رواية في ظلال الحب المفقود الفصل الثالث 3 - بقلم مهجة
ظلّ الشعور
استيقظت سُكرة على صوت زقزقة عصافير غريبة لم تعتدها من قبل. فتحت عينيها ببطء، نظرت حولها، فوجدت نفسها محاطة بوجوه نائمة وملامح هادئة. كانت ليان قد التصقت بها وكأن بينهما صداقة تعود لسنين، وملاذ ما زالت تمسك بيدها رغم كل اعتراضها في الأمس.
تسللت سُكرة من السرير بهدوء، تخطو بخفة وكأنها تلعب "الغميضة" مع النوم نفسه. خرجت من الغرفة إلى الممر الطويل، الذي أضاءه نور الشمس المتسلل من النوافذ. في نهاية الممر، سمعت صوت الملاعق تُطرق على الصحون، وضحكات خافتة... يبدو أن أحدهم قد استيقظ قبلها.
دخلت إلى المطبخ بخجل، لتجد خالتها وأمها جالستين معًا، يتناولن القهوة ويتبادلن الأحاديث والذكريات. ما إن رأتها خالتها حتى فتحت ذراعيها قائلة:
"صباح الخير يا قمري! أاستيقظتِ باكرًا؟"
أجابتها سُكرة بابتسامة نصف نائمة:
"الطيور هي من أيقظتني."
ضحكت أمها وقالت:
"سُكرة دائمًا تربط الأشياء بأفكارها الخاصة. كانت تقول إن القمر يغار منها لأنها جميلة."
ضحكت خالتها وقالت:
"حقًا؟ إذن، سأنتبه من غيرته الليلة!"
جلست سُكرة بينهما، وضعت رأسها على كتف أمها، وسألت بصوت طفولي:
"خالتي، هل ستأخذيننا في نزهة اليوم؟"
ابتسمت خالتها وقالت:
"في الحقيقة، هذا ما كنا نتحدث عنه للتو. سنذهب جميعًا إلى مزرعة قريبة من هنا، فيها نخيل وأرجوحات، وأهم شيء... نهر صغير."
فتحت سُكرة عينيها بدهشة:
"نهر؟ مثل الذي في القصص؟"
هزّت خالتها رأسها مؤيدة:
"تمامًا."
وبدأ البيت يدب فيه النشاط تدريجيًا. استيقظ الجميع، وملأت الحركة الممرات، وعادت الضحكات تدفئ الأجواء. بدا اليوم عاديًا، لكنه كان يحمل في طياته بداية ذكريات ستبقى في القلب طويلًا.
كان الطريق إلى المزرعة مليئًا بالأحاديث المتداخلة، وضحكات البنات، وأغاني قديمة وضعتها خالتها في السيارة، رددها والد سُكرة وخالها محمود بنصف صوت وضحك متقطع. جلست سُكرة بجوار ليان التي أمسكت بيدها كأنها صديقتها القديمة، تتبادل معها النظرات والهمسات.
حين وصلوا، فتحت خالتها باب السيارة قائلة:
"هنا تبدأ المغامرة!"
نزل الأطفال بسرعة، وكأن أقدامهم لا تلامس الأرض من شدة الفرح. كانت المزرعة واسعة، فيها نخيل طويل يلامس السماء، وأصوات طيور متداخلة بدت وكأنها ترحب بهم.
ركضت سُكرة مع ليان نحو الأرجوحة الكبيرة بين شجرتين. دفعتها ليان بخفة، ثم قالت:
"أريد أن أطير أكثر!"
ضحكت ليان:
"لو طرتِ أكثر، ستصطدمين بالغيوم، يا أم تويتي!"
جاء صوت أدهم من خلفهما:
"لا تطيري كثيرًا، تويتي خائف!"
نظرت إليه سُكرة وقالت:
"أأنت تغار لأنك لا تملك قميصًا عليه شخصية كرتونية؟"
أجابها:
"بل أملك، لكنني أخفيه لأنني ناضج!"
ضحك الجميع، ثم سحبها أدهم من الأرجوحة:
"دورك انتهى، دعيني أرجّح ليان."
وقفت سُكرة تراقبهم، حتى نادتهم خالتها:
"يا بنات، تعالينَ لنجمع الحطب لنشعل النار ونشوي الذرة!"
ركضن بحماس، يحملن الأغصان الصغيرة كأنها كنوز، وجلسن حول النار يشوين الذرة، بينما الكبار يتبادلون ذكريات الطفولة.
وفجأة، سألها أدهم:
"سُكرة، أتحبين أن تكبري بسرعة أم تفضلين أن تبقي طفلة طول حياتك؟"
نظرت إليه وقالت:
"أحب كوني طفلة... لأن الكبار يبدون متعبين، لكن إن كبرت، يمكن أن أصبح مثل خالتي."
ضحك:
"تعنين ذكية وحنونة وقوية؟"
أجابت:
"أعني أن يحبني الناس كما يحبونها."
قال بصوت خافت:
"أعتقد أنهم سيحبونك حتى أكثر."
شعرت سُكرة بدفء غريب، تجاهلت الشعور، وركضت لأمها تطلب ذرة جديدة.
بعد الأكل، اقترح خالها محمود جولة في المزرعة. تولى أيهم دور المرشد قائلاً:
"من يضيع، عليه أن يدفع لي ذرة!"
ضحك الجميع، وساروا في صف صغير. مرّوا على حوض البط، حيث نظرت بطة إلى سُكرة وكأنها تحييها. ثم مروا بأزهار برية، فاقترحت سُكرة أن يعيشوا هناك، كلٌ بدوره. ليان قالت إنها ستكون
"رئيسة القرية"،
فضحكوا جميعًا:
"الرايسة ليان!"
فجأة، صرخت رهف من خلف الأشجار. ركضوا ليجدوها تقف قرب كلب صغير مريض. هدأه أدهم، وقال خال محمود:
"سآخذه للطبيب البيطري، نسميه جاك؟"
هزّت سُكرة رأسها:
"يليق به... يبدو شجاعًا."
وقبل الغروب، التقطوا صورة جماعية، يصيحون:
"بطيخ!"
وفي طريق العودة، خيّم الصمت على السيارة. اتكأت سُكرة على كتف ليان، تغني همسات هادئة، بينما أدهم يحدق في الغروب، ثم قال:
"سُكرة... يوم مثل هذا، لا يُنسى أبدًا."
أجابت:
"لأن فيه أشياء تخلينا نحس إننا بخير... مثل المزرعة، ومثلكم."
همس أدهم:
"ومثلكِ."
بعدما وصلوا إلى المنزل ببضع ساعات ، بدأت رائحة الحناء تفوح من غرفة الجلوس، وكانت خالة سُكرة تضع النقوش على يد والدتها، بينما كان التلفاز على قناة القرآن الكريم يُتلى بصوت هادئ. أسرعوا لتبديل ملابسهم، ثم اجتمعوا حول الصينية، يأكلون العشاء وهم يتبادلون الذكريات.
كانت ليلة مليئة بالضحك، والمواقف، والأحاديث الصغيرة التي تُزرع في القلب...
لكن في قلب سُكرة، بدأ شيء آخر يكبر بهدوء... كأن المزرعة لم تكن مجرد نزهة، بل كانت البداية...
البداية لشيء لا تعرف له اسمًا بعد. شعور دافئ، مختلط بالدهشة والحنين، يشبه رائحة الحناء حين تمتزج بالمطر، أو نظرة طويلة من شخص لا يقول كل ما في قلبه.
وفي تلك الليلة، بعدما أُطفئت الأنوار وسكنت الضحكات، تمددت سُكرة في سريرها، تسترجع تفاصيل اليوم بكل حواسها. كانت ليان قد غفت سريعًا، وملاذ تتقلب في مكانها كعادتها، أما سُكرة... فقد كانت عيناها معلقتين بالسقف، تفكر في كل كلمة قالها أدهم، وفي نظراته التي لم تفهمها، لكنها شعرت بها.
قامت بهدوء، وخرجت من الغرفة بخطى خفيفة. كان البيت صامتًا إلا من صوت عقارب الساعة. مشت في الممر، لم تكن تعرف لماذا، لكنها وجدت نفسها تقترب من الصالة، حيث كان ذلك الكرسي الخشبي الكبير، الذي اعتاد أدهم الجلوس عليه. وفوقه... كان هناك دفترٌ صغير.
ترددت، ثم جلست بالقرب منه وفتحته.
كانت الكتابة بخط مألوف، غير مرتبة تمامًا، لكنها صادقة. قرأت سطورًا متفرقة:
> اليوم ضحكتُ من قلبي، هناك طفلة تجعل كل شيء يبدو أسهل. تقول إن القمر يغار منها، وأنا أصدقها.
> حين تكون حولي، يهدأ شيء بداخلي. لا أعرف كيف تُفعل هذا، لكنها تفعل.
> أحيانًا أظن أني أكتب لأتذكر لاحقًا كم كنت محظوظًا بلحظة مثل هذه... وبوجودها.
قلبت الصفحة، فوجدت رسمة بسيطة لزهرة، وتحتها كتب:
> بعض الأشياء لا تحتاج أن تُسمى... لأنها تُشعرنا بكل شيء دون أن تقول شيئًا.
ابتسمت سُكرة، وأغلقت الدفتر بهدوء، ثم أعادته كما كان. لم يفصح أدهم باسمها، ولم يذكرها بصراحة، لكنه... قال كل شيء.
عادت إلى سريرها، شعرت بقلبها ينبض بطريقة مختلفة. لم تكن تفهم كل ما يحدث، لكنها أدركت شيئًا واحدًا...
أن بعض الأيام لا تُنسى، وبعض الكلمات لا تُقال، لكنها تُحس.
ونامت وهي تبتسم، كأن الغد ينتظرها بمفاجآت أكثر دفئًا.
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية في ظلال الحب المفقود) اسم الرواية