رواية في ظلال الحب المفقود الفصل الحادي و العشرون 21 - بقلم مهجة
" سر بين السطور "
عاد الجميع إلى ديارهم بعد إجازةٍ حافلةٍ بالحنين والمواقف، عادت الحياة لتنساب بهدوئها المعهود، تستقر في مكانها كما تعودت عليه منذ البداية. رائحة البيت، ترتيب الغرف، ضجيج الإخوة، وهدوء الأم في المطبخ... كل شيء عاد إلى ما كان عليه
---
وفي صباح اليوم التالي، استيقظت سُكرة على صوت أمها تناديها برفق:
"سُكرتي، هيا حبيبتي، استيقظي... المدرسة بانتظارك."
فتحت عينيها ببطء، وهي لا تزال تحتفظ ببقايا حلمٍ جميلٍ لم تكتمل ملامحه، كل ما تتذكره منه أن أدهم كان هناك، يضحك، ويمدّ لها يده وكأنه يناديها لمكانٍ لم تصل إليه بعد.
ارتدت ملابسها المدرسية على مهل، ضفرت شعرها كما اعتادت، ووضعت مشبكها الوردي الصغير، ثم أمسكت بحقيبتها، وهمّت بالنزول إلى الطابق السفلي.
في المطبخ، كانت رائحة الخبز المحمّص تعبق في المكان، وأصوات إخوتها تختلط بالضحكات والطلبات المتكررة. جلست إلى المائدة، تأكل بصمتٍ، بينما عيناها تسرحان من نافذة المطبخ، وكأنها تبحث عن وجه مألوف وسط الزحام.
أسيل، الأخت الكبيرة، نظرت إليها بطرف عين، ثم ابتسمت بخبث وقالت:
"سُكرة... تبدين حالمة هذا الصباح، هل رأيتِ فارس أحلامك في المنام؟"
احمرّ وجه سُكرة، فخفضت رأسها بسرعة، وانشغلت بلقمتها، بينما ملاك قالت برنة ضاحكة:
"لا أحد يقدر على سُكرة... تحفظ أسرارها كما تحفظ أسماء دُماها."
نهضت بعدها وودّعتهم جميعًا، ثم خرجت برفقة إخوتها للمدرسة.
مرّت أيام الأسبوع الأولى ببطء، وكأن الزمن يتثاءب كسلاً. كانت تتابع دروسها وتشارك في أنشطتها، لكن بداخلها كان ثمّة شيء جديد... شعور ناعم يشبه النسيم، يزور قلبها كل ليلة ويجلس بصمت في زاوية روحها.
كل مساء، كانت تجلس على سريرها، تضم وسادتها، وتسرح بخيالها في تفاصيل صغيرة من ذاك الصيف القصير، حين كان أدهم هناك، يشاركهم الضحك، والمشاكسات، والأحاديث العائلية.
رسمت في دفترها صورة لطفلين يجلسان تحت شجرة، أحدهما يقدّم للآخر علبة شوكولا. كتبت تحتها: "هل تتذكّرني حين تغيب الوجوه؟"
لم تكن تعرف إن كان أدهم يفكّر بها كما تفكّر به، لكنها كانت سعيدة بهذا السر الجميل الذي لا يعرفه أحد سواها.
وفي إحدى الليالي، سمعت أمها تحدّث والدها في المطبخ:
"هل أخبرك مهند أن عائلة محمود قد يزورونا قريبًا؟ يبدو أن لديهم عطلة قصيرة."
اتسعت عينا سُكرة، قلبها خفق كأنما سمع لحنًا طال انتظاره، وابتسمت دون أن يشعر بها أحد.
كانت لا تزال طفلة... لكنها بدأت تعرف معنى أن يشتاق القلب، ولو بصمت.
---
مرت الأيام وتسلل الروتين من جديد إلى كل زاوية في بيتهم. سُكرة كانت تفيق كل صباح على صوت أمها، تذهب للمدرسة، تعود في الظهيرة، تأكل، تدرس، وتلعب قليلًا... ثم تنتظر حلول الليل.
كانت تحب الليل مؤخرًا، ليس لأنه هادئ فقط، بل لأنه صار موعدًا لطقسها الخاص: الجلوس على سريرها، مدفونة تحت بطانيتها الخفيفة، تمسك دفترها وتبدأ بالرسم... رسم سيناريوهات لا تحدث إلا في خيالها.
مرةً ترسم نفسها تمشي بجانب أدهم في حديقةٍ واسعة، يضحكان، يركضان، ويتقاسمان علبة بوب كورن.
مرةً أخرى، تكتب حوارًا بينهما:
"أدهم، هل ستعود قريبًا؟"
فيجيب بخطها: "دائمًا قريب، فقط أغمضي عينيك."
فتبتسم وتغلق الدفتر، وكأنها اقتنعت تمامًا أن تلك الإجابة حقيقية.
بدأت تهتم أكثر بمظهرها في المدرسة، تسرّح شعرها بعناية، تختار مشابكها بدقة، وتطلب من ملاك أن تختار لها من بين قلائدها الطفولية الأجمل.
وحين سألتها ملاذ ذات يوم:
"سُكرة، لمن تزينين نفسك هكذا؟!"
ضحكت بخفة وقالت:
"لنفسي... أحب أن أبدو جميلة حين أنظر في المرآة."
لكن قلبها كان يعلم أن الإجابة الحقيقية محفوظة في صفحات دفترها، في رسمةٍ لأدهم يبتسم لها تحت غصنِ شجرةٍ خضراء.
ومع كل ليلة تمر، كانت تتعلق بشعورها أكثر.
ليس لأن أدهم وعدها بشيء، ولا لأنه قال شيئًا صريحًا... بل لأن لحظاتهما الصغيرة، النظرات، الضحكة، وحتى الغيرة الخفيفة التي رأتها في عينيه... كانت كافية لتزرع في قلبها حلمًا ناعمًا، لا تُريد له أن يذبل.
ومع ذلك، لم تخبر أحدًا.
لا أسيل، ولا ملاك، ولا ملاذ.
كان هذا السر الصغير هو أغلى ما تملكه.
ذات مساء، بينما كانت ترتب أشياءها وتضع دفترها تحت الوسادة، همست في الظلام:
"أدهم... هل تذكرني كما أذكرك؟"
ثم أغمضت عينيها، وابتسمت.
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية في ظلال الحب المفقود) اسم الرواية