رواية في ظلال الحب المفقود الفصل الثاني 2 - بقلم مهجة
في ظلال الحب المفقود
نزلت الأم من السيارة متجهة نحو باب المنزل الذي توقفت العائلة أمامه، بعد نقاش قصير دار بينها وبين زوجها. أعقبته توجيهات معتادة وجهتها الأم لأبنائها بعدم مغادرة السيارة قبل أن تأذن، وإن سُمح لهم، فعليهم التصرف بهدوء واحترام. كانت هذه النصائح تتكرر دائمًا عند زيارة الأقارب، حتى بات الأطفال يحفظونها عن ظهر قلب.
في المقعد الخلفي، كانت سُكرة تحدق في شجرة ضخمة تقف شامخة أمام المنزل. بدت لها بحجم مبالغ فيه، فتساءلت في داخلها: هل هذه الشجرة كبيرة فعلًا؟ أم أنها فقط صغيرة للغاية؟ وبينما كانت تطل برأسها من نافذة السيارة غارقة في تأملاتها، لاحظت قطة تحدق بها بعينين مفترستين. شعرت سُكرة بالقلق، إذ بدت تلك القطة وكأنها ترى فيها دجاجة مشوية لا أكثر!
نظرت الطفلة إلى قميصها البنفسجي، المزين بصورة "تويتي" الكرتوني الشهير، ثم إلى بنطالها الأسود، وحين أدركت الرابط، أسرعت بإغلاق النافذة وأعادت رأسها إلى الداخل، ملامح وجهها ممتلئة بالخوف. انفجرت أختها ضاحكة وقالت بسخرية مرحة: "لا تخافي، هي فقط ستلتهم تويتي، أما أنتِ فلن تطيق طعمك!"
حاولت سُكرة الرد بتهكم، لكن خوفها ما زال واضحًا. تدخّل والدها ليطمئنها بصوت هادئ، ما إن سمعته حتى قفزت إلى المقعد الأمامي وجلست بجانبه، ممسكة بيده الصغيرة تطلب الأمان. لم تمضِ سوى لحظات حتى اخترق أذنها صوت بكاء نسائي قادم من داخل المنزل. عرفت فورًا أن أحد الصوتين يعود لوالدتها، أما الآخر فلا بد أنه صوت خالتها، التي طالما سمعت عنها من الجدة.
طال البكاء قليلًا، قبل أن يقترب رجل طويل القامة، أسمر البشرة، عريض المنكبين، يحمل في عينيه الصغيرة شيئًا من الطمأنينة. ما إن رآه الأب حتى ترجل من السيارة وعانقه بشوق واضح. وبعد لحظة، أشار إلى بناته بالنزول.
تقدمت سُكرة وهي تمسك بطرف ثوب والدها، مختبئة خلفه بخجل. طلب منها والدها أن تلقي السلام على "عمها"، فنظرت إليه بدهشة، قبل أن يوضح الرجل الضاحك بأنه زوج خالتها، لا شقيق والدها. كانت هذه أول مرة تراه فيها، فعرفته بنفسها بابتسامة خجولة، ليبادلها التعارف بودٍّ وابتسامة دافئة.
دخلت الفتيات إلى المنزل واحدات تلو الأخرى، تتقدمهن ملاك، ثم ملاذ، في حين لحقت بهن سُكرة بخطوات مترددة. الباب بدا ضخمًا أمام أعينها الصغيرة، مطليًا باللون البني، ويحمل طابعًا كلاسيكيًا. عند المدخل، وقفت امرأة ثلاثينية بملامح قريبة الشبه من والدة سُكرة، مرتدية جلابية زرقاء ووشاحًا أسود يغطي شعرها. كانت تلك خالتها، التي ما إن رأت ملاذ حتى احتضنتها وقبلتها بحرارة، كما تفعل الأمهات. وها هنا، تحققت مقولة: "الخالة أم."
احتضنت الخالة سُكرة بنفس الحنان، ودموعها تبلل خديها. تحدثت معها بابتسامة مشعة، وسُكرة بدورها بادلتها طفولية محببة، مؤكدة أنها لم ترها من قبل، لكنها تشبه والدتها كثيرًا. ضحكت الخالة على كلام الصغيرة، وأجابت بلطف يليق بمقام العائلة.
عند سؤالها إن كانت تملك أطفالًا، أجابت بالإيجاب، فقفزت سُكرة بحماس، متحمسة للقاء أبناء خالتها وقضاء الوقت معهم. توجهت الغرفة التي سبقتها إليها ملاذ، وبدأت مع أخواتها استكشاف المكان. كل شيء كان جديدًا، التفاصيل، الألوان، وحتى البرودة المنبعثة من المكيف.
دخلت أولًا أروى، أكبر بنات الخالة، تلتها رهف، ثم ليان، الأصغر بينهن. بدا على سُكرة قليل من الحذر في البداية، لكنها سرعان ما انسجمت معهن. ليان تحديدًا كانت قريبة منها في العمر، خجولة، لكن مليئة بالحيوية.
في الغرفة المجاورة، كانت ليان تتحدث مع شقيقيها، أدهم وأيهم، محاوِلة إقناعهما بإلقاء التحية. بدا أدهم رافضًا للفكرة، لكن حين هددت ليان باللجوء إلى والدها، اضطر الشقيقان إلى الخروج.
دخل أيهم أولًا، مرحًا، وألقى التحية بسلاسة. أما أدهم، فتوقف عند سُكرة، ونظر إليها نظرة غريبة أربكتها قليلًا. مدت يدها لمصافحته لكنه لم ينتبه لها، حتى نبهته أخته أروى. اعتذر وعرّف بنفسه، وأبدى إعجابه باسمها، مما أثار دهشتها، فسألته كيف عرفه. أجابها بأن ليان هي من أخبرته، فأشاحت بوجهها بخفة، تحاول كتمان ارتباكها الطفولي.
لاحقًا، دار حديث بين الفتيات حول ترتيبات النوم، إذ رغبت ليان في أن تنام بجوار سُكرة، ما أثار اعتراض ملاذ. ولكن خالتهن تدخلت وحسمت الموقف: ستنام هي وأختها - والدة سُكرة - في غرفة واحدة، فيما ينام الأب وزوج خالته في غرفة الأولاد، أما البنات، فسيشاركن السرير الكبير معًا.
توجه الجميع بعد ذلك لتناول العشاء. كانت المائدة مليئة بالأصناف الشهية، لكن الأجمل منها كان دفء الجو العائلي. تناثرت الضحكات، وتلاشت أي مشاعر غربة. ساد شعور بالحب والانتماء، وجعل الليلة الأولى في بيت الخالة ذكرى لا تُنسى.
ومع اقتراب منتصف الليل، بدأ التعب يتسلل إلى الصغار. وما إن غفت العيون، حتى غمرت السكينة أرجاء المنزل. هدأ كل شيء، استعدادًا ليوم جديد مليء بالمفاجآت.
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية في ظلال الحب المفقود) اسم الرواية