشعر بأنّ في هذا البيت الكبير شيئًا مميّزًا ينتظرنا..."
ابتسمت سُكرة بهدوء، ولم تُجب. اكتفت بإمساك يد أختها، واستسلما معًا لصمتٍ دافئ.
---
عند الغروب، توقّفت السيارة أمام بوابةٍ حديديةٍ كبيرة، مطليّةٍ بالأزرق، نصف مفتوحةٍ وكأنها تنتظرهم منذ زمن.
فتحتها ليان مسرعة، تركض نحوهم بفستانٍ طويل، وجديلةٍ واحدة تتمايل خلفها.
صاحت من بعيد:
- "أخيرًا!"
نزلت سُكرة من السيارة، وابتسمت بعينين دامعتين، ثم ركضت نحو ليان واحتضنتها بقوة، كأنها تحاول جمع ما فات من أيامٍ في لحظةٍ واحدة.
قالت ليان، والضحكة تملأ وجهها:
- "كان بيت جدّتي موحشًا من دونكم... حتى زوج خالتي ياسمين،
كان يسأل كل يوم: متى سيصلون؟ متى سيجيئون؟"
دخل الجميع إلى البيت الكبير، وكان لصدى خطواتهم وقعٌ خاص، كأن الجدران تتنفس بعودتهم.
كان البيت قديمًا وأنيقًا، بسقفٍ مرتفع، ومراوحٍ كبيرةٍ تتدلّى من الأعلى، وغرفٍ عديدةٍ، تشعرك كل واحدةٍ منها بأنّ لها عمرًا وحكاية.
ركضت ملاك في الحوش، وضحكتها تتردّد بين الأشجار، بينما وقفت سُكرة وسط الدهشة، تتأمل المكان بعينين مملوءتين بانبهار.
قالت ليان، وهي تمسك بيدها:
- "الغرفة التي على اليسار ستكون لكم... لكن خمني من ستشاركك السرير!"
نظرت إليها سُكرة بشك، ثم قالت:
- "لا تخبريني..."
ضحكت ليان وقالت:
- "ملاذ، بالطبع! لم تستطع التنازل عنك حتى في السودان."
ضحكت سُكرة، وبدأت تتجول في أرجاء البيت بخطى بطيئة، تمرّر يدها على الجدران، وكأنّها تحفظها للذاكرة.
---
في تلك الليلة، اجتمع الجميع في الحوش، تحت سماءٍ مرصّعةٍ بالنجوم.
كان الهواء عليلًا، ورائحة الحطب تعبق بالمكان.
جلس الجدّ على كرسيّه المعتاد، بينما كانت الجدة تحضّر الشاي، وأصوات الحديث تتداخل بين الضحكات والمزاح اللطيف، ومحادثاتٍ لا تنتهي.
رفعت سُكرة رأسها نحو السماء، وابتسمت:
- "أشعر وكأنّي وصلت أخيرًا... ليس فقط إلى المكان، بل إلى جزءٍ منّي كنت أفتقده."
في صباحٍ اليوم التالي كان الجو مشمس للغايه، حيث كانت الشمس تبعث بأشعتها الذهبيّة على حديقة البيت الكبير، تجمع الجميع في الحوش يتبادلون الحديث. في الزاوية، كان طارق يجهّز اللعبة الجديدة التي سيخوضها الجميع. قال بنبرة حماسية:
- "الليلة، بنات ضد أولاد! واللي يقدر يوصل للسرير في الحوش قبل ما يلقوه، يعتبر فائز!"
أضاف وسيم وهو يبتسم:
- "والشروط بسيطة! البنات يختبئون، نحن نبحث عنهم! ولو قدروا يوصلوا للسرير، فوز كامل!"
ضحكت ليان وقالت بسرعة:
- "سنفوز بكل تأكيد، لأننا أكثر براعة في الاختباء!"
بينما بدأ الأولاد يعدّون بسرعة، ابتعدت ليان وسُكرة عنهم بهدوء، وكأنهما كانا يتحضرّان لمهمة عسكرية. قررتا أن تختبئا خلف إحدى الأشجار الضخمة في الحوش، على أمل الوصول إلى السرير المخصص في الركن البعيد من الحوش.
عندما بدأ طارق العدّ:
- "واحد... اثنان... ثلاثة..."
أخذت سُكرة نفسًا عميقًا وأشارت لليان:
- "هيا، ننتقل الآن! نحتاج أن نكون أسرع من الأولاد."
ركضتا سريعًا في اتجاه السرير، بينما الأولاد بدأوا بالبحث في كل زاوية من الحوش.
لكن بينما كان أدهم، الذي كان جزءًا من الفريق البحثي، يمسح المكان بنظراته، لاحظ شيئًا غريبًا. كان مؤيد، الذي انضم إليهم صباح اليوم، يراقب سُكرة بنظراته غير واضحة، متابعتها بعينين مليئتين بشيء لم يستطع أدهم تحديده. فجأة، شعر أدهم بلمسة غيرة غامضة تكاد تخرج من صدره، لكنه حاول أن يخفيها.
أخذ نفسًا عميقًا، لكن عينيه لم تفارقا مؤيد الذي كان يقف عند الزاوية البعيدة، يبتسم وهو يراقب سُكرة.
بينما كان يركض مع باقي الأولاد بحثًا عن الفتيات، لاحظ وسيم أيضًا نفس الشيء. كانت نظرات مؤيد تجاه سُكرة تتسرب بوضوح، مما أثار في قلبه مشاعر من الغضب التي لم يستطع إخفاءها.
حاول وسيم أن يشتت انتباهه عن ذلك، لكنه لم يستطع. نظرات مؤيد كانت تثير استفزازه، فاستدار إلى أدهم وقال بصوت منخفض:
- "أنتَ تلاحظ هذا، أليس كذلك؟ مؤيد، نظراته لسُكرة مش طبيعية."
أجاب أدهم بصوتٍ مبحوح:
- "ألاحظ، لكننا هنا في لعبة. المهم أن نركّز."
ثم استمروا في البحث. لكن بمجرد أن اقتربوا من السرير حيث كان البنات يختبئون، قرر الأولاد فجأة وقف اللعب.
- "خلاص، انتهت اللعبة!" قال طارق بنبرة متوترة. "ما في داعي نكمل، خلاص خلصت."
سُكرة التي كانت تقترب من السرير، توقفت فجأة، وواجهتهم بنظرة تعجّب. ثم نظرت إلى ليان وقالت:
- "ماذا حدث؟ لماذا توقفت اللعبة؟"
أجاب وسيم بسرعة، وهو يحاول إخفاء الغضب في عينيه:
- "لا نريد أن نلعب اليوم... يكفي."
قال أدهم وهو يبتسم محاولًا تهدئة الجو:
- "بالفعل، الأفضل أن نأخذ استراحة اليوم."
تحرك مؤيد نحو الباب وهو يبدو مترددًا قليلًا، ثم قال سريعًا:
- "يبدو أنني تأخرت. سأذهب الآن."
وعندما غادر مؤيد، سكت الجو في الحوش، وبدأت سُكرة تراقب الجميع بشيء من الحيرة. بينما كانت تفكر فيما حدث، اقترب منها أدهم وقال:
- "سُكرة، الأمور ليست كما تبدو. اللعبة توقفت لأنه... أحيانًا يكون أفضل للجميع أن يبتعدوا عن بعضهم، فقط للحفاظ على الأجواء."
نظرت سُكرة إلى أدهم، وعينيها مليئتان بالتساؤل، لكنها لم ترد، فقط ابتسمت برقة، وقالت:
- "حسنًا، إن كانت هذه رغبتهم... لكنني لم أفهم تمامًا."
ابتسم أدهم بهدوء، ثم قال:
- "أحيانًا، في كل مجموعة، هناك من يحتاج للابتعاد. لكن هذا لا يعني أننا لن نلعب مرة أخرى."
ثم تابعوا الحديث بهدوء، بينما استمر صدى اللعبة في أرجاء المكان، مع مشاعر غريبة تختبئ في الزوايا.
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية في ظلال الحب المفقود) اسم الرواية